صحيفة المثقف

"العولمة" إشكالية العصر الكبرى.. نظرة تحليلية (2)

ظاهرة العولمة وحقيقتها: ليست إشكالية العولمة في صيغها إلا إشكالية أوربية خالصة. فهي كما نراها محاولة لتحويل مسار التاريخ الانساني إلى بعدٍ واحد وإلغاء الأبعاد الاخرى الوطنية والقومية وتغيير مجرى روافدها الاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية، إلخ. كما انها محاولة لإلغاء محددات الوجود الأسمى للتاريخ، وإيقاف التراكم التاريخي للشعوب. غير ان التجربة الانسانية في هذا المكان تشكل تراكماً معرفياً تاريخياً يسهم في إكمال وإنضاج تجارب إنسانية في مكان آخر. فهي إذن شرط ضروري في مجمل التجارب الانسانية الاخرى.. فكيف يتحول مسار التاريخ الانساني إلى بُعْدٍ واحد.؟

إن مسألة الإستلاب الوجودي لفهم التجربة في علاقاتها بتجارب إنسانية اخرى يعرض الحضارات الأنسانية الأساسية الى الإنحلال، لأن مكوناتها زمقوماتها والجذور التي تتأسس عليها تختلف من حضارة الى اخرى بحكم قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ.

وعلى اساس هذا الفهم فأن التعارض او التلاقي ما بين الثقافات الانسانية مسألة مهمة والتعامل معها يشترط التحديد في ان الاسايتنافىسي يتلاقى والثانوي في ما بينها قد يتعارض ويتنافى، ولكن لا ينبغي التسليم  بإشتراط  نفي الاخر بالجملة وتحويله الى تابع  من الدرجة الاولى.

إن إشكالية العولمة في صيغة اطروحتها الحالية هي إشكالية اوربية محضة وإن في هذه الاشكالية مصدرين: احدهما اقتصادي والآخر ثقافي يتشكلان في وحدة الخوف من الخارج في ابعاده الحضارية. فالعنصر الاول: يتعلق بإشكالية النسيج الاقتصادي والاجتماعي الاوربي في قمته المرفهة، لأن الاشكالية في هذا المصدر تكمن في الخوف من نهوض الشرق . أما المصدر الثاني: فيتعلق بإشكالية التهديد الناجم عن منافسة  امريكا الثقافية والاقتصادية لأوربا والعالم لكون امريكا يعوزها العمق الحضاري .

ورغم ذلك فإن اوربا التي فقدت بعد الحرب العالمية الثانية سيادتها بفعل تبعيتها لأمريكا تحاول العودة لترسيخ دعائمها السيادية، ولكنها الآن على طريق التفكك البنيوي، إذ ليس العولمة مشكلاً كونياً، إنما هي مرض أمريكي يراد تصويره في شكل ظاهرة مطلقة. والمعروف إن الإطلاق في العولمة يجعل العولمة تحكم بصورة الوهم وكأنها فعل أصبح البشر يعيشون في ما يسمى حقيقة الإمكان الوهمي للعولمة. ولما كان الأمر يكمن في هذا المفهوم الذي يفرض خواص المركز الرأسمالي على الاخرين لتتشكل من ثم العولمة بذات البعد السلبي الاستعماري، فأن التسليم بالإندماج أو الدفاع عن الخصوصية يحول مجرى العلاقات الانسانية كما يحلو للغرب الى صراعات بين نموذجين احدهما يمثل الحضارات الاساسية الراسخة، والأخر يمثل التجمعات ذات النمط الحضاري الثانوي. وهو صراع بين الأسمى الضعيف والأدنى القوي .. أعني الشرق والغرب.!!

ومن الغريب ان يدعي البعض بأن العولمة لها بعد كوني واحد هو نتاج الحتميات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والتاريخية.. إلخ، التي تتشكل في بُعْدٍ أحاديٍ ينسجم مع التفسير الامريكي والصهيوني للعولمة، الذي يؤدي تدريجياً الى الهيمنة على العالم. غير ان العوامل المحركة للصراع والتنافس في واقع السياسة الدولية لا تسمح بخلق نظام أحادي القطب عن طريق القوة، والقوة في معناها العملياتي قد استخدمتها الولايات المتحدة في مجالين خطرين هما: التدخل العسكري المباشر، وإحكام قبضة العقوبات الاقتصادية. وكلا هاتان الاداتان تخالفان الاعراف والمواثيق الدولية، بإعتبارها من ادوات الإبادة الجماعية وضد حقوق الشعوب، فضلاً عن عدم إكتسابها الشرعية القانونية والاخلاقية. ورغم الإدعاء بأن العولمة تمثل المستقبل الانساني، غير انها في الحقيقة عولمة تسد كل آفاق الإنساني، عولمة المافيات المحلية في خدمة المافيا العالمية، لكون العالم تحكمه (أوليغارشيات) مافيوية تستعبد بقية البشر.

صياغة الإشكالية: إن صياغة إشكالية العولمة من الوجهة الفلسفية تستوجب التوقف، في ما إذا كانت العولمة شيئاً يقوم بذاته ولم يظهر إلا في العصر الحالي ، أم هي صفة تحمل على التاريخ بكل احقابه ؟ والإجابة على هذين التساؤلين، هي ان العولمة لم تقم بذاتها، إنما هي شيء لم يتحقق بعد. وتحققه  في صيغة خيالية راحت اساليب إقحامها على الواقع تأخذ مسارات غير واقعية، ووهم العولمة بات عند البعض أمراً حاصلاً بصورة فعلية فأعلن هذا البعض تسليمه بذلك وإستسلامه لهذا الحاصل دون برهان .

لقد صاغ الغرب فلسفة العولمة في إشكالية  تأخذ شكلين من الصياغة، هما شكل العلاقة بين (الجزئي) و(الكلي)، وشكل العلاقة بين (الأنا) و (الآخر). وكلاهما مبنيان على منطق التقابل والتنافي المستند الى اعتبار العلاقة بين الحضارة العربية والحضارة الغربية أو أية حضارة أخرى بين جزئي وكلي أو بين أنا وآخر، الذي لا يمكن تصوره من دون الجدل المبني على الجزئيات الذي يفيد أن كل جزئي يمكن أن يصير كلياً بنفي ما عداه من الجزئيات، وبذلك يصير الكلي كل الوجود، أي بمعنى كل ما عداه عدماً .!!

فهل أن علاقة الحضارات مع بعضها علاقة بين (جزئي) و(كلي) فتكون هذه إنسانية تامة وتلك إنسانية ناقصة بحيث تنتهي العلاقة إلى نفي الآخر.؟

تلك هي الإشكالية الفلسفية للعلاقة بين الحضارة الغربية والحضارات الأصلية الأخرى، أو بالأحرى هذا هو تصور العولمة الامريكية للعلاقة بين الحضارات التي تعمل بإتجاه نفي الآخر بصورة تدريجية.

فلو صحت نظرية التطور، فأن مبدأ الصراع من أجل الحياة والبقاء للأصلح لكانت النتيجة الحتمية لظهور النوع الأرقى إنقراض النوع الأدنى .. والمغالطة في هذه النظرية، هي ان بقاء الأدنى شرط في بقاء الأرقى، وإن الأرقى يصبح شرطاً لبقاء الأدنى، ولكن حين تكون العلاقة بين (جزئي) و (كلي) فأن النظرية هذه تبدو مغالطة فاضحة تسعى إلى  تغطية الخواء الروحي للحضارة الامريكية.

ويمكن إعادة صيغة التناقض الحاصل.. هل ان علاقة الحضارة العربية بالحضارة الغربية خاصة، وعلاقة أية حضارة بحضارة اخرى عامة، علاقة بين الأنا والآخر؟ والإجابة انها ليست كذلك، فإذا اعتبرنا ان ما يختلف به الأنا عن الآخر هو الجوهر صار ما يشتركان فيه عرضياً واصبحت الصفات الانسانية المشتركة دون الصفات الثقافية المختلفة، وتلك مغالطة فكرية أخرى عمل الغرب على تسويغ مبرراتها الفلسفية للقبول والاستسلام بمنهج التصفية الروحية للحضارات الأصلية .

كما ان العلاقة بين الحضارات ليست علاقة بين الانا والاخر .اذ لو كانت كل حضارة في جوهرها نقيض غيرها من الحضارات لما اشتركت الحضارات إلا في ما ليس من جوهرها . فالاصل الميتافيزيقي في العولمة هوة التحديد الوجودي المستند الى النفي بين الجزئيات في زعمها الكلي المتناقض .فاذا كانت كل هوية هي ما ليس غيرها فهي لم تكن بذاتها الا العدم الذي لايصبح شيئا إلا بنفي غيره ..والصحيح ان ما تتميز به الحضارات هو العرض او ما تشترك فيه هو الجوهر المتمثل في المثال الانساني .

فالعالم تتلمس فيه الحضارات الاصيله محيطها الخارجي الذي يعج بالتحديات ويقوي التنافس التي تعمل على تطويقها بسلسله من المفاهيم والاحكام والافعال التي تأثر تدريجياً في مجالاتها الحيوية ومنظومة قيمها تمهيداً لتدميرها وتحويلها الى أممية (كوسموبوليتيه)، تستطيع من خلالها هذه القوى الامبريالية الامريكية إخفاء عوزها الحضاري خلف مسميات استراتيجية كونية .

المشكل الجوهري:  هو تحديد طبيعة العولمة في شكلها الحالي، لان العولمة مرت في التاريخ الانساني بمرحلة نشوء الدولة القومية بكل معطياتها المادية والفكرية، كما اسلفنا ذلك في مبحث سابق، ثم تطورت وأرست دعائمها وامتدت على نحو مادي وثقافي باتجاه الاخر، في الاطراف البعيدة حيث الحضارة والثروة .

ومنذ اكتشاف امريكا الى الان يمكن رصد المراحل التي مرت بها العولمة والاشواط التي قطعتها في مسيرتها الاستعمارية كما يلي:

* عولمة التصفية الجسدية للاخر.

* عولمة إستعباده.

* عولمة إستعماره.

* عولمة الثقافة الاحادية.

* عولمة تصفيته الروحية.

هذه المراحل التي مرت بها العولمه يمكن تفسيرها على النحو الاتي:

اولا- ان عولمة التصفية الجسدية قد نفذها همج الغزاة الامريكان لاصحاب الارض الاصليين الهنود الحمر.

ثانيا- أما عولمة الاستعباد فقد انجز الامريكيون والبريطانيون وغيرهم سياسة الرق بتهجير السكان الاصليين الزنوج من موطنهم في افريقيا وغيرها من المناطق لخدمة الجنس الابيض (الارقى)

وبناء نهضته الصناعية في امريكا واوربا وممارسة ابشع اساليب التمييز والفصل العنصري في التاريخ المعاصر.

ثالثا- اما عولمة الاستعمار الاقتصادي فقد كانت تتمثل في ضرورة التوسع الاستعماري وابقاء الشعوب تعيش اشبه بـ(تربية الماشية) مصدراً للعمل التكميلي وسوقاً مفتوحة للبضائع ، وهو التوسع الامريكي في العالم.

رابعا- اما عولمة التبعية الحضارية فتشتمل في العمل على تذيب الشعوب في بوتقة ثقافية واحدة.

خامسا- وتنتهي هذه المرحلة القاسية من التعامل الامريكي والغربي مع شعوب العالم النامية بمرحلة اخيرة تتمثل بعولمة التصفية الروحية التي يراد منها الانتحار الروحي بهوية الشعوب وسلخها عن ثقافتها وحضارتها . فهي بهذا المنهج تفصل بين الوجود المادي للانسان ووجوده الروحي، فيما تعمل العولمة في احد وجهيها على نفي الوجه الاخر في مستوى المجتمع الدولي ومحاولة ادماج الشعوب روحياً في الحيز الخيالي لفلسفة العولمة المحرفة باللاهوت اليهودي من فيلون (Philon) الى هيغل (Hegel)، وذروة هذه الفلسفه تقسم البشر الى اسياد وعبيد والى ما لانهاية، الامر الذي يقتضي بنية مافياوية قادره على تحقيق مهام السلطة المركزية الدوليه بادوات مختلفه اقتصادية واعلامية وعسكرية الخ ، تاكد واقع الانقسام بين الشمال القوي الغني والجنوب الضعيف الفقير، الذي عليه ان يقبل نقل النفايات الذريه والتكنلوجيا المتخلفه والاسلحة الصدئه، وان يقبل صاغراً على إمداد الغرب بالمواد الخام الاولية دون اعتراض وتحويل هذا الجنوب وكانه مجال لتربية المواشي .

وعلى أساس هذا الفهم، فأن طبيعه الخطر يكمن في طبيعه الظاهره كمرض ميتافيزيقي يطمح الامريكيون خاصه والغربيون بصورة عامه اشاعته على العالم على اساس انه خيار حتمي ممثل في ما يسمونه بالعولمة او الكونية.

يتبع رجاء...

 

د. جودت صالح

23-07 - 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم