صحيفة المثقف

أثر اختلاط الجنسين في تميع الأدوار الاجتماعية واضطراب الهوية الجنسية

منى زيتونلعله مما لا خلاف ولا تباين بشأنه في جميع المجتمعات المعاصرة أن أكبر مؤسستين مسئولتين عن التربية في المجتمع هما المنزل والمدرسة، ولكليهما دور أساسي في تشكل هوية الفرد الجنسية وإكسابه خصائص الدور الاجتماعي المقبول الخاص بجنسه ذكرًا كان أم أنثى.

ومعلوم أن لكل فرد منذ الميلاد نوعًا بيولوجيًا gender يتحدد على أساسه هويته الجنسية، كما أن المجتمعات الإنسانية تضع معاييرًا للسلوك المقبول من الفرد بناءً على ذلك النوع، وهي ما تسمى بالأدوار الاجتماعية. وهذه الأدوار متعلمة فاكتسابها هو نمط من التعلم الاجتماعي، يكتسب فيه الفرد السلوكيات والاتجاهات والميول التي تتطابق مع التوقعات الثقافية في مجتمعه لكل من الذكورة أو الأنوثة.

ويعتبر سلوك الفرد بما يخالف هذه التوقعات غير مقبول اجتماعيًا، وعليه يُوصف الفرد بأن لديه تميع وعدم وضوح للدور الاجتماعي المرتبط بالنوع، وفي الحالات الأكثر حدة قد يصل الأمر حد المعاناة من اضطراب الهوية الجنسية، عندما لا يرتاح الفرد كليًا عند حثه على السلوك بشكل يتوافق مع نوعه البيولوجي.

وفي سلسلة مقالات سابقة عن خصائص التعليمين المنفصل والمختلط، ذكرت أن واحدة من أهم الخصائص التي يتمسك مؤيدو التعليم المختلط به لأجلها هي المساواة في تطور الدور الاجتماعي لدى الجنسين؛ حيث يذكر ريوردان (Riordan,1990,p.45) أن من خصائص التعليم المختلط إعداد الصغار لتمييز أقل في الأدوار الجنسية.

وقد يكون لتقليل التمييز إلى حد ما، وتوسيع النظرة الإنسانية لدى النشء، ميزة في إكساب أفراد كلا الجنسين الاحترام للجنس الآخر، لكن ربما كان لزيادة الاختلاط واتساع حدوده والتعايش لفترات طويلة بين الذكور والإناث آثارًا سلبية، حيث تزيد المساواة بين الجنسين حتى تكاد تضيع الحدود بينهما حتى من حيث المظهر الخارجي، وهو ما يؤكد عليه أنصار التعليم منفصل الجنس كسبب رئيسي لرفض الاختلاط في التعليم.

وفي الآونة الأخيرة – وعلى كثرة الموضوعات المثيرة للجدل في مجتمعاتنا العربية- دار الحديث لفترة عن الشذوذ الجنسي بعد إعلان فنان شهير تحول ابنته جنسيًا لتصير ذكرًا، مصورًا الأمر على أنه محاولة متأخرة لإصلاح خلل فسيولوجي لديها منذ الميلاد، ثم تلا ذلك بفترة وجيزة انتحار واحدة من مشاهير المتحولين جنسيًا في مصر، رغم أنها هاجرت إلى مجتمع غربي يتقبل منها ما نراه شذوذًا في المجتمعات الشرقية.

ولاحظنا في هذا النقاش المجتمعي الذي دار في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي دفاع كثير من الشباب عن الشذوذ واعتباره حرية شخصية، ما يوضح زيادة تقبل الشذوذ الجنسي بين فئات أوسع من المجتمع المصري والمجتمعات العربية، فلم يصبح متقبلًا بين الشواذ جنسيًا فقط كما كان في الماضي القريب!

وهدفي في هذا المقال ليس مناقشة القضية من منظور ديني، فالأمر محسوم دينيًا بالنسبة للمتدينين ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]. كما أنني لست معنية بنقاش الموضوع من جهة الفسيولوجيا والهرمونات ونحوها، ولكن الهدف هو البحث من منظور اجتماعي تربوي في سبب رئيسي لهذا التحول الفكري والمفاهيمي لدى فئة من أفراد مجتمعاتنا.

بدايةً، أنا أزعم أن الثقافة الشرقية لا زالت تحتفظ بتصورات تقليدية للأدوار الاجتماعية المقبولة لكلا الجنسين، وذلك على العكس من الثقافة الغربية، ولكني أرى أن هناك عاملًا كان يعمل بخفاء خلال العقود الأخيرة لإحداث التغيير المفاهيمي الذي نراه اليوم. هذا العامل هو انتشار التعليم المختلط في مرحلة المراهقة بين الجيل الجديد من أبناء الطبقات الاجتماعية المترفة على العكس من طبقات المجتمع الأدنى، والتي يُلحق أغلبهم أبناءهم وبناتهم بمدارس حكومية منفصلة. ولا ينتشر التعليم المختلط في المدارس الحكومية إلا في الريف وأقاصي الصعيد، وذلك لأسباب اقتصادية تتعلق بعدم قدرة الحكومة على إنشاء مدرستين منفصلتين للبنين والبنات على حدة. ولكن الاختلاط في تلك البيئات المحافظة يكون اختلاطًا اسميًا فقط، لا تأثير له على أرض الواقع.

 وتعتبر مرحلة المراهقة المرحلة العمرية الأهم في تشكيل السلوك الاجتماعي لدى أفراد المجتمع واكتسابهم الأدوار الاجتماعية المقبولة المرتبطة بالنوع (ذكر/أنثى)، وقد أشار كثير من التربويين في دراسات مقارنة عن بيئة التعليم المختلط والتعليم منفصل الجنس إلى أن الاختلاط قد يؤدي إلى تميع الأدوار الاجتماعية المرتبطة بالنوع، ورفض الأدوار التقليدية المتوارثة عما هو مقبول من الرجال والنساء. وأنا هنا أضيف إلى أنه قد يسهم في إعادة تشكيل الهوية الجنسية والأفكار عنها إلى الدرجة التي قد تخيف بعض الآباء وتجعلهم يدفعون أبناءهم الذكور دفعًا نحو سلوك جنسي مبكر للاطمئنان عليهم! والرجل المصري لا يعبأ بأن يُوصف ابنه بأنه متحرش، وتخوفه الأساسي من أن يكون شاذًا أو يبدي أي سلوك ناعم يجعله في نظره أقرب للفتيات.

ولعلها ليست مصادفة أن أغلب الحالات التي مرت عليّ لإدعاء الفتيان في سن المراهقة علاقات وهمية مع الفتيات لم تنشأ في الأساس بغرض التفاخر أمام الأقران الذكور، بل نشأت بسبب ضغط الأب الذي يريد أن يتأكد من الميول الجنسية لابنه! خاصة إن كان الابن في مدرسة مختلطة، ويتعامل مع زميلاته بلطف ورقي يراه الأب قلة خشونة لا تليق بالذكور فيبدأ تخوفه وفتح حوارات مع الابن عن زميلاته الفتيات وطبيعة علاقته بهن، ويشجعه على التودد إليهن بما يتنافى مع حدود الزمالة، ما قد يلجئ الصبي إلى الإدعاءات التي قد تتحول إلى حالة مرضية مستدامة بعد ذلك!

بل لقد ظهرت بعض الحالات الفردية في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة لتحرش أطفال صغار في الصفوف الابتدائية الأولى وأحيانًا في رياض الأطفال بزميلاتهن، وكان للأب أيضًا دوره في تشجيع الطفل على تقبيل زميلته، ولا زلنا نذكر دفاع الأب عن سلوك طفله المعيب بأن لابنه أن يفعل ما يحلو له، "واللي عنده معزة يربطها"!

وبعيدًا عن التحرش فقد رأيت من الآباء من لا يهتم بأن يصدر عن ابنه الذكر سلوك مشين يدل على سوء تربية لأن هكذا يكون الرجال من وجهة نظره! ونراه يرد على من ينتقد أسلوبه التربوي بأن ابني ليس مخنثًا! وبعضهم يصطحب أبنائه الذكور إلى المقاهي الشعبية ليجلس وسط الرجال ويقلدهم، مع الأخذ في الاعتبار نوعية الحوارات والألفاظ التي يستخدمونها!

وعلى النقيض فهناك من الآباء من لا يقوم بدوره في تنشئة أبنائه، ويترك الأمر برُمته لزوجته لانشغاله الدائم في عمله أو لعدم تحمله للمسئولية، ولافتقاد دور الأب أثره السلبي على كل من البنين والبنات، فالابن ينشأ بين أمه وصاحباتها ولا يكاد يرى نماذج ذكرية ليقلد سلوكها ويكتسب الدور الاجتماعي الملائم لنوعه، والابنة إما أن تنشأ بالغة الضعف أو على العكس قد تفتقد الشعور بالأمان ما يجعلها تشعر بضرورة تعويض دور الأب بأن تكون قوية لتحمي نفسها. والأم من جهتها قد تكون سببًا في شعور الفتاة باحتقار نوعها البيولوجي –وكذلك قد يفعل الأب-، كما قد تدلل الابن إلى الدرجة التي تمنعه من تحمل المسئولية والقيام بتبعات الدور الاجتماعي الذكري.

وأمثال هذه الممارسات المتناقضة من الآباء هي التطرف والتطرف المضاد، وما زاد عن حده قد ينقلب إلى ضده.

والأمر لا يقتصر على الآباء في المنزل، فللمدرسة دورها في إحداث هذا العبث، ولكن بدرجات تتفاوت بين الجنسين، ولقد كان ملحوظًا في بعض الدراسات لدى الباحثين التربويين أن المعلمين في البيئات التعليمية المختلطة يتدخلون بشدة لمنع الذكور من الخروج عن أدوارهم الاجتماعية التقليدية، ولكن الأمر ليس بهذه الصرامة بالنسبة للإناث، فكثيرًا ما يكون هناك تشجيع لهن على اكتساب بعض من الأدوار الاجتماعية الذكرية لتكون الأنثى قوية وتستطيع مواجهة تحديات المجتمع المعاصر؛ ما قد يزيد لديهن بعض الخصائص النفسية المرتبطة بالذكورة كالقوة والاستقلال والتمرد على أي امتهان، وهي تغيرات سلوكية إيجابية ما لم تزد عن حدها وتؤدي لابتعاد الفتاة ورفضها التام لجميع خصائص الدور الاجتماعي الأنثوي التقليدي. ورغم أن هذا التغير السلوكي في صورته المعتدلة يتناغم مع طبيعة البشر السوية، فإنه لا يمنع من التعرض لانتقادات اجتماعية، مع تجاهل تام للأسباب التي أجبرت النساء على هذه الاستقلالية وإظهار القوة وأن تصبح strong independent woman!

ومن وجهة النظر النفسية فهناك اتجاه لاعتبار أن الذكورة والأنوثة النفسية –وليست البيولوجية- هي أكثر تعقيدًا وتداخلًا مع بعضها البعض، كما أنها أقل تحديدًا وتمايزًا مما كان الأمر عليه في الأجيال السابقة.

ولكن تميع الأدوار الاجتماعية المرتبطة بالنوع البيولوجي ليس بالأثر شديد الخطورة مقارنة بالشذوذ الجنسي الذي يتعارض مع الطبيعة التي فطر الله الناس عليها. ويبقى الأثر الأكثر أهمية والأشد خطورة للتغير في التنشئة الاجتماعية في العقود الأخيرة الناشيء عن انتشار الاختلاط في التعليم هو أن التمييز الجنسي بين الذكور والإناث في البيئات المدرسية المختلطة، قد يعد دافعًا من دوافع بعض الفتيات للتحول الجنسي في الشرق والغرب. وهذا الأثر للبيئة المدرسية أقوى من أثر إشعار الفتيات بالدونية وربما عدم الرغبة فيهن، والذي كان يحدث في عصور سابقة على نطاق ضيق في المنازل.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر –ورغم أن هذا الأمر لا علاقة له بالاختلاط بين الجنسين- فالتحرش الجنسي بالبنين يزيد في المدارس المنفصلة للبنين، وفي بعض الأحيان تتكون ثلة أشبه بالعصابة قد تجتمع لمضايقة والتنمر والتحرش بالبنين الأصغر عمرًا والأكثر ضعفًا بالمدرسة، في غياب رقابة المعلمين والإدارة المدرسية. والتحرش الجنسي بالولد ومناداته باسم أنثى ومعاملته على أنه فتاة هو ضربة البداية في خلق اضطراب الهوية الجنسية لديه، وتحويله إلى شاذ جنسيًا.

وبناءً عليه أرى أن المجتمعات -الشرقية تحديدًا- بحاجة لإعادة النظر في بعض الممارسات التربوية في المدرسة والمنزل، والتي ترتبط بتميع الأدوار الاجتماعية واضطرابات الهوية الجنسية، وإجمالًا يجب إحلال المدارس المشتركة ذات الفصول المنفصلة كبديل للمدارس المختلطة، بحيث تكون الدراسة في فصول منفصلة للجنسين، مع الحرص على مشاركة جميع تلاميذ وتلميذات المدرسة في الأنشطة المدرسية في جماعات مختلطة؛ لتوفير بيئة مدرسية واحدة تدعم نمو المهارات الاجتماعية والثقة بالنفس لدى التلاميذ والتلميذات، كما أن علينا أن نخفف -كآباء ومعلمين- من الممارسات التي تشعر بعض الفتيات بأنهن جنس أدنى من الذكور، وأن نتفهم أن حُسن تربية الذكور لا يتعارض مع تنشئتهم كرجال، بل هو عين الرجولة والالتزام.

 

د/ منى زيتون

الخميس 23 يوليو 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم