صحيفة المثقف

أصولُ الثقافة الثوريّة في القرآن (6)

مجدي ابراهيمنتابع الحلقة الأخيرة من سلسلة أصول الثقافة الثورية في القرآن؛ لنجد في المقابل هناك من القلوب الواعية التي شهدت النداء بمجرد سماعه، فرأت فيه الرؤية بمقدار ما يمكن أن يكون فيها من الحق الناصع على الإيمان بالله، ثم وصفت من أسراره العظمى بما يفئ به الله عليها فتحاً مبيناً من عنده. والدلالة على الوعي هنا؛ إنما هي دلالة على "الاستجابة". وفي الاستجابة الحياة كل الحياة؛ فلكأنما كان الوعي كله مقرّراً سلفاً هو الحياة كلها بأعمق معانيها. الحياة الحقة، الكريمة، الصالحة، الباقية، تجري في إطار المبدأ العقدي، حياة المؤمنين الذين يفقهون النداء فيستجيبوا له :" يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لمِا يُحييكُم"؛ ففي هاته الاستجابة تكون الحياة، ولا تكون في غيرها حياة مثلى من جنسها ولا من نوعها بالمطلق.

فإذا تصوَّرنا قوة النداء وثورته، تصوَرنا في الوقت نفسه معنى الحياة الحقيقية إذا كانت هناك استجابة لله وللرسول، صلوات الله وسلامه عليه، هنالك تصبح الحياة ذات قيمة جوهرية وحقيقة شعورية في رحاب الإيمان، وتصبح فاعليتها مع القيم الإيمانية الكبرى مؤكدة لا شك فيها، إذ تضفي الاستجابة كقيمة معنى كبيراً على الحياة برمتها؛ لتكون حياة جديرة بالفهم عن الله والأخذ عن الله تلبية للنداء. وهنالك أيضاً تصبح ثورة النداء روحيّة باطنة، ويصبح عمل الباطن فيها قوة تحقق وفعل وهداية وثبات وإيمان.

غير أنّ لهذه الاستجابة أشراطاً يَضمُها المحسوس : في الرؤية البصرية واللسان والسّمع. وأشراط الاستجابة في العموم إنّما هى في المقام الأول أشراط روحانية؛ فإنّ الارتقاء في الرؤية، وفي اللسان، وفي السّمع، هو ارتقاء في دواعي الاستجابة، من شأنه أن ينقل صاحبه إلى حيث المدارك العليا فيما لو أنه أحسن الرؤية، فتجرَّد بها عن لواحقها الحسيّة، وارتفع عن أوهاق المادة وملامسة المحسوس. وكذلك يفعل في الكلمة التي تخرج من بين فكيه، يكون فيها اللسان رطباً بما عساه يتذوق من حلاوة الاستجابة للنداء لا بشيء ذاتي فيه، هذا إذا كانت الكلمة التي تجري على لسانه معجونة بثورة الاستجابة وثورة النداء، ثم إنه لا اكتمال لأركان الاستجابة الفوريّة ما لم يكن السّمع مقروناً مع أخويه قرانة تكافل وتضامن حتى تتحقق أشراط الاستجابة، فيكون الارتقاء بها إلى ما بعدها :"إنمّا يَستَجيبُ الذَّينَ يَسْمَعُون".

هذا الارتقاء في مدركات الاستجابة يقابله في الجهة المقابلة - حين تكون الثورة في "رد الفعل" تعبيراً عن العزوف والصدود - استنكاراً من أكثر الناس، ويقابله انحطاط في المدركات الحسية؛ فكما تكون في الحالة الأولى رهافة في هذه المدركات؛ إذ لا حظنا أن الارتقاء كان آية من آيات الهداية، وأنه كلما ارتقى الإنسان في مدارك الاستجابة كان ارتقاؤه علامة هداية بل هو دلالة حياة حيّة حقيقية؛ وهدايته في المقام الأول والأخير من عند الله؛ فممّا لا بدّ منه من ملاحظة أن الانحطاط من جانب "رد الفعل" حين تصير مثل هذه المدركات تقوية للجانب المضاد من ناحية العزوف والصدود، إنما هو في جملته بتلك الحالة، فوق تدنيه في المطلوب وانحطاطه في المقصود، علامة ضلال بل هو دلالة موت وفناء ودمار، ومع كون هذا الضلال الذي يستغرقهم كان مُشَاعاً بين أكثر الناس، فلن تجد لهم أولياء ولا نصراء من دون الله يعينهم على ضلالهم أو ينصرهم فيما هم قادمين عليه من صدود عن الحق وعزوف عن النداء.

من أجل ذلك؛ كانت دواعي الانحطاط في المدركات الحسيّة هى أخس الصفات التي يتصف بها أهل الحس والمحسوس؛ فما هي هذه الصفات؟ هى بلا شك الصفات المقابلة لصفات الارتقاء؛ فكل ما هو على الضد من صفات الارتقاء الذي تتحقق فيه أركان الاستجابة خاضعٌ لدواعي الانحطاط وقابل لأخس الصفات. تأمل كونهم "عُمياً" و"بكماً" و"صُمَّاً" تجد أنها صفات الذين لا ترتفع مدركاتهم عن رؤية الحواس الظاهرية، هنالك تنحط الرؤية المحسوسة ويعزُّ الارتقاء لديهم في الرؤية البصرية، في لسان التعبير عن كلمة الحق كونه استجابة، وفي سماع النداء، فإذا انحطت هذه الصفات في أكثر الناس لا يمكننا وصفها بالانحطاط إلا ساعة أن يجئ النداء : إمّا قبولاً، وإمّا رفضاً؛ فإنْ كان قبولاً؛ فالقبول مشروط بالارتقاء، وإنْ كان رفضاً، فالرفض مقرون بالانحطاط. والانحطاط في المدركات والتصورات هو بالدقة تعبيرٌ مباشرٌ عن احباط الأعمال، واحباط الأعمال توكيد انعدام الإيمان؛ لوجود الكفر بآيات الله؛ ولعدم ارتقاء التصور الإيماني بلقائه. فالانحطاط من ناحية هو اجتماع مع الاحباط في سائر الأعمال التي يظن فيها الصلاح والنفع سواء كان للإنسان نفعاً شخصياً وخاصّاً، أو لبني جنسه من عموم النفع وعموم الصلاح.

لاحظ قوله تعالى في صفات الانحطاط والاحباط وهى جملة الصفات المقابلة لصفات الارتقاء :"وعرضنا جهنم يومئذٍ للكافرين عرضاً. الذين كانت أعيُنُهم في غطاءٍ عن ذكري، وكانوا لا يستطيعون سَمْعَاً". لاحظ أولاً أن ذكراً مجعولاً للعين حين كانت في غطاء مستور، وهذا الغطاء المستور إنما هو حجاب مُسدل عن الذكر؟ وهل كانت العين تذكر؟ وكيف تذكر العين؟ وهل المُراد بالعين هنا عين الجارحة، عين المقلة، أم المقصود بها عين القلب، الذاكر لله على الحقيقة؟ أي المقصود الذين كانت عيون قلوبهم في غطاء عن ذكر الله، هذه واحدة. أمّا الثانية فيلاحظ أن في الآية دواعي الاستجابة جميعاً إلا واحدة، فيها العين، وفيها السمع، ولكن أين اللسان وهو الذي يجري به لفظ المذكور؟

بادئ الرأي أنه غير موجود على صراحة القول به، ولكنما وجوده هنا هو وجود الذكر نفسه؛ فليس المُراد بالذكر كما تقدّم في هذه الآية هو الرؤية البصرية، بل المراد هو الرؤية البصيرية، شهود جلالة المذكور، التي هى مُقدّمة لذكر الله باللسان والقلب معاً حتى إذا أنكشف الغطاء عن رؤية العين تحقق الذكر. والذكر هنا ذكران : ذكر عين قلبية وذكر اعتبار فكري، إمّا أن يكون باللسان، وإمّا أن يكون بالقلب، أو يكون بهما معاً؛ فالظاهرُ من الآية وجود العين وهي مغطاه عن الذكر، ووجود السماع مع عدم الاستطاعة عليه؛ فمعنى أن يتحقق الذكر هو أن ينكشف الغطاء المستور عن رؤية العين، وكلما كانت الرؤية كاشفة، كان الذكر لساناً وقلباً أوضح وأكشف.

وحين نقول "رؤية"؛ فليس معنى ذلك أن تكون هذه الرؤية هى رؤية مُقلة وجارحة بل المقصود بها كما قلنا الرؤية القلبية بدليل أنها مُسدلة بحجاب كثيف منعها الرؤية وحجب عنها جلالة المذكور؛ فكانت في غطاء فلم تعد تذكر. والمعنى : فهؤلاء الذين كانت عيون قلوبهم في غطاء عن ذكر الله، وكانوا لا يستطيعون سمعاً منذ البداية لصوت النداء، يومذاك عرضنا عليهم باعتبارهم كانوا كافرين، أي ساترين الحق بستار الباطل، يغطون الذكر بالغفلة الواصبة، عرضنا عليهم جهنم عرضاً لأنهم كانوا في حجاب ممنوع عن ذكر الله مقطوع عن شهوده؛ فكان هذا الحجاب هو القلب الغافل اللاهي لا اللسان؛ فالعين إذ ذاك عين القلب والرؤية رؤية بصيرة لا بصر؛ وعين القلب هي التي تذكر، وهى نفسها التي تشهد جلال المذكور. ثم إنّ الذكر لم يكن ذكر لسان وكفى، بل ذكر قلب يرى ويشهد لمّا أنكشف عن عينه الغطاء، والسّماع سماع نداء واستجابة وتصديق وتسليم ثم ماذا؟ ثم تغيير في توجهات النفوس ومناشط الحياة برمتها. وإذن؛ فلتستبدل في قانون الارتقاء هنا عمل القلوب مكان عمل الجوارح والأعضاء. أليست هذه ثورة روحيّة في المقام الأول؟!

وما دمنا ذكرنا الاستجابة ودواعيها؛ فلنذكر أنها هي هي الأصل الأصيل في قوة الانذار الثوري الذي قدّمه، محمد صلوات الله وسلامه عليه، كما قدّمه الأنبياء والرسل من قبله أجمعين؛ فلاهي كانت تكون ثورة إذا خلت من فعل الاستجابة، ولاهي كانت تكون ثورة إذا لم يكن ها هنا "رد الفعل" قائماً على إثرها بوجه من الوجوه :"فإن لم يَسْتَجيبُوا لكَ فَاعْلَمْ إنمَّا يتَّبعون أهْوَاءَهُم، وَمَنْ أضَلُّ ممَّن اتَّبَعَ هواهُ بغير هُدىً من اللهِ، إنَّ الله لا يَهدي القومَ الظالمينَ" (القصص: آية 50).

وقد يطلعنا تعميق المحاولة في فهم الآية على أن عدم الاستجابة مرهونٌ باتّباع الهوى، وغياب الاستجابة هو في الأصل تحقيق من الضلالة؛ غير أن هذه الضلالة تفيد البعد عن هداية الله، ومن ثمّ كان اتباع الهوى سبباً رئيساً في عدم الاستجابة (الثورة المضادة) ثورة الباطل على الحق؛ فلو صحَّ اتباع الهوى بهدي من الله لما كانت حجب الضلالة؛ فقوله تعالى إذن :"ومن أضَلَّ ممّن اتَّبَع هواه بغير هدى من الله"، لعلها تأتي - والعهدة في ذلك على محاولة الفهم - إمّا بمعنى أن هواهم كان مانعاً لهم عن الاستجابة فاتبعوه بغير هدى من الله فأضلوا لا لشيء إلا لأنهم عبدوا هواهم على الحقيقة وما عبدوا الله. وإمّا بمعنى أن اتباع الهوى هو عين الاستجابة يمنع من الظلم فيما لو كان بهدى من عند الله، ومن أولئك الذين استجابوا لحكم الدعوة أناس كانوا وجدوا هواهم على الدوام في معيّة الله، فاتباعهم هوى، وعبادتهم هوى، واستجابتهم هوى، لكنه هوى الهَدْي والهُدَى والمعرفة لا هوى الجهل والظلم والضلالة، والفرقُ من بعدُ عظيم. 

 

بقلم د. مجدي إبراهيم                             

 

   

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم