صحيفة المثقف

السياسة بَين النّزاهة والنّجاسَة

اكرم جلاليقول الكاتب الهولندي بيتر أولستون في مقدّمة كتابه: (الشرف في الفلسفة السياسية والأخلاقية) معتقداً أنّ: "اهتداءاً بالفلسفة الاخلاقية بدءاً من (شيشرون) وحتى (امارتيا سين) يجادل هذا الكتاب بأن الشرف، رغم محدودية دوره في لغتنا الأخلاقية، لكنه لا يزال يمتلك دوراً كوسيلة ارشادية وتحفيزية للقيام بما هو صحيح".

إنَّ أعظَمَ أنواع التّزوير هي تلك التي تُحوّل مَجموعةً مِنَ الجّهلة واللّصوص والفاسدين إلى سياسيين ومُناضلين ومُحَرِّرين، بَلْ وإلى مُفَكّرين ومُثَقّفين؛ تَزويرٌ يُغيِّرُ الأذهان، ويَبيع الشّرف بأبْخَسِ الأثمان، وتُسحق القِيَمُ والمَبادئ في صالاتِ قِمار السلطان، حيثُ الإنسانُ يَلْعَب على طاولةِ أوجاعِ أخيهِ الإنسان.

الشّرفُ والنّزاهةُ، مُفردات يَتغنّى بها الكثيرون ويرددها المُتْخَمون والمَحرومون، فَما هو الشّرف؟ وهل هو مَفهوم يَنحَصِرُ في أولئك الذين يحرصون على صيانة البيت والعِرْضِ؟ أم أنّها مفردة تتجاوز حدودَ الأُسرة؟ فَمَن هو السياسيّ الشريف؟ ومن هو الوطنيّ والنّزيه؟

وَرُغم يَقيني أنَّ هذه المُفردة وَمرادفاتها قد لا تعني شيئاً للعديد مِنْ أصحابِ المَعالي، سياسيّوا الزّمن الماضي والحالي؛ فالشّرف عند الكثيرين أصبحَ خارجَ قاموس فَنّ المُمكن، حيثُ الغايةَ تُبرّر الوَسيلة؛ فَكلّ شيئ في وطني مُباح مِنَ اللّيل حتى الصباح، طالَما أنَّ الرِّكابَ قَدْ مُلِئَت فِضّةً وَذَهَبا؛ ورغم علمي بذلك لكنّي في هذه السطور أسعى لأكتبُ مِنْ أجْلِ الضحيّة لا الجَلّاد، مِنْ أجْلِ أولئك المَخدوعين، الذين يَظُنّون بالفاسد مُصلِحاً، والشرّير خَيّراً، واللّصِّ أميناً، والعَميل وَطنيّاً، وإنّي لأعذرهم، فَعِصِيّ السَّحرة بعد أن أُلقِيَت أغْشَتْ أبصارهم، وكؤوس السمّ الزعاف أذهبت بعقولهم، فأختَلَطَ عليهم الحابلُ بالنابل.

يَسقُطُ قناع الشّرف عن السياسة حينما يَرى مَجموعةً مِنَ اللصوص قد احتضنتهم أكُفّ البعث العفلقي، وَرَضَعوا مِنْ ثَديّ النّجاسة، فتُعلّموا، وَتَفنّنوا لتكونَ أفعالَهَم غَدرٌ وَخَساسة؛ دُمًى تحرّكها خيوط الرفاق، وتقودهم شعارات النّفاق ، ويشدّهم الحنين إلى قطع الرؤوس والأعناق.

عَنْ أَيّ شَرَفٍ سياسيّ نَتَحدّث وَنَحنُ نَرَى مَنْ يُخِداع نَفسه مُتوهّماً أنّه والزُمرة المُحيطة به وحدهم مَنْ يَملكون الحَقّ والحَقيقة، وَمَن يخالفكم عبيد، محكومون بالإقصاء والتجويع؛ معتوه ذلك الذي يَلُفُّه الجّهل ويظنّ أنَّ بِهِ ذرّةَ عَقل، سفيه مَنْ يَرى نَفسَه نِمرٌ وهو هِرٌ، يتعالى عَن قَبول النّصيحة ولا يَأبه بالعّار والفَضيحَة، تَرَبَّعَ على كُرسي هو أكبرُ مِنْ رأسه ورأس الذين خَلّفوه، فأهْلّكّ الحَرْثَ والنَّسل.

حينما تتحوّل أيّها السياسيّ المُحنّك إلى دُمية، تُحرّكك خيوط العَمَالة والمَهانَة وَتَستهويك مَوائد الغَدر والخيانة؛ أَسَدٌ على المُستَضعَفين، وَبَين أسيادك ذَليلٌ حَقيرٌ مَهين، تَغُضّ الطَّرْفَ عَنِ السّارق وَتُلاحق المَسروق، تُكرّم السَجّان وَتُعاقِبَ السَجين؛ أيّها الرقيع تسرق اللقمة من أفواه الجياع لتشتري القصور القلاع، فلندن وغيرها ستفضحكم، ستكشف حقيقة وجوهكم ، فأنت أيّها المُحتال مِنَ العارِ زَليف، فَلا سياسيٌّ أنتَ ولا شريف.

فَأنا أَعْلَمُ أنّكَ أيُّها السياسيُّ اللّاشَريف تُجيد فَنَّ التّمثيل وَتُبدِعُ بِلَبسِ أقنِعَةَ ألوانها الخِداع والتّضليل، وَتَرتَقي خَشَبَةَ مَسرَحِ المَأسي ، لِتَحصِدَ المَناصِبَ والكَراسي،  وتلعب الدور بإتقان، تَطرِبُ بِسَماعِ الأشجانِ والأحزان، فدُمِّر الوطن وتوالت علينا المِحَن وازدادت الأحقاد، وضاعَ التّعليم وَتَبَخّرَ الإقتصاد.

وأنت أيّها الشاعر والأديب والخطيب، وأنت أيّها المُفكر والمُثقّف، لقد كُنتم بالأمس تصكّون أسماعنا بقصائدكم وخُطبكم وأفكاركم ونظريّاتكم وأعمدة مقالاتكم، ألا تَعساً لكم، وأنتم تلوذون بصمت كصمت أهل القبور أمام وطن يُذبح وخيرات تستباح، لقد أخرستكم المطامع أيّها الخنعة.

إنّه لُمِنَ المُحزن أنْ نَكتُب وَنَحنُ نَتأمّل أنْ تَصحوا هذه الأمّة مِنْ غَفلتها وَتفيق مِنْ سُباتها وأنْ تتزوّد بالوَعي وَتَتَسلّح بالمَعرفة وأن لا تَنخدع بملء إرادتها، فذئاب السياسة وحوشٌ كاسِرَة، لا تَعرِفُ الرَأفة ولا الرّحمة، وأنَّ عديمَ الشَّرَف غير مأمون، وأنّ مِنِ الحِكمة أنْ لا نَنْخَدِعَ بِمَلعون بعدَ ملعون.

 

د. أكرم جلال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم