صحيفة المثقف

أصولُ الثقافة الثوريِّة في القرآن (5)

مجدي ابراهيميظهر مفهوم الثقافة الثورية بجلاء ووضوح حين يتأسس في القرآن على الحركة الباطنة، تُحدِث تغييراً فعلياً في الوجود الإنساني، ولا تزال تتولاه بالرعاية والعناية فيما لو "استجاب" لحكمها، وقدّر حيويتها كونها صادرة من الملأ الأعلى، من الحق الذي خلق الخلق وأقدر في الإنسان تبعات التغيير. لم تكن ثقافة ثورية فاعلة، ولن تكون، إذا كانت "الاستجابة" فيها ضعيفة، أو معدومة، وإذا لم تكن قوة الحق هى القائدة، وإذا لم تنفصل فيها العقيدة عن التطبيق، والخطاب الأيديولوجي عن الممارسة الفعليّة، وإذا لم تكن موافقة العقل الواعي للعقل الباطن عملاً يتسق فيه الظاهر مع الباطن، والمخبَر مع الجوهر؛ والبرَّانيِّ مع الجُوَّانيِّ.

هنالك يصبح التوحيد في الذات الإنسانية علامة دالة على تلك الثقافة؛ لأن الثورة فيها باقية لا تتلاشى ولا تغيب، وما دامت باقية فلا يزال الوعي فيها حاضراً متنبّهاً لما يُرَاد منه، ولا تزال الذات الإنسانية متّسقة غير منقسمة، لا تشعر بالتمزق الداخلي، بل شعورها الدائم - مع الثورة وحضور الوعي - بالوحدة والاتساق. وليس أعجب عندي من أمة تدين بالتوحيد شكلاً ينقصه المضمون، ثم تتفرَّق وتنقسم في ذاتها فضلاً عن انقسام الشخص الواحد في ذاته وتفرّقه، فهل تنتظر منها غير الشعور الدائم بالاغتراب؟

لم تغترب الذات الإنسانية إلا لفقدان العنصر الثائر فيها وخمود الوعي. يُقالُ إننا قوم متخلفون! وهذا حق وصدق؛ إذْ المتخلف على الحقيقة هو الذي تخلفت عقيدته عن تمدَّه بمدد القوة والمضاء؛ لأنه كان ركنها على رفوف الإهمال والسّهيان، فلم يعد يذكرها إلا في المناسبات؛ لكأنها الزي الوثير يرتديه إذا أحتاج له، ويركنه لو لم يكن في حاجة إليه. صارت العقيدة بالنسبة له عادة ضمن عادات تعود أن يمارسها صباح مساء، هذا إذا هو ذكر العقيدة ذكره للعادات يمارسها بغير وعي بأشراط التغيير الذي تفرضه عليه ساعة قبوله، بالقناعة والإيمان، المبدأ العقدي اعتقاداً وممارسة، وينسى أو يتناسى أن التغيير الشامل الكامل، التغيير الجذري، يبدأ من العقيدة كفكرة مقبولة ارتضى قبولها، فهو من ثمَّ يرتضي فرائضها، طالما ارتضى من عندياته قبول المبدأ أولاً وأخيراً.

حقاً؛ من العقيدة يجيء التغيير، وهو لا يجيء إذا جاء نظراً فارغاً من محتوى المضمون العقدي الإيماني، ولكنه يجيء بلواحقه العمليّة التطبيقية، بثوراته التغييرية لكافة أنشطة الحياة يحياها الفرد ويحياها المجموع.

ثورة التغيير من العقيدة تنطلق، والعقيدة : تأمل الوحدة وممارسة الوحدة. والقرآن كتاب حياة، والحياة في رحاب القرآن : جلوس مع الله على بساط الفكرة في ميدان التوحيد.

على أن النُّصوص القرآنية صريحة غاية الصراحة، واضحة في هذا السياق لفظاً ومعنى، فإننا لو قلّبنا ما شاء لنا التقليب في كافة المباحث والآراء، وارتضانا ميادين التفكر التي أعتدنا أن نرتاض ميادينها أو التي لم نعتد ارتياضها، ونظرنا، فلن نجد بياناً أصرح ولا أوضح من هذا البيان، يصيب شغاف القلوب، فتمتلئ به طاقة الوجدان؛ ليدفعها دفعاً إلى العمل النافع بالقول وبالفعل : "إنَّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم" .. "ذلك بأنَّ الله لم يك مُغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم"؛ لكأنما سياق الخطاب يقول : أفلم تهد لكم سبحات عقولكم التي نظرتم بها وتفقهتم إلى اقتران مثل هذا الكلام بمطامح التغيير الواجب تنفيذه وتطبيقه في أرض الواقع حياة تُعاش، فيكون من أثر ذلك، أنها تجيء مثالاً للعقيدة الصحيحة وللسلوك القويم؟!

إنّما الإنسان يملك قدرة التغيير في نفسه وفي واقع الحياة التي يعيشها؛ إذا هو أراد ذلك وتمثَّله ثم نظر إلى الحياة التي تسفُل من حوله وتنحط، ووجد أن في هذه الحياة ضروباً لا حصر لها من أخلاط الأهواء مع الاعتقادات الفاسدة مع تحريف القيم وتبديل المعايير، وفق مصالح أربابها، إلى أسوأ ما تكون القيم متبذلة والمعايير منكوصة .. ماذا لو قام بتغييرها وفي التغيير حياة جديدة ودماء جديدة؟ أيكون ذلك نوعاً من العسف يظل يحيا آثاره وعواقبه ثم يبكي من بعدُ بكاء الأطفال على لعبة فُقِدت؟! غير أنه أجبن من أن يفعل هذا مع فقدان عنصر الثورة فيه.

وبما أن الثورة تبدأ من الداخل، من القناعة الباطنة؛ لتواجه في الإنسان ضميره الجُوَّانيِّ؛ لينفرد بالمواجهة دون أن يقابله صدود من فساد الأنا أو فساد الذات بعد صلاح واستقامة، فقد كان ألزم ما يلزم له أن يتثقف ثقافة ثوريّة، وأن ينطبع بذاته هذا التثقيف، وأن تكون الثورة شعلة موقدة في باطنه على الدوام لا ينطفئ لها اشتعال، لأنها نور الله وناره : نوره من حيث الهداية والاستبصار، وناره من حيث إضاءة الطريق وإنارته بالعلم والمعرفة ومجالي الشهود.

تكشف أصول الثقافة الثورية في القرآن عن فقر الفكر وفقر الواقع العلمي والعملي سواء، فإنّ القيمة الثورية عند كل مفكر أختار لنفسه طريق الثقافة إنما هى قيمة تصدُر من مدد الروح تدفعه إلى التغيير؛ تغيير مقومات الحياة وأنماطها في نفسه أولاً، ومن تغييرها في نفسه تتغير في نفوس الآخرين، وأنه لعجب شديد ما بعده عجب أن يمكث كل فرد منّا في صومعته يُناجي أوهام الذات بغير أن يخرج إلى الواقع يغيّره بالقول أو بالفعل. وأشدُّ من ذلك عجباً أن يروح الأساتذة في جامعاتنا ومعاهدنا العلمية، يردِّدون أفكاراً قديمة - ويا ليتهم يجيدون الترديد - يلقونها على الطلاب بسبيل التقليد والمحاكاة لمن كان قبلهم يُلقون ويرددون، مجرد اجترار سخيف، بغير أن يتحوَّل هذا كله إلى عمل نافع يتذوق الفرد منا ثمرته في دنياه وأخراه؛ الأمر الذي أفسد التعليم فساداً قلّ أن يعالج، وأفقد الغاية النافعة من طلب العلم كونه أهم قيمة في الحياة على الإطلاق. إنْ الواقع يفيض بتخلف الفكرة؛ لتخلف أصحابها، ويفيض في الوقت نفسه بتخلف الرأي والرؤية؛ لتخلف العقل الذي أفرزهما؛ فتنشأ التعاسة للفرد وللمجموع سواء؛ لأن هذا العقل لم يكن منذ البداية مُحاطاً بأصول الثقافة الثوريّة كما علمه إيّاها القرآن الكريم، تمكنه من فكرة يفرزها قابلة للتطبيق الفعلي، ومعمول بها في حركة الحياة يحياها هو كما يحياها غيره من أبناء جلدته وعشيرته.

ولم يكن الإنذار المحمدي بعيداً عن تجسيد تلك الثورة الفاعلة المغيرة؛ ثورة الخالد الباقي على الزائل الفاني؛ ثورة القيم الدينية الرفيعة التي ما إنْ تختفي من حركة الحياة إلا وتجد أنْ ليس للحياة بغيرها معنى ولا قيمة ولا جوهر ولا مضمون.  

ثورة الإنذار المحمّدي:

أقول؛ لن تجد ثورة في القرآن موصوفة بشدةِ "رد الفعل" وقوته في النداء الثائر للإنذار الذي قدَّمه محمد، صلوات الله وسلامه عليه، أقوى ولا أشدَّ ولا أدفع من هذه الثورة الكبرى التي جمعتها آيات الكتاب العزيز في صرخة عظمى من صرخات الوعى بالخصائص الذاتية للقرآن، ومنها بغير ريب خاصيّة الثورة على الأوضاع المقلوبة : ثورة التغيير الشامل بغير شك في هذا وبغير خلاف.

كان رد الفعل لاستقبال هذه الثورة محاطاً بالتنكر وطلب الاعجاز من المحالات ممّا يصبح رد الفعل فيه علامة دالة على الاستنكار القبيح في استقبال الثورات حتى ولو كانت هادفة لتحقيق الخير لبني الإنسان، ولكن الإنسان الجحود - لشيء ما ممّا قد ألفه واعتاده ولطبع ممّا خلصت إليه نفسه - لا يرضى ولا يستسلم للنداء الثائر: إنذاره الظاهر وخوافيه الباطنة، ولماذا؟ لأن مثل هذا النداء قد يتحوّل فيه، إذا هو أستجاب، من وضع إلى وضع، فتتغير بمثل هذا التحوُّل حياته كلها؛ من جذورها العميقة في الوجود إلى ظواهرها السطحية من عادات وتقاليد نشأ عليها، وتربىَ على أوهامها حتى تشكلت بها شخصيته؛ لتتغلل في أعماقها منابت الطلاح وتتجاوز معها مزارع الصلاح، فتترسّب من ثمَّ في وجدانه آفات الشرور والخبائث النفسيّة وخدائع المحظورات الخفيّة وآفات من الأمراض والأهواء ... إلى كثير من علائق وعوالق، ليس من اليسير عليه أن يتحلل منها؛ لأنها هى وشخصيته شيء واحد وفعل واحد وحركة واحدة ووجود واحد ... فأنَّى له أن يتخلى عن كل هذا أو بعضه، في سبيل نداء جديد؟ ناهيك عن أسباب أخرى متراكمة، بعضها أو كلها أكأد من بعض، تفعل فيه أفاعيل التصلب والجمود على التقليد المعتاد؛ ففضلاً عن التقاليد والعادات المرذولة التي نشأ عليها، فهو من جهة أخرى مشحون بعاطفة مُخلصة في الدفاع عن أوهامه وأكاذيبه، وهي بالطبع أوهام بالية وأكاذيب مُقفرة من الحياة كما ينبغي أن تكون الحياة روضة من رياض التقدّم والكمال، لكنه لا يرضى بشيء منها رضاه بالوهم السائر يُصوّره له الواقع الذي يعيش فيه على رذائل الخبث والختل والخداع، فهو من ثمّ أكثر ما يكون ثورة ثائرة مضادة إذا ما واجهته ثورة قويّة هادفة يتقرّر فيها التغيير والإصلاح، وهو أكثر ما يكون دفاعاً إذا ظهر في دنياه جديد ممّا عساه يُصلحها له بالقول أو بالفعل، كل طاقاته السالبة تتحرك، وقواه الباطنة مأمورة بالتنفيذ لما كان تقرّر سلفاً من مفعول القوة السالبة تلك التي جمَد عليها.

وإذا كان النداء الجديد فيه الجديد من الثورة المُغيرة لواقع الحياة من حوله، ولواقع النفس التي بين جنبيه قبل هذا، فهو لا يقابل مثل هذا النداء مقابلة البشاشة والترحاب بل يقابله مقابلة التنكر والجمود والصدود والكنود والاستخفاف؛ فإذا "رد الفعل" بمثابة ثورة مضادة أيضاً لكل إنذار ثائر، لكنها ثورة الباطل بإزاء الحق, وأمّا ثورة الإنذار في ذاتها، فهي ثورة الحق بإزاء الباطل. وبالمثل؛ فإنّ رد الفعل من أكثر الناس (وهو في ذاته يمثل ثورة الباطل) يجيء على مقدار الثورة القويّة في مثل هذا النداء الثائر (وهو في ذاته يمثل ثورة الحق). ولن تجد ثورة تتمثل في رد الفعل أقوى ولا أعتى من تلك الثورة التي صَوّرها القرآن في جحود أكثر الناس للبيان الإلهي : ثورة فيها عنف في الاستقبال، وعنف موازي في الصدود.

ولمَ يكون العنف ثورة قوية، ويكون الاستقبال أعنف ما يكون لهذه الثورة؟ والجواب : لأن النداء كان ثورة جذرية مُحققة، ولم يكن ثورة كأي ثورة، ولا ككل ثورة، بل كان ثورة تغيير جارفة، كان تبديلاً لقيم وعادات وأوضاع وأطماع؛ كان تحوّلاً من حياة إلى حياة، كان تمزيقاً لعاطفة الوجود الحي وهو في ذاته ميّت أشدّ أنواع الموات يحياه الإنسان ولا يرضى به بديلاً بين حيوات يعيشها في ظل ما كان اعتاده وجمد عليه جمود التقليد الأعمى.

وتستمر الثورة فاعلة نشطة مع طلاقة النَّص القرآني؛ لتتجاوز الزمان والمكان، إذ تخاطب في الإنسان ضميره الحي وقواه العقلية على مرّ الأزمان؛ فالإنسان القديم هو نفسه الإنسان الجديد من حيث هو إنسان، قناعاته هي نفس القناعات، واخفاقاته الروحية والمعنوية هي نفس الاخفاقات، وارتقاءاته العقلية والخُلقية هي عينها الارتقاءات؛ لا تتغير ولا تتبدل ولا يتحوّل فيها عنصر القبول ولا عناصر الرفض للقيم الدينية والإيمانية قيد أنملة إلا بمقدار ما تتحوّل نفسه، وترتقي روحه، وينفتح ضميره إلى توجُّهات الملأ الأعلى.

فلئن كان ألف فيما كان يراه من دنياه، ألواناً من واقع الحياة الحسيّة المطموسة، فهو لا يرى إلا ما هو ظاهر منها أمامه ومحسوس، ولا يشهد إلا ما يقع تحت رجليه، ولا يرتفع قيد أنملة عن الرؤية المُسطحة الجوفاء : المحسوس مأكله وملمسه، والمحسوس شهوته ولذته ومنسله، والمحسوس رؤيته ومسمعه وملمسه، والمحسوس رياض متعته الأوحد : تعامله مع كافة الأحياء من حوله. ومن أعجب العجب أن ينسى حق الخالق ويتعامل مع المخلوق، ينسى الأصل، ولا يعبد إلا فروعاً مخلوقة يقرّ لها بالوجود الحق ويواليها العبادة الحقة؛ وذلك لأنه أعتاد "التفرقة" بغير "جمع" يؤهله للارتقاء صعداً في مدراج التوحيد.

هنالك تصبح التفرقة تشتتاً وانفصاماً فيما تكثّر أمامه وتفرَّق؛ هى رؤية محسوسة لظواهر الوجود، ليس لها من الوعي الداخلي وجود؛ فالنظر لديه مُتَفَرِّق بما يعبد. وما عَبَدَ المُتفرِّق قط شيئاً حقيقاً بالعبادة، اللهم إلا أن يكون الوهم فيما يعبد، وفيما عساه يدين بالعبادة إليه، فهو إذْ ذَاَكَ موهومٌ في عبادته، أنزلها منزلة الوجود الحق، وتناسى عن عمد - أو عن غفلة - منزلة العبادة الحَقَّة يُوجّه إليها قلبه ويُرَقي معها سريرته ويدين لها بالولاء كل الولاء .. فأيّما رجلٌ كانت عبادته "حقانيّة"، فهو مع الرقيب على كل شيء، خالق كل شيء، متولٍ لكل شيء، بيد أنها الغفلة عن المعرفة هى التي تجعله بمقدار غفلته عن معرفة الله، يغفل من ثمَّ عن عبادته تعالى؛ فيعبد المالَ والجاه والمنصب والنفوذ، وكل ما يقع عليه بصره من طواغيت المتع الفانية في الحياة الدنيا.

من أجل ذلك؛ جاء النداء "ثورة" :" ذَالِكُمُ الله رَبُّكم، لا إله إلاَّ هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ فَاعْبُدُوُهُ، وَهُوَ عَلَىَ كُلِّ شَئِ وَكيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الأبَصَارُ وَهُو يُدْرِكُ الأَبصَارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ" (الأنعام : 102-103).

ومعالم النداء في ثورته العنيفة الحادة إنّما هي معالم روحانية، والخطاب فيها يكشف نظام الترقية إلى تلك المعالم؛ لكأنه يقول بأبلغ لسان : ليست هذه هي الحياة المرجوّة لكم، أنتم تعيشون في الوحل، والخطاب الثائر ينقذكم منه، ولا يرضى لكم حياة الدَّوُن في مستنقع آسن لا يعرف له مصيراً سوى مصير الجيف المُرِمّة. والفكرة فيه فكرة سامية عن أخلاط الحس وشوائب الملموس، بينما الصورة المحسوسة فيه تقريبية ليست هي كلية التوجه الرحيب نحو آفاق النداء. والأمثلة المضروبة للتقريب تتردد في النداء على أساليب وصيغ مختلفة يُرَادُ منها التقريب .. ولكن أين من يدرك؟! لا حياة لمن تنادي!

ليست الثورة مجرد عظة واعتبار يجريان في مناسبة عارضة أو في موقف عارض وكفى، ولكنها هنا في هذا النداء تشمل روح القرآن كله من أجل تحويل حركة الحياة وتغيير اتجاه النشاط الفاعل فيها بكل مستوياته : النشاط المعنوي والنشاط المادي التابع له سواء، ومن أجل تعلق القلب بالله الذي لا إله إلا هو؛ خالق كل شيء، بديع السموات والأرض، ذو الجلال والإكرام، الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد؛ فلا أقلَّ من تكون العبادة خالصة له وحده دوناً عن سواه. والعبادة تشمل التوجُّهات الروحيّة ثم ما يُقام عليها من أنشطة مادية يتم بها التعامل في إطار تلك التّوجُّهات.

ولمَّا كانت ثورة "النداء" ثورة روحيّة مُنذرة، عاقبة وبشارة، كان عنفها على الضد من هذا القبيل؛ إذْ كان رد الفعل فيها هو صيرورة الحياة صيرورة حسيّة؛ لأن التمسك بكل ما هو محسوس ومرئي ومسموع وملموس، أو من قبيله، إنما هو مدعاة للعنف في الجهة المقابلة، هو الصدود بعينه، وهو الكنود، وهو الجحود، وهو التنكُّر عن تفهم أسباب الاستجابة لمثل هذا النداء الثائر، وهو العزوف الشديد عن استقبال النداء كذلك.

نعم! لن تجد ثورة تتمثل في "رد الفعل" أقوى ولا أعنف ولا أمضي من هذه الثورة التي وصفها القرآن رفضاً وجحوداً من أكثر الخلق للقرآن نفسه، رفضاً للاستجابة، وتحدياً للثورة المنذرة، وجحوداً لفهم النداء الثائر مع كل ما فيه من رحمة وهداية، ومن إنذار قويم بصير، ومن بشارة على لسان رسول ربّ العالمين؛ فإذا ثورة الإنذار المحمدي هى أقوى وأبقى الثورات جميعاً بغير استثناء: "ولقد صَرَّفنَا للنَّاس في هذا القرآن من كُلِّ مَثلٍ فأَبىَ أكثر النَّاس إلاِّ كُفوراً. وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجِّرَ لنا من الأرض ينبوعاً. أو تكون لك جَنَّةٌ من نخيل وعنب فتفجِّرَ الأنهار خلالها تَفْجيراً. أو تُسقِط السَّماء كما زعمت علينا كِسَفَاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً. أو يكونَ لك بيتٌ من زخرف أو ترقى في السَّماء؛ ولن نؤمنَ لرُقيِّكَ حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً نَقْرؤُه، قل : سبحان ربي! هل كنتُ إلا بشراً رسولاً"؟!

حقيقةً؛ نحن لا نجد في القرآن وصفاً لثورة مضادة تتمثل في رد الفعل أقوى من وصف هذه الثورة التي صوّرها القرآن في استنكار أكثر الخلق للقرآن نفسه أولاً، ثم لما ورد فيه من دعوة رشيدة قوامها إصلاح الفساد وتغيير جوانب الأنفس والآفاق بل وتغيير جوانب الحياة برمتها من وراء ذلك. ولم يكن استنكار أكثر الناس للقرآن؛ دلالة الوعي بالبيان الإلهي في أرقي مراحل التعبير عنه، تعبيراً يأخذ بمجامع القلوب التي تسمع النداء؛ لم يكن ذلك بالأمر الذي يمر على أسماعهم بالقبول، ويجد في النفوس صدى سوى الصدى الذي تقدّم ذكره من طلب المعجزات الساذجة تنفر منها العقول المفكرة وتسخر منها الأفئدة المطموسة بواغش المطالب الحسية القريبة، تأمل الآية :"ولن نؤمنَ لرُقيِّكَ حتى تُنَزِّلَ علينا كتاباً نَقْرؤُه".

ثمة علاقة رابطة بين الاستنكار والاستخفاف في شراكة المعنى من حيث التعبير عن الثورة المضادة التي اتخذت من الباطل أركان قوتها واستمرت تعطي دلالتها عليه خلال تلك العلاقة الواضحة، مشتركة المعنى بين الاستنكار والاستخفاف.

طبائع الاستخفاف:

ليس هذا استنكاراً وكفى، بل هو استخفاف شديد، ينجم عن ضعف وصغار، ولا ينجم عن قوة واقتدار. غير أنه لئن كان لجاجة في الإنكار يصحبها استخفاف مع استظهار القوة والبطش؛ فللاستخفاف طبيعة غريبة في أخلاق الناس، طبيعة ذات خُلق عجيب، لا يتقنه إلا خبيث، وحين نقول : لا يتقن طبيعة الاستخفاف إلا خبيث نعنى كل ما في هذه العبارة من معنى الخبث والمكر واعوجاج الأخلاق؛ فالخبيث ليس ذكياً كما يتصوَّر البعض، ولا هو بالماهر الحذق كما يصف البعض، بل هو مريض أسود القلب، سيئُه، حقودٌ على عباد الله، يكره الخير دائماً للناس؛ ولا يعرف الحُبُّ طريقاً إلى قلبه؛ لأنه مشحون بالكراهية. قلب لا يحب إلا نفسه، موبوءٌ على الدوام بوباء الحقد والحسد والجبن وسائر الآفات الأخلاقية المذمومة أو المهلكات بتعبير أبي حامد طيّب الله ثراه؛ فهو إذا استخف، فلا يستخف إلا بقدرات السادة القدراء ويستهين بأعمال الكرام : كرام النفوس وكرام الأخلاق.

هذه الطبيعة الحاذقة في أعمال الشّر هي في الأصل طبيعة ضعيفة، تستقوى بالشرور وتميل في كل حال إلى التهجيل والتكذيب، ثم تنساق وراء الضعف المهين لا لشيء إلا لأنها طبيعة شاذة قلما تعرف للخير طريقاً لتسير فيه. ومن أجل ذلك؛ فقد تجد الضعف الذي يتلبّسها هو من جنس طبيعتها الشريرة؛ لأن الشّر في ذاته أضعف من خيوط العنكبوت لكن نسيجه الظاهر وطلاءه الخارجي يُوحي بشيء من القوة ولو من بعيد، وهي قوة - إنْ وجدت - ففي قوة الضعفاء على كل حال، يتخللها الضعف فتنسج منه خيوطها الكثيفة، ولا يكشف ظاهرها ولا باطنها إلا عن ضعف في ضعف وإلا عن وهن في وهن يعقبه في كل حين وهن الدورات.

فكل من كان ضعيفاً في ذاته لا يجد قوته إلا في الخبث والمكر والمكيدة للأصدقاء والأقرباء قبل الأعداء الغرباء؛ فالمرأة التي تكيد وتجيد المكيدة ليست قوتها من ذاتها، ولا إرادتها من معدن القوة في ذاتها، بل لضعفها وصغارها، فهى لأجل هذا أقرب إلى الخبث والدهاء والمكر والمكيدة لأعز أصدقائها أو صديقاتها، والطفل الذي لا يملك إرادة الأقوياء إنما هو طفل يمكر لضعفه لو كانت براءة الأطفال في عينيه، غير أن مكر الأطفال من هذه الجهة مكر ساذج ومكيدتهم سطحية قليلة الشر والخباثة ليست بمقدار الضعف الذي يسري على الضعيف حيثما كان؛ فالمرأة تستخف بالقوة، والضعيف عموماً يستخف بالقوة ولا يحسب لها حساب في ميزانه كحساب الأقوياء الأصحاء. أخلاق الضعفاء على التعميم هى هى أخلاق الاستخفاف بكل ما هو خيِّر وجميل في النفس والواقع والحياة والضمير؛ فلا يستخف الجاهل بالكرامة الآدمية إلا لضعفه، ولا يستخف المريض بالعلاج الناجع إلا لضعفه، ولا تستخف الإرادة الإنسانية بسياسة النفس على الصبر في المعيّة الإلهية، وعلى الطاعة والمراقبة لله تعالى إلا لضعفها، ولا يستخف واقع الناس في زماننا هذا بالقيم النبيلة الخلاقة إلا بسبب الضعف، وللمهانة التي يستشعروها من الواقعيين الذين لا ينهضون ولا تقوم لهم في الواقع قائمة من ثورة إصلاح ولا وجهة تغيير.

والذين لا يوقنون أقوى على الاستخفاف وأقدر، ولذلك حذر الله منهم؛ لأنهم بطبيعتهم المستخفة، يكون الاستخفاف أمضى فتكاً في عقائد المعتقدين إذا لم تكن المواجهة مرهونة بالصبر الدائم واليقين بالوعد القويم.

ولا قدرة للاستخفاف على الحقيقة إذا كان اليقين في وعد الله الحق أمكن في القلوب وأبقى، وهو مع الصبر أعز وأرقى، إذ ذاك تتهاوى كل قدرة على الاستخفاف كما تتهاوى حيل الضعفاء الأرقاء. والذين لا يوقنون لم تكن لهم مهمّة ولا همّة إلا زعزعة اليقين الثابت من طريق الإيمان. وأولُ وسائلهم في ذلك هو الاستخفاف؛ فطبيعتهم الأصيلة هى استعمال الاستخفاف بداية ونهاية كيما يكون هو الأصل الأصيل في زعزعة اليقين.

فلا يستخف - من أجل هذا - واقع الناس بالقيم النبيلة الخلاقة إلا للضعف الذي يتلقونه من أوهام القائمين على رعاية هذا الواقع ومؤسساته كما لو كانوا مؤكلين برعايته أسوأ الرعاية وأنكى الاهتمام .. وهكذا وهكذا، فكل استخفاف يصدر من الإنسان لأخيه الإنسان هو على الضعف والخزي والمهانة أقرب منه إلى أخلاق الأقوياء القدراء والأصحاء. والقرآن الكريم يُنبّه المسلم إلى أخلاق المؤمنين في مواجهة المستخفين الذين يحملونهم على الخفة والطيش والقلق والاضطراب، وكلها غفلات ظاهرة لا يرضاها القرآن لأهله، لكأنما كان الاستخفاف بداية وعيداً يلقاه المؤمنون على المشقة التي تحتاج إلى جهد الصابرين :" فاصبر إنَّ وعد الله حقٌ، ولا يسخفنَّك الذين لا يُوقنون" (الروم /60).

وكل استخفاف إنمّا هو دعوة إلى الغفلة والنكوص والتردي وغيبة العقل وقلة الإدراك؛ لتمييع قوة الشخصية وذبان جهة الحق فيها كيما لا تسمع ولا تبصر ولا تستجيب لا لله ولا لرسوله، بل إلى ذلك النداء الآثم يدعوها إلى أن تكون غافلة طائشة لا عقل لها لتدرك ولا قلب لها لتعقل أو تبصر؛ فهذه هي الخفة بذاتها؛ وذلك هو الاستخفاف يجئ مدعاة إلى الإنكار والنكاية والإزلال كما يجيء طريقاً للسّخرية والاستهزاء ثم طغيان الآخرين على الذات بكل مقوماتها :" فاستخف قومَه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين " (الزخرف/54).

ومن هنا يتبيّن؛ أن للاستخفاف طبائع تتفاوت قوة وضعفاً في الطبيعة الآدمية الواحدة، وفي الطبائع المختلفات؛ فهنالك استخفاف الجاهلين الذين قال الله فيهم على لسان موسى لبني إسرائيل حين اتهموه بالسّخرية منهم :"أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين"، وهنالك استخفاف الضعفاء الذين لا يوقنون، وهو استخفاف يحتاج إلى معاناة الصابرين، وهنالك استخفاف الفاسقين الذين يغيبون عقولهم مرضاة لخفة الطيش في نداء الطاغوت؛ فهذه كلها طبائع للاستخفاف ليست على درجة واحدة من التقويم والتمثيل وإنما هى درجات مختلفات ومتفاوتات. فإذا نحن قلنا من بعدُ إنّ ثمّة علاقة رابطة بين الاستنكار والاستخفاف في شراكة المعنى من حيث التعبير عن الثورة المضادة التي اتخذت من الباطل أركان قوتها واستمرت تعطي دلالتها عليه خلال تلك العلاقة الواضحة، مشتركة المعنى بين الاستنكار والاستخفاف كان قولنا هذا صحيحاً على أقل تقدير فيما لو نراه نحن؛ فثورة الباطل طغيان بكل تأكيد، وخفة ظاهرة استجابة لنداء الطاغوت، وكل استنكار فيها إنما هو في الأصل استخفاف مهين يجلب الضعف ويفت في عزائم القدراء.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم