صحيفة المثقف

كيف يستعيد الشعر جمهوره؟

حسين فاعور الساعديشعر د. ريكان إبراهيم نموذجاً

كان الشعر ديوان العرب فماذا حدث؟ لماذا هذا العزوف الجماهيري عن الشعر وعن القراءة أو عن الكتاب بشكل عام؟.

في قصيدته الأخيرة "الكتاب" يصف الشاعر ريكان إبراهيم وضع الكتاب وما آلت إليه الأمور بينه وبين القارئ العربي.

من هذه القصيدة الجميلة نفهم أن الكتاب فقد شعبيته حتى بين أفراد أسرة الكاتب الصغيرة. وهو واقع يعيشه غالبية الكتاب إن لم يكن جميعهم. يقول الشاعر في مطلع قصيدته:

"يا ضرة امرأتي

وسارق كل وقتي

من يديها

وعدوها من دون إعلان العداءِ"

الكتاب وما يتعلق به لم يعد ضرة الزوجة فقط وعدوها البغيض، بل عدو الأبناء والأخوة والأقارب والجيران. فلماذا؟ هل لأنه يسرق وقتهم كما صرح الشاعر؟ أظن ذلك. بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالشعر ذاته. قضية الوقت في هذا العصر هي قضية أساسية. فالناس كل الناس في عجلة من أمرهم. الجميع يركض، الغني يركض والفقير يركض. وإذا أضفنا إلى هذا الواقع ظهور وسائل التواصل الاجتماعية الالكترونية السريعة التي تستعمل اللغة المبسطة والقريبة من مستوى العامة التي لا تحتاج لأي جهد لفهمها تتضح لنا الصورة كاملة.

من هنا نفهم لماذا عزف المواطن العربي عن الكتاب ولجأ إلى الفيسبوك والتويتر والوتس أب والانستغرام وغيرها. ففي هذه الوسائل يجد ما يريد بلغته القريبة وحسب وقته: أثناء سفره أو في ساعة انتظاره في العيادة أو في المصرف أو في أي مكان آخر. في هذه المواقع يمكنه الوصول إلى الشعر والقصة والرواية أيضاً. فهل يحدث ذلك فعلاً؟ لا أظن. ففي الفيسبوك مثلا إذا نظرنا إلى متابعي قصيدة معينة ممتازة ومتابعي نكتة سمجة هابطة نجد أن متابعي النكتة والمعجبين بها والمعلقين عليها أضعاف أضعاف متابعي القصيدة. فلماذا؟ النكتة قصيرة والقصيدة طويلة، النكتة بلغة بسيطة وقريبة والقصيدة بلغة مركبة وبعيدة. مما خلق تهمة شعبية أن الشعر والأدب بشكل عام هو لغة المتعجرفين المتكبرين والبعيدين عن الناس. وخير رد على هؤلاء المغرورين هو إهمال لغتهم (كتبهم) والابتعاد عنها. ولتحقيق ذلك يتم بث مختلف الإشاعات حولها:

"لأنه أذكى ويعرف ما يسيء به إليها

يا لعبتي

يا أنظف الأشياءِ، لم يمسسهُ

فردٌ واحدٌ من أسرتي

فجميعُ أبنائي يكنّونَ العداوةَ للكتابِ

ويرونه سبباً لداء الاكتئابِ"

هذه اللغة الشعبية، السهلة الممتنعة، في قصيدة الدكتور ريكان إبراهيم وفي شعره بشكل عام تطرح السؤال الجوهري: كيف يستعيد الشعر جمهوره؟

في عصر السرعة، عصر لغة الفيسبوك الركيكة والشعبية نحن أمام مفترق خطير جداً يهدد علاقة الأجيال القادمة بلغة الضاد. فلغة الفيسبوك هي خليط من اللغة العامية والكثير من المصطلحات الأجنبية والمكتوبة في كثير من الأحيان بأحرف غير عربية. هذه المأساة التي تحل باللغة العربية يجب مواجهتها. ومواجهتها ليس بتقديم بديل أصعب بل بتقديم بديل أهون وأقرب إلى قلوب البسطاء وهو اللغة العربية السهلة الممتنعة التي تستطيع جذب البسطاء وغير البسطاء الذين لا وقت لديهم، وربما لا إرادة، للرجوع إلى قواميس اللغة لتفسير كلمة او عبارة واستيعاب معناها. هذا في الشكل فما بالنا بالمضمون. ماذا نتوقع عندما يكون المضمون غامضاً ويحتاج إلى الكثير من التفكير والاستنجاد بالقواميس لفك شيفرة رموزه والوصول إلى معناه. هذا الغموض في القصائد الجيدة هو الذي أبعد الجمهور عن الشعر. وإذا أضفنا إلى ذلك هذا السيل الجارف من القصائد الفارغة التي تلجأ للغموض من أجل ستر عورتها والتغطية على ضحالتها فإننا نفهم لماذا ابتعد الجمهور عن الشعر.

أمام هذا الواقع التعيس ليس أمامنا إلا البحث عن طرق ووسائل تجعل الشعر يستعيد مكانته ورونقه. هنالك عزوف عن الكتاب لأن الهاتف النقال أو الجوال، أصغر حجماً وأقل وزناً وتجد فيه ما تعجز ملايين الشاحنات عن حمله. وهنالك عزوف عن الشعر لأن ديوان العرب لم يعد ديوان العرب إذ أصبح لكل فرد ديوانه (هاتفه الجوال) ولكل فرد قهوته (ماكنة الإسبرسو) ولم يعد ينتظر صوت (دعوة) المهباج عند شيخ القبيلة لشرب القهوة.

الشعر هو صورة الواقع في نفسية الشاعر، ولغته هي لغة القوم بصورتها البهية والأنيقة. الشعر كأي فن لم يكن يوماً من الأيام غريباً أو مبهماً لبيئته. هذا الغموض أو الرمزية جاء ليتحاشى سيف وغضب السلطان. ولم يكن في يوم من الأيام أسلوباً أو هدفاً بحد ذاته إلا عندما لم يجد الشاعر ما يتحدث عنه. أو عندما رأى الشاعر نفسه من طينة أخرى غير طينة البسطاء ووضع نفسه في برج عاجي بعيداً عنهم. فكان رد فعلهم الابتعاد عنه كرد فعل.

الشاعر ريكان إبراهيم يخاطب القارئ بلغته ويستعمل في تصويره ما في البيئة من ألوان. يقول في إحدى قصائده التي تتحدث عن العملاء بأسلوب سردي شيّق:

"زارني في عيادتي ذات يومٍ

واحد من أكابر العملاءِ

قال لي:

"يا حكيم صرتُ أعاني

منذ شهر من الأسى والشقاءِ

صرتُ أبكي إذا تذكرتُ أهلي

أو تذكرتُ عندهم أصدقائي

يا حكيم الساعات تمضي ثقالً

وعذابي يجرني من ردائي

فبحارٌ من الهموم أمامي

وبحارٌ من الهموم ورائي"

قلت:

أبشر هذه علامة برءٍ

وخلاصٍ...

من عالم العملاءِ"

هذه اللغة الجميلة السلسة الجلية وبهذا الأسلوب السردي القريب من القلوب لا يمكن أن يكون الشعر بعيداً أو نشازاً أو مثيراً للغضب ومحفزاً على المقاطعة.

وما دمنا نبحث عن الأسباب لابتعاد الناس عن الشعر وعن الكتاب بشكل عام فلا بد من التطرق للسبب المادي. ففي عالمنا العربي الغالبية الساحقة من الشعوب العربية هي تحت خط الفقر وثمن الكتاب لا يتلاءم ومستوى دخل الفرد لذلك نجد الكثيرين يفكرون ألف مرة قبل إقدامهم على دفع ما في جيوبهم لشراء كتاب لأن ذلك سيكون على حساب شراء رغيف الخبز:

" يا مفرغاً جيبي

وهادم أمنياتي في الطعامِ وفي الشرابْ

يا أأمن الأشياء لا يغري بظهرهِ

اللصوصْ

مهما تضخم بالثمين من النصوصْ

فالناس أعداء الكتابْ"

هذه العداوة لم تأت من فراغ فقد اشتغل عليها المحتل المستعمر الأجنبي قروناً طويلة وأكمل المهمة من بعده هؤلاء النواطير الذي عينهم ليسدوا الفراغ وليحافظوا على مصالحه بعد انسحابه الشكلي. فالكتاب هو عدو الظالمين المستغلين يخشونه ويخافون منه لأنه يفتح عيون الناس وينبه عقولهم فيتحولون إلى مخلوقات لا يمكن الضحك عليها واستغلالها. لذلك نجد الرقابة المشددة في عالمنا العربي على كل ما ينشر. رقابة تفوق الرقابة على الأسلحة والمخدرات:

"يا متعب الرقباءِ قبل الطبعِ في حذفِ

المخيفَ من الكلامْ

يا جاعلاً حرس الحدود يشيرُ نحوي

باتهامْ

فيصير عنوان الكتاب هويتي بين الأنامْ

 

عبر الحدود تمرُّ أطنان التجارة والبضائعْ

إلا الكتابَ فإنه الممنوعُ من شتى المراجعْ

فيخيفُ حرّاس الحدودِ

وهم رجالٌ لا يخافون المدافعْ"

لماذا كل هذه المحاصرة للكتاب؟ لماذا كل هذا الخوف من الكلمة؟ ما يخافه السلطان هو أن يدمن الناس على القراءة. السلطان في رتبة ناطور أخشى ما يخشاه هو الكتاب لأن الكتاب إذا كان جيداً يحمل بين دفتيه النور الذي يكشف اللصوص والسارقين والمارقين. وهو نور يصيب من يتعامل معه بالإدمان:

"لولا اختلاف القصدِ شبهت القراءة بالوباءْ

فإذا تفشت في الشعوبِ غدا الكتاب لها غذاءْ

 

هذا الكتابُ مثقفٌ يمشي بلا أطرافهِ

هو أخرسٌ لكنْ يجيبُ إذا سألتَ كأنهُ يتكلّمُ

خجلانُ منكَ، كأنما أنت المعلّمُ،

وهو يصغي صامتاً يتعلّمُ"

هذه العداوة بين المواطن والكتاب مطلوبة ومخطط لها من قبل من داسوا على هذا الشعب سنيناً طويلة. وقد استعملت الإشاعات لإبعاد الناس عن الكتاب. فكم من زوجة أشاعت عن زوجها أنه "معقد" لأنه يقرأ كثيراً. وكم أسرة قالت عن ربها أنه "مخرب بيتنا" بما يكتب او يقرأ. كم من كاتب شُرّد من بيته بزعم أنه "خرب البيت" بكتاباته. وفي كثير من الأحيان يكون الأمر صحيحاً وليس مجرد إشاعة فكم من ابن تخرج ولم يجد عملاً بسبب كتابات والده. وكم من الأبناء أو البنات المبدعين لم يتقدم في عمله بسبب كتابات والده.

المستعمر البريطاني لفلسطين استعمل الإشاعات لقمع الثورة الفلسطينية عام 1936  فقد أشاع عن بعض الثوار المطاردين أنهم يأكلون لحم البشر ويغتصبون أو يأكلون كبد الإنسان الذي يصادفونه. وقد أطلقوا على احد الثوار الذين عجزوا عن القبض عليهم اسم "آكل الأكباد" . وقد انطلت هذه الإشاعات على البسطاء فخافوا من هؤلاء الثوار وتوقفوا عن التعاون معهم وإخفائهم.

لذلك حرص المستعمر وناطوره من بعده على إبعاد الناس عن الكتاب. وإن لم يكن بد من القراءة فليقرءوا الهابط والرديء لأن ما يقرأه الفرد له نتيجته المباشرة عليه وعلى شخصيته وتصرفاته:

"(للناس فيما يعشقونَ مذاهبُ)

والناسُ مختلفونَ فيما يقرأونْ

قل لي الذي تهوى قراءتهُ

أقلْ لك من تكونْ"

بهذه الحكمة العميقة يختتم الشاعر الدكتور ريكان إبراهيم قصيدته الرائعة. هذه القصيدة الهادفة بلغتها البسيطة الراقية والممتنعة، ككل قصائد هذا الشاعر المبدع، تساهم مساهمة كبيرة في جعل الشعر يستعيد مكانته وجمهوره الواسع. والمطلوب هو تعميم هذا النوع من الفن الهادف وإشهاره حتى يصل إلى القارئ المثقل بكوابيس الكتب الرديئة الهابطة التي جعلته يندم على كل قرش دفعه ثمناً لها في الوقت الذي كان بحاجة لهذا القرش لسد رمقه ورمق أطفاله.

***

حسين فاعور الساعدي

للاطلاع على قصيدة الشاعر في المثقف

.....................

الكتاب / د. ريكان ابراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم