صحيفة المثقف

الإرهاب وتلوث الهُويِّة المصريّة (2)

عصمت نصارلم يكن تسلل الفكر الوهابي إلى البنية الثقافية المصرية هو العامل الوحيد لتلوث الخطاب الديني، بل كانت هناك عدَّة عوامل ساعدت على تحول العقل الجمعى المصرى من التسامح العقدي إلى التطرف والتعصب ضد الأغيار من جهة، وتكفير المخالفين من جهة ثانية، وذيوع مقولة أن الإسلام فى خطر من جهة ثالثة. نذكر منها طعون بعض المستشرقين المتعصبين لليهودية أو المسيحية أو العلمانية ضد الإسلام وشخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتشكيكهم فى ثوابت الهويّة واجتذابهم طلاب البعثات من المصريين لترويج آرائهم.

وقد اُتهمت العديد من الكتابات الليبرالية بأنها صنيعة الغرب وترمى إلى تزييف الهوية الإسلامية المصرية مثل الدعوى لنقض اللغة العربية، والعناية باللغة العامية المصرية وتاريخ الفراعنة، والكتابة بالحروف اللاتينية، وفصل الدين عن السياسة، وإعمال العقل النقدي فى كتب السيرة والأحاديث والقصص الديني، والترويج للوحدة العربية على أسس علمانية، عوضًا عن الخلافة والحديث عن حرية الفكر والعقيدة وحقوق المرأة وسلطة الشيوخ الجامدين واعتبار آرائهم دربًا من دروب الكهنوت الذى يجب التخلص منه. وقد ترتب على ذلك ظهور العديد من المساجلات بين المحافظين الرجعيين من شيوخ الأزهر والسلفيين الجدد والإخوان المسلمين من جهة، والليبراليين من تلاميذ لطفى السيد (حزب الأمة) والماركسيين والمجترئين من المتشيعين للغرب وفلسفته المادية والجمعيات الإلحادية من جهة أخرى، وذلك على صفحات: (الفتح ـ الأسد الإسلامي ـ الإخوان المسلمون ـ الإسلام ـ البلاغ ـ الجامعة الإسلامية ـ جماعة المنقول والمعقول ـ الجهاد ـ الجهاد الإسلامي ـ حضارة الإسلام ـ الحق ـ الدستور ـ الدعوى ـ الرابطة الإسلامية ـ صوت الحق ـ الضياء ـ العالم الإسلامي ـ لواء الإسلام ـ نور الإسلام ـ الهداية ـ الهداية الإسلامية ـ هدى الإسلام ـ الوحدة الإسلامية ـ مصباح الشرق ـ محمد فريد وجدي الإمام ـ الجريدة الماسونية ـ الاتحاد الإسرائيلي ـ إسرائيل ـ الأخبار الماسونية ـ الإخاء الماسونية ـ الجديد ـ الديموقراطية ـ الرأى العام ـ رسالة الإسلام ـ الرسالة ـ السياسة الأسبوعية ـ الفلسفة ـ المستقبل ـ المقطم ـ المؤيد ـ السفور ـ العصور ـ المقتطف ـ الكاتب ـ الهلال).

ويتلخص مشروع خطاب المحافظين فى مقولة العودة إلى الإسلام والانتصار للفرقة الناجية والجهاد ضد الملحدين والمستشرقين والمستعمرين وأذنابهم. وقد صرح بذلك حسن البنا فى مقالاته فى فترة الثلاثينيات من القرن الماضي.

أمّا الفريق الثانى؛ فقد تبنى عدة شعارات أهمها: تقديم المعقول على المنقول، الفصل بين العلم والكتب المقدّسة، نقد السلطة الدينية، الحرية، التقدّم، الحياة العصرية. وقد تأثر شبيبة المثقفين الذين ينتمون إلى أصول ريفية بأحاديث جماعة المحافظين؛ أما ساكنو المدن، والأقباط، ورواد المدارس الحديثة، وخريجو المدارس الأجنبية، والعائدون من البعثات العلمية، وأبناء الطبقة الأرستوقراطية، فقد انتصروا بطبيعة الحال للاتجاه المقابل. والذى يجب ملاحظته فى هذه الحقبة أن مقدار التلوث سواء من تطرف الجامدين من المتدينين أو اجتراء العلمانيين والمغتربين لم يصل إلى التحريض على العنف أو نقض العادات والتقاليد أو هدم الأخلاقيات الراسخة فى العقل الجمعى المصري.

غير أن الخطاب السلفي راح يردد مصطلح الغزو الفكري واصفًا به كل مظاهر الاستنارة المقتبسة من أوروبا وكل ظواهر الخلاعة والمجون التى صاحبت الانفتاح على الآخر وانتشار العلم الحديث، ومن ثمّ انتقلت هذه الرؤية إلى الرأى العام التابع فى الريف والحضر على حدّ سواء من خلال المساجد ودروس الوعظ ومجالس المسامرة وحلقات العلم التى كان يعقدها الإخوان والسلفيون فى بيوتهم. ناهيك عن أحاديث الفلاحين الذين نزحوا إلى المدن المصرية فوجدوا فيها العديد من مظاهر المجون بداية من بيوت الدعارة والمراقص ونهاية بالثراء الفاحش والبذخ الذى كان يُنفق على يد الباشوات وذويهم. ويعنى ذلك أن الخطاب الدينى المرسل قد نجح إلى حد ما، ولاسيما فى فترة الثلاثينيات من القرن العشرين فى استعداء العوام على كل ما يأتي من الغرب وتتبناه الحكومة فى مؤسساتها، وأن ما فيه الفلاحون والعمال من ضنك وضيق فى العيش وإهمال اجتماعي وصحي سوف يُرفع عنهم بقدر تمسكهم بدينهم ودفعهم لظلم الباشوات وأجهزة الأمن.

وعلى الجانب الآخر نزع الخطاب العلماني إلى أن خلاص المجتمع المصرى (مسلمين وأقباطا) ممّا هو فيه من تخلف، مرهون لتركهم ماضيهم المعتم بما فيه العقيدة والعوائد والتقاليد، واقتفاء العوام قبل النخبة أثر الغرب العلماني فى كل شئون حياتهم. ولم يقل خطرا ذلك التطرف والجنوح على الرأى العام المصرى وتزييف هويته من تعصب سابقه، بيد أن الملاحظ أن الخطاب الدينى كان له عظيم الأثر، كما أشرنا على الطبقات الدنيا وطبقة العمال والفلاحين والحرفيين وصغار التجار، وفى الأحياء الشعبية التى تنحدر أصولها من الصعيد أو الريف، الأمر الذى مهّد الطريق لمزيد من الأفكار المتشددة التى أباحت قتل المخالفين فى أمور السياسة. ولعل أشهر الأدبيات التى قارنت بين حال المسلمين المتخلف عن ركب الحضارة وصعود نجم الغربيين ورغبتهم فى ذيوع ثقافتهم، بل وفرضها على كل الشعوب بحجة الارتقاء بهم، هي: «لماذا تأخر المسلمون» لسعيد حليم باشا عام ١٩١٧م، و«لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم» لشكيب أرسلان عام ١٩٣٩، و«ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» لأبي الحسن الندوي عام ١٩٤٥. والجدير بالإشارة أن جميع هذه الأدبيات كانت تعبر عن آراء الاتجاه المعتدل أو إن شئت قل المحافظ المستنير المعنى بتثقيف الطبقة الوسطى والمحذر من خطر الانحياز إلى واحدة من جماعات التطرف والتعصب، كما أكدت هذه الرؤى أن مقابلة الأفكار المجترئة والطاعنة فى الإسلام لا تجابه بالعنف، بل بالتسامح والأدلة العقلية للبرهنة على أن الإسلام قادر على تجديد حضارته وبعث قيمه من جديد، وأن ما يدعيه غلاة المستشرقين، ومن نحى نحوهم من شبيبة المصريين وأكابر الكتاب لا يستند على أسس علمية، بل هو درب من دروب التشيع للفكر الغربى حملهم على مسايرة الأفكار الضالة ونظرة سطحية توهًّمت أن ما فيه بلاد الإسلام من تخلف يُرد إلى الدين.

*   *   *

يخطئ من يعتقد أن الحملات الإلحادية التى شنتها دوائر الاستشراق السياسي والخلايا الماسونية التى ساعدت على الترويج لنحلة الثيوصوفية فى المجتمع المصرى على وجه الخصوص، كانت تستهدف المسلمين فقط، بل كانت تستهدف الأقباط أيضًا أولئك الذين تعايشوا مع المسلمين ونعموا معًا برحابة وسماحة وألفة الخصال المصرية، ورفضوا كل أشكال التعاون مع الغرب الغازي بداية من الحروب الصليبية ومرورًا بالحملة الفرنسية وانتهاء بالاحتلال الإنجليزي.

نعم! إن الكنيسة الأرثوذكسية قد برهنت على أن ولاءها الأول للمشخصات المصرية التى تعيش فى وجدان معتنقيها وأن أى مظهر من مظاهر الخلافات بين المسلمين والأقباط لا يمكن اعتباره شكلا من أشكال الاضطهاد الملِّى بل هو وليد التعصب المذهبي المناهض لطبيعة الدينين المسيحي والإسلامي، الأمر الذى حال بين المتآمرين الغربيين ونشوب حرب طائفية فى مصر ذلك على الرغم من محاولاتهم الجادة فى نشر المذهب الكاثوليكي والبروتستانتي بين المسيحيين المصريين منذ أخريات القرن الثامن عشر عن طريق الإرساليات والمدارس الأجنبية، آملين من ذلك إيجاد ذراع لهم بين الأقباط لتزييف الوعى المصرى وتفكيك المجتمع. ولعلّ صحف الصهيونية مثل: (صحيفة إسرائيل١٩٢٠)، (صحيفة الفجر ١٩٢٤)، (مجلة الاتحاد الإسرائيلي ١٩٢٤)، (جريدة الصوت اليهودي ١٩٣١)، (صحيفة الشمس ١٩٣٤)، (صحيفة المنبر اليهودي ١٩٣٦)، قد اضطلعت بهذه المهمة وعاونت أعلام المستشرقين الإنجليز والأمريكيين لإفساد العلاقة بين المسلمين والأقباط من جهة، وتحويل المؤمنين بالكنيسة الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية من جهة أخرى، فراحت منذ العقد الثانى من القرن العشرين تنشر بعض الأكاذيب عن وجود اضطهاد إسلامي للمسيحيين فى الصعيد والدلتا، وأن هناك حملات تبشيرية مسيحية نجحت فى إغواء عشرات الشباب لترك الإسلام، أو حملات أخرى دعوية تحرض النصارى على الكفر بالمسيحية واعتناق الملة المحمدية، وأن هناك بعض الكتّاب المسيحيين قد ألفوا عدة رسائل عن تحريف القرآن الكريم وأساءوا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأذاعت كذلك الأكذوبة الكبرى التى تخص الأقباط دون غيرهم بأنهم المصريون الحقيقيون وتصف المسلمين بأنهم أسباط وأحفاد القبائل العربية الغازية وأن المصريين لم يعتنقوا الإسلام إلا كرهًا، كما شجعت المسيحيين على تسمية أبنائهم بأسماء فرعونية (رمسيس، مينا، إيزيس).

وعلى الجانب الأخر روّجت هذه الصحف للعديد من فتاوى الجماعات الإسلامية التى تتهم المسيحيين بالكفر وتتوعدهم بعذاب جهنم فى الآخرة.

ذلك فضلا عن جهود المبشر الأمريكي البروتستانتي صمويل زويمر (١٨٦٧-١٩٥٢م) الذى حاول التشكيك فى أصالة العقيدة الإسلامية ونقائها، وذلك فى العديد من مؤلفاته التى نشرها بين شبيبة المسلمين، نذكر منها: (عقيدة المسلمين فى الإله ـ العالم المحمدي اليوم ـ أخواتنا المسلمات ـ الطفولة فى العالم الإسلامي ـ محمد أو المسيح؟ ـ قانون الردة فى الإسلام). وراحت الصحف والمجلات تردد التوصيات التى انتهت إليها المؤتمرات التبشيرية تلك التى عُقد أولها فى حلوان عام ١٩٢٤م برعاية أمريكية، والثاني فى القدس فى العام نفسه، والثالث عام ١٩٢٨ فى القدس أيضًا، وكان الهدف الأساسي من عقدها هو توحيد جهود المبشرين لتنصير المسلمين فى مصر والعراق وتزييف هويتهم، وذلك عن طريق إقناعهم بالنموذج التركي العلماني فى ميدان السياسة وترغيبهم فى العديد من المصطلحات والمفاهيم الغربية مثل: الرُّوح القومية وتحرير المرأة والحداثة والديمقراطية، ونشر الفكر المسيحي بين حديثي السّن عن طريق المدارس المجانية والخدمات الاجتماعية والصحية فى الريف والأحياء الفقيرة، وتشويه صورة الإسلام الراسخة فى عقول وقلوب الشبيبة الذين إذا ما تخلوا عما فى أذهانهم استطاع المسيح أن ينفذ إلى قلوبهم باعتباره رسول الإخاء والسلام والمحبة واعتبار الإسلام هو دين الإرهاب وسفك الدماء والعنف.

والجدير بالإشارة فى هذا السياق أن أفعال المبشرين الإنجليز والأمريكان والإيطاليين والفرنسيين لم تجد تأييدًا من الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، بل على العكس تمامًا فقد قوبلت الدعوة التبشيرية الغربية بالرفض والاستياء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنها تفتح باب الفتنة الطائفية بين المصريين وتتعرض لمقدساتهم بما يكرهونه وتأباه حرية الاعتقاد. وصرح أحد المثقفين ويدعى «كليم أبوسيف» (رئيس تحرير جريدة السياسة) ـ عقب الحملة التبشيرية التى قادها زويمر فى المساجد المصرية وبين حلقات الدرس فى الأزهر على وجه الخصوص ـ قائلا: «لا تعتقدوا أيها المسلمون أن الأقباط فى مصر أقل استنكارًا لهذا الحادث منكم، فهم أحرص ما يكونون على الألفة والإخاء بينهم وبينكم». كما ألقى «فليني فهمى باشا» بيانًا باسم الأقباط المصريين جاء فيه: «حرصًا على سلامة تلك الروابط المقدّسة لم أجد بدًا من كتابة هذه السطور جهرًا فيها بأنه إذا كان المسلمون المصريون قد استنكروا أعمال أولئك المبشرين، فالأقباط المصريون أشدّ استنكارًا لتلك الأعمال ولا يقل أسفهم عنها من أسف إخوانهم، ولا تنقص رغبة هؤلاء فى حث الحكومة على العمل على منع أسبابها بصورة نهائية حاسمة».

أضف إلى ذلك المقالات التى نُشرت على صفحات (البلاغ، والسياسة، والجهاد) بأقلام: عباس العقاد، والشيخ الأحمدي الظواهري. وقد لعب أساتذة الجامعة الأمريكية فى القاهرة دورًا ملحوظًا فى حركة التبشير بين طلابها المسلمين، وذلك فى فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وفُتحت أبواب مدارس الراهبات المسيحية الكاثوليكية أمام المسلمات الفقيرات لتعليمهن وتنصيرهن فى آن واحد ثم إيجاد عمل لهن مناسب.

لا غرو فى أن وعى المصريين «أقباطاً ومسلمين» وحرصهم على تماسك هويتهم السّمحة هو الذى دفع القائمين على الجامعة الأمريكية آن ذاك إلى التراجع عن تنفيذ مخططهم التبشيري أو السياسي؛ وليس أدل على ذلك من تصريحات مستر مكلانهن Meclenahan عميد كلية الآداب والعلوم، ومستر جوردون مريام Merriam Gordon السكرتير الثالث للمفوضية الأمريكية بالقاهرة - فى فترة الثلاثينيات - اللذين أكدا أنه ليس من أغراض الحكومة الأمريكية أو الجامعة تنصير المسلمين أو تحويل المسيحيين الأرثوذكس عن كنيستهم، بل غرض الجامعة الأمريكية فى مصر هو نشر الثقافة والعلم بين شبيبتها وتربيتهم على النهج الأوروبي الحديث، حيث حرية الفكر، وحقوق الإنسان، وتخليص المجتمع المصرى من العادات والتقاليد المرذولة التى تدفع رجاله إلى الجور على المرأة وإهدار حقوقها وكبت طاقاتها وحرمانها من المشاركة الإيجابية فى شتى النواحي ومختلف مجالات العلم والتعلم والعمل.

وأضافا أن كل ما يعنى الجامعة الأمريكية فى مصر هو ترسيخ مبدأ حرية العقيدة وحق المصريين فى تغيير ديانتهم من المسيحية إلى الإسلام أو العكس أو من الأرثوذكسية إلى البروتستانتية، وأن تكفل الحكومة حماية المتحولين وترفع عنهم كل أشكال الأذى مثل الحرمان من الميراث أو مفارقة الأزواج والتخلي عن ذويهم، وذلك لأن هذه الأفعال تتعارض مع المبادئ الأمريكية فى نشر الحرية وأخلاقيات الحضارة الإنسانية وحقوق الإنسان.

وقد تصدى الشيخ مصطفى المراغي لهذه الحملة وشكل جمعية أهلية لمقاومة التبشير والرد على اتهامات المستشرقين والزود عن الإسلام ضد أكاذيب المبشرين، ومناقشة المرتابين والراغبين فى تبديل ديانتهم وتوضيح لهم ما التبس أو اختلط عليهم من أمور دفعتهم إلى الانصياع لإغراءات القساوسة المبشرين، وقد شارك فى هذه الجمعية الشيخ محب الدين الخطيب، وحسن البنا، وقد انحصر دورهما فى ترديد بعض المقولات التى تعلى من شأن الإسلام على غيره من الديانات وتحذر من عقوبة المرتد ووصف كتب الكنيسة بالتحريف وعقيدة الصلب والفداء بالكفر والتزييف؛ الأمر الذى اعتبره الأقباط اعتداء على معتقداتهم، وراح الكثير من قادة الرأى فى الكنيسة الأرثوذكسية يذكرون المسلمين بأن النبي مدحهم ونهى المسلمين عن إيذاء النصارى ولو بكلمة (من آذى ذميّا فقد آذاني)، وذلك لأنهم أقرب الناس للمسلمين، ومن ثمَّ وجب مودتهم والبر بهم. كما بيّنوا فى العديد من مقالاتهم وخطبهم فى الكنائس والمقاهي والسّاحات أن الكنيسة الأرثوذكسية غير معادية للإسلام، وأن التاريخ يشهد منذ دخول عمرو بن العاص إلى مصر لم تقع حادثة واحدة ضد المسلمين من قبل الأقباط الذين شعروا بالأمان فى كنف إخوانهم المسلمين إذ اجتمعوا معا بصد الأعادي الغازين واكتسبوا معا مرارة العيش فى المهالك والكبوات وذاقوا حلاوة العسل فى الرخاء والانتصارات. كما أضافوا أن خير مأمن للمسيحي من شرور الاضطهاد أو القمع والتنكيل هو القرآن وأحاديث النبي ووصايا الصحابة.

وقد أرسل المجلس التبشيري العالمي العامل فى مصر عدّة خطابات إلى أمريكا وإنجلترا يعبر فيها عن استيائه لمفهوم الحكومة المصرية للحرية الدينية، إذ اعتمدت فى تشريعاتها التى وردت فى الدستور على الإسلام باعتباره الديانة الرسمية للبلاد، ولم تقر صراحة بحرية الاعتقاد أو انتقال الأفراد من الإسلام إلى المسيحية أو غيرها تبعاً لإرادتهم. وجاء الرد الأمريكي متفقاً إلى حدٍ كبيرٍ مع الرّد الإنجليزي، إذ رفض كلاهما الاعتراض على ما جاء فى الدستور المصرى من تحيز للإسلام أو التضييق على حركة التبشير ونصح أعضاء مجلس التبشير فى مصر بضرورة توخى الحذر وتجنّب الصدام بين الطوائف الأوروبية والمسلمين؛ وذلك لأن الكنيسة المصرية الأرثوذكسية لم تتقدّم بأى شكوى تفيد أنهم فى حاجة إلى معونة الأوروبيين للدفاع عن حريتهم فى العبادة أو حماية كنائسهم، وانتهى الأمر بفشل المبشرين والمستشرقين السياسيين فى إخضاع الدستور المصرى لرغباتهم أو مُسايرة العراق وفلسطين فى الاتفاقيات التى أجروها مع الإنجليز بخصوص حرية العبادة، ولم يتعرّض الإنجليز لهذه المسألة ألبتة خلال كتابتهم لنصوص معاهدة ١٩٣٦.

أمّا الإرساليات الأمريكية والإنجليزية فاكتفت بدورها التعليمي والجمعيات الأهلية للرعاية الصحية والعناية الاجتماعية لنشر تعاليمها فى هدوء وقد رغبت المصريين فى مدارسها عن طريق العناية بأخلاقيات خريجيها ومستواهم العلمي ومظهرهم الخارجي؛ الأمر الذى مكّن الإرسالية الأمريكية على وجه الخصوص من نشر مدارسها فى شتى أنحاء الأقاليم المصرية.

ونخلص من ذلك إلى ثلاث حقائق: أولها أن تلوث الهوية المصرية بآفة التعصب والطائفية كان من العوارض الخارجية أى لم يكن أصيلاً فى بنية المصريين ولا جزءا من مشخصاتها. وثانيها: أن العامل الرئيسي الذى لم يمكن الإرساليات الغربية من الهجمات التبشيرية أو من الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين فى مصر هو إخلاص رجالات الكنيسة وإيمانهم بقداسة الولاء والانتماء للوطن وتسامح قادة الفكر المسلمين الذين تجنّبوا الفتنة وانتصروا إلى الحكمة وصحيح المنقول الذى يأمر المسلمين بالتعايش مع الأغيار ولاسيما الأقباط وعدم إكراههم فى الدين. أمّا الحقيقة الثالثة؛ فهى أن ما نجده من شرارات ترغب فى إشعال الفتنة الطائفية بين المسلمين ضد الأقباط (من حين إلى آخر) تُرد إلى الجماعات المتعصبة وأن ما نلمحه من عبارات يرددها الأقباط لاستفزاز المسلمين وتحريضهم على إخوانهم ما هى إلا نتاج كتابات المستشرقين الأوروبيين الذين لا يريدون لمصر خيراً.

(ولعلّنا نقرأ صفحات الماضي لنفلح فى تسييس حاضرنا والتخطيط لمستقبلنا).

*   *   *

ويجدر بنا فى هذا السياق التأكيد على أن وجود التسامح الصوفي والأخلاقيات العمليّة - التى تميز بها الزهاد الحقيقيون - هو الذى منع انتشار جراثيم العنف والتعصب والانحطاط الأخلاقى فى بنية الأمة المصرية، أعنى فى نظام التربية والتقاليد العامة والأعراف الحاكمة للمجتمع، فلم يصبها العطب بفضل تمسك أنصار التصوف العملى بتلابيب دينهم وعوائدهم الأصيلة، فلم تبدله الثقافة الوهابية التى تبناها جماعة الإخوان والسلفيون، ولم تسقط القيم إلى درجة الانحلال كما هو حال المستغربين من أبناء الباشوات والأرستقراطيين فى المدن.

ولعلّ أشهر الأدبيات التى جمعت بين حركتي الاستشراق العقدي والسياسي الطاعن فى الإسلام، وحركة التبشير المسيحي، ودور المصلحين فى مجابهاتها، هي: كتاب «دين الإسلام والعلم» وهو تعريب للخطبة التى ألقاها «أرنست رينان» بباريس تلك التى اتهم فيها الإسلام وتعاليمه بما ليس فيه، وترجمها المهندس على يوسف؛ وكتاب «الجواب المنيف فى الرد على مدّعى التحريف» للشيخ يوسف الدّجوي؛ وكتاب «مصر الحديثة» لـلورد كرومر الذى تولى الرد عليه عشرات من الكتاب المسلمين فى صحيفة المؤيد بقيادة الشيخ على يوسف؛ وكتاب «لماذا أنا مسلم» لعبد المتعال الصعيدي الذى ردّ فيه على افتراءات «زويمر» وجماعته.

ويخطئ من يعتقد أن ملوثات الهوية المصرية من صنيعة المتعصبين عقديًا فحسب، بل شارك العلمانيون فى ذلك أيضاً، ويبدو جنوحهم فى تعصبهم البغيض للحضارة الغربية لاسيما الاتجاهات الإلحادية والجمعيات الماسونيّة والفلسفات الوضعية والمادية، تلك التى تعتبر الدين من معوقات التقدم والتفكير الحر والعقلانية والعلم والسلام بين الشعوب. والغريب فى هذا المقام أن نجد جلّ الأحزاب السياسية المصرية تتفق فيما بينها على أمرين: أولهما فصل الدين عن الدولة فى نظام الحكم. وثانيهما: عدم صلاحية العقيدة؛ لتكون القاعدة التى يُبنى عليها مفهوم المواطنة أو القومية، وحجتهم فى ذلك أن السياسة الشرعية الإسلامية ليست ثيوقراطية وأن ما يأمر به الشرع يختلف عن أمور السياسة التى أضحت علمًا يسير مع مقتضيات الواقع والمصالح المرسلة. أمّا مبدأ المواطنة فلا يمكن إقامته على أساس من التعصب الملى، وذلك لأن النبي أسس دولته فى يثرب على مبدأ المعايشة أى تعدد الجنسيات والديانات وظل هذا الأمر على مر تاريخ الإسلام، فلا يجوز حرمان المسيحي أو اليهودي من حقوق المواطنة؛ لكونه يعيش فى مجتمع مسلم أو على أرض يعتنق غالبية سكانها الإسلام.

وقد دافع عن هذا الرأى الشيخ على يوسف مبينا أن اللغة والعادات والتقاليد والأرض المشتركة ووحدة الانتماء والولاء، هى الأصلح ليتأسس عليها مبدأ المواطنة، وكذا مصطلح الأمة والقوميّة.

وقد رحب الأقباط بهذا التعريف وعبر عن ذلك «أخنوخ فانوس» على صفحات مجلة «مصر» مبيناً أن الخلافات السياسية لا تفسد الانتماء والولاء للوطنية أو القومية فى حين أن الصراعات الدينية يمكنها تدمير الوطن نفسه، فتقسمه إلى أحزاب وفرق متناحرة لا سلام ولا استقرار بين أعضائه؛ وإذا قام الحكم على أساس ديني أدى ذلك إلى جور واضطهاد للمواطنين المخالفين فى العقيدة وأنقص فى الوقت نفسه من مواطنتهم.

ويضيف لطفى السيد أن وحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطني، وخاصة إذا ضيعت فيها الحقوق وعطلت الحدود وأميتت المعروفات وأحيت المنكرات، والوطني فى عرف كل أمة هو التابع لحكومتها الداخل فى جنسيتها القانونية، ويقابله الأجنبي.

وحسبنا الإشارة إلى أن هذه الأفكار الليبرالية فى ميدان السياسة لم تكن ضد الدين أو انتصارا للعلمانية الإلحادية، بل كانت ثورة على نظام الخلافة العثمانية الذى استولى على الأقطار العربية بما فيها مصر باسم الوحدة الإسلامية، كما أن جمود بعض الشيوخ ورفضهم للتجديد والتحديث وإصرارهم على غلق باب الاجتهاد هو الذى جعل هذا الفريق يفصل تمامًا بين آراء الفقهاء الدينية والمفهوم الحقيقي للسياسة الشرعية التى تبنى على المصالح المُرسلة شريطة ألا تحرم حلالا أو تحلل حراما.

أمّا الاتجاه العلماني الإلحادي المناهض للدين؛ فجاء فى ركاب المحافل الماسونية تلك التى دخلت مصر مع الحملة الفرنسية ثم انتشرت فى القرن التاسع عشر وازدهرت فى الربع الأول من القرن العشرين، وقد وجد فى هذه المساجلات حول علمانية السياسة والجامعة الإسلامية والخلافة سبيله إلى النفوذ لبنية الهوية المصرية. وأعتقد أن أصحاب هذا الاتجاه هم أحد المسئولين عن تلوث الهويّة المصرية بتغلغله فى بنية العقل الجمعى بداية من مناهضته للتعاليم الدينية فى التربية والتعليم والسياسة ومروراً بالتشكيك فى الكتب المقدّسة مسيحية، كانت أو إسلامية، وأخيراً بالدعوى للتحرر من كل العادات والتقاليد والقيم التى تُرد إلى الدين. ولعلّ أول الأفكار التى تبناها هذا الاتجاه هو الاعتراف بوجود الله الخالق المبدع باعتباره معتقداً فردياً يؤمن به الشخص بمقتضى إرادته الحرّة وقناعته الوجدانية الروحيّة. أمّا ما جاء به الأنبياء من تعاليم وكتب مقدّسة وطقوس وأعراف؛ فكل ذلك يمكن إدراجه ضمن الأعمال البشرية أو اجتهادات المصلحين ومن ثمّ فهى قابلة بجملتها للأخذ والرد والمناقشة والنقد والقبول والرفض، أى أنها ليست حجة على العقل. كما أنّ الديانات التقليدية سوف تظل مدعاة للشقاق والصراع والعنف بين الأفراد والجماعات، وأنها سلاح يستخدمه المستبدون بمساعدة الكهنة لإذلال الشعوب والاستيلاء على ثروات البلاد بمنأى عن الحريّة والعدالة والمساواة.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم