صحيفة المثقف

وفاة جابر الزيادي.. ما أقسى أحزان هذه السنة الكئيبة

عبد الجبار الرفاعينبأٌ موجعٌ رحيلُ الصديقِ العزيز الحاج جابر الزيادي إلى الملكوت الأعلى. ما أقسى هذه السنة الكئيبة التي تباغتنا كلَّ يوم بأحزانها .. عرفت جابر الزيادي منذ 40 عامًا ودودًا، وفيًا، شهمًا، صادقًا مع نفسه، ومع الناس، ومع الله .. تغمد اللهُ الأخَ المرحوم أبا ميثم برحمته الواسعة، وأسكنه فسيحَ جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الموتُ حدثٌ وجودي يكفُّ فيه الكلامُ عن الكلام، وتكفُّ فيه الكلمةُ عن أن أداء وظيفة الكلمة. يتعذرُ في الموت على الكلمة البوحُ بمعنى واضح، إذ إن كلَّ معنى تورده لها يحتاج إلى معنى يفسّره ويُعلِن حقيقته.

تعجزُ لغتُنا البشرية عن القبض على مدلول الموت، لأن هذه اللغةَ ولدت وتنوعت وتغذت من أحداثِ حياتنا وتجاربِ عيشنا المألوفة لنا. اللغةُ معطى تاريخي يختزن خبراتِ تعاطي الإنسان مع كلّ ما حوله من طبيعةٍ وبشر، تتسع اللغةُ لتصوير أكثرِ أفكارِ الإنسان ومشاعرِه وأحلامِه ومتخيلِه، وتعجز اللغةُ عن التعبير عمّا لا يدرك الذهنُ صورتَه.

يتطلبُ التعبيرُ عن الموت اجتراحَ لغةٍ رمزيةٍ بموازاة هذه اللغة، ذلك أن الدلالاتِ التي يحيل إليها حدثُ الموت لا تستقي معناها من معاجم وقواميس اللغة، وإن كانت بعضُ كلماتها ذاتَ دلالاتٍ متداولة، غير أن بعضَ معانيها لا نعثر على كلماتٍ تحكيها ولو مجازيًا. لغةُ الموت لغةٌ خاصة، معانيها خارجَ سياقات اللغة. إنها لغةُ ما وراء اللغة.

كي تفهم معنى الموت لا بدَّ أن تمتلك لغةً تحكي خبرةً جديدةً خارجَ سياق ما يعرفه الإنسان، لأن تجربةَ الموت حدثٌ شخصي آتٍ، لا يتموضع في خبرات الكائن البشري اليومية قبل حدوثه، ولا تنكشف للإنسان حقيقتُه ما دام حيًا.

لا تبوح اللغةُ بمعنى الموت بوضوح إلا أن كانت منبثقة من داخل حدث الموت. الموتُ حدثٌ عصيبٌ عصي على التفسير والتبرير، ذلك أن كلَّ تفسيراته تكرّر نفسَها، وغالبًا ما تبدأ حيث تنتهي وتنتهي حيث بدأت. لعل الدين، ودين الوحي خاصة، هو الوحيد الذي حاول أن يفسِّر الموتَ بشكلٍ أشد وضوحًا من سواه، فقدّم له تفسيرًا وتبريرًا مختلفًا، وإن كان ذلك الوضوحُ يظل يكتنفه شيءٌ من الإبهام أيضًا. يظل الموتُ مبهمًا مهما تعدّد تفسيرُه وتأويلُه، وتصويرُه في الأعمال الفنية الخالدة، لذلك يتطلب مفهومُ الدين للموت دائمًا مزيدًا من الشرح والبيان، وتعبيرًا أكثرَ صدقًا وأقربَ للواقع.

ا1655  جابر الزياديلموتُ ذُهُولٌ لا يماثله ذُهُول. إنه أخطرُ حدث وجودي تغرق فيه كينونةُ الكائن البشري، فيتبدّل فيه وجودُ هذا الكائن. إبهامُ المعنى في الموت لا يعني انعدامَ المعنى، بل يعني أنه معنىً يفوق ما هو متداوَلٌ أو مبتذَلٌ من معنى، بل إن الدلالةَ فيه ضربٌ من الدلالة الموازي لنظام الدلالة المتداوَل في اللغة. إنه معنىً كثيفٌ عميق، مبهمٌ ملتبِسٌ غامض، لا يطابقه أو يحكيه ما هو معروفٌ في عالم المعنى.

الموتُ كما أفهمه تجربةٌ وجودية، وكلُّ ما هو وجودي يشتبك جوهريًا بكينونة الكائن البشري، إنه مكوّنٌ لهذه الكينونة، تتحقّق به ويتحقّق بها في طورٍ وجودي مغاير، إذ تتبدّل به هذه الكينونةُ فيوجدها من جديد في حالة مختلفة.

حقيقةُ التجربة الوجودية أنها مما ينكشف، وكلُّ انكشافٍ ضربٌ من الوجود.كلُّ ما تتحقّق به الكينونةُ ويتحقّق بها هو مما يمكن تذوقُه لا إدراكُه، وتذوقُ الشيء غيرُ العلم به ومعرفته الذهنية. الموتُ ذروةُ اختبارات الروح وابتلاءاتها، حتى تلك الأرواحُ المتمردة الهاربة من الله، تنصاع كرهًا لهذا الاختبار المريع، وترضخ له مرغمةً عليه، وتدركها مُعضلتُه مهما فرتّ أو أفلتت أو لاذَت أو اختبأت.

يعود إبهامُ المعنى وغموضُ كنهه في الموت إلى أن الموتَ هو الحدثُ الوحيدُ الذي تلتقي فيه كلُّ معاني أحداثِ حياةِ الكائن البشري المريرة، وأيامِه الموحشة، وامتحاناتِه الحزينة، وخبراتِه المكتئبة، ومصائبِه العاصفة.

أعرف أني أتحدث عن الموتِ بلغةٍ لا تخلو من التباسٍ وغموضٍ ورهبة، لأني أتكلم عنه بلغةٍ معانيها قابعةٌ وراءَ اللغة، والكلامُ بلغةٍ كهذه يتحيّر فيه الفهمُ عادة، بوصفه محاولةً للقبض على مفهومٍ يقع وراءَ المفهومِ المحسوس.

تخفق دائمًا اللغةُ في الإعلان عن مراميها حين تحكي اختباراتٍ وجودية، وتجاربَ خارج إطار المحسوس، لذلك يلجأ الناسُ للكنايات والمجازات والرموز. للغةِ الرمزية إمكاناتٌ أرحب من اللغة العرفية المباشرة. لذلك يوظّفها الشعرُ والرسمُ والنحتُ وكلُّ الفنون، ويمكنها أن تشي بشيءٍ من معاني الأساطير، وعوالمِ الغيب في الكتب المقدّسة. اللغةُ الرمزيةُ يمكنها أن تتسع لاستيعابِ شيءٍ من اللامحدود في المحدود، وشيءٍ من اللامحسوسِ في المحسوس، وشيءٍ من عوالمِ الغيب في عوالم الشهادة. إنها لا تخبرنا فقط عن شيءٍ موجود، بل عمّا يمكن أن يتحقّق بها ويوجد. اللغةُ طِبقًا لتلك الرؤية رهاناتٌ وجودية، تنكشف بها للكائنِ البشري ذاتُه، مثلما يتحقّق بواسطتها شئٌ من هذه الذات.

إن فضاءَ الكلمات أضيقُ من أن يتسع لكلِّ معاني المشاعر والانفعالات والأفراح والأحزان والعذابات والكربات والآلام والمرارات التي تمور بها الذات، وتستبطنها الطبقاتُ العميقةُ لعالمها الباطني.

ما تعلمتُه من التكرار اليومي لحدثِ الموت أن البشرَ لا يتعلمون من الموت أنهم سيموتون.  كي تستمر الحياةُ لابدَّ من نسيان الموت، لأن الحضورَ الموجع في المشاعر لفجيعةِ الموت المباغتة، يربك حياةَ الإنسان ويصادر عليه قدرتَه على مواصلة الحياة، فلو كان الشعورُ بالموت هو الهاجسُ المزمن والشاغلُ للإنسان في كلِّ اللحظات لتعطلت الحياة.

لكن ألا يمكن أن يتعظ من الموت أكثرُ من "حكموا العراق" بعد 2003، من رفاقِ المرحوم جابر الزيادي، ممن هم اليومَ في خريف العمر، ألا يجدر بهم لو كان لهم قلبٌ أن يصمتوا برهة، ليعودا فيتأملوا فجعيةَ العراق، بما ارتكبوه من جناياتٍ وخطايا عظمى بحقِّ هذا الوطنِ الجميلِ ومواطنيه.

آمل أن يعيد رفاقُ المرحوم جابر الزيادي حساباتِهم مجدّدًا، عسى أن يستفيق لديهم شيءٌ من بقايا ضمير، وأعني بهم أولئك الذين تورطوا في نهبِ العراق خاصة، وإنهاكِه، وتضييعِ حاضره، والجنايةِ على مستقبل أبنائه، بعد أن ساقهم تهافتُهم الأعمى الأهوج على السلطة، واستعدادُهم لفعلِ كلِّ شيء: لاوطني، ولاإنساني، ولاأخلاقي، من أجل الاستمرارِ في سلطٍة بائسةٍ يلعنهم فيها المواطنُ والتاريخُ والحاضرُ والمستقبل، و" يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ"[1].

من الذي أفقر العراقَ بلدَ الحضارات العريق، الذي يكتنز ثرواتٍ هائلةً ومتنوعة، وعجز عن توفير أدنى ما تتطلبه الحياةُ الكريمةُ لمواطنيه، وهي الكهرباء. أليست مأساةً مفضوحةً شحةُ الكهرباء ، من المسؤولُ عن معاناة المواطن ومكابداته المؤلمة في هذا القيظ اللاهب، الذي يفوق طاقةَ البشر على التحمل، عندما يعيش بلا وسائل تبريد؟!

إن اللهَ يتنازل عن حقوقه بالمغفرة والرحمة مهما كانت، لأن رحمتَه "وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"[2]. لكن عدلَه يقتضي ألا يتنازل عن الاعتداء على حقوق خلقه، مالم يتنازلوا هم عنها. لا يمكن أن يتغاضى اللهُ عن حقوق خلقه أو يغفرها لمن ضيّعها أبدًا، الله يثأر لانتهاك كرامة الإنسان، ويعاقب من ضيّع حقوقَه عقابًا أليمًا، ويقتصّ ممن سرق أموالَه. يأتي عقابُ كلِّ من ارتكب ذلك في الدنيا، ثم في الآخرة، ويكون العقابُ على شاكلة الفعل. "وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا"[3].

إن عجزتم عن إجابة هذا الشعب الكريم، كيف تجيبون التاريخ، فذاكرةُ بغداد الجريحة لن تنساكم، مثلما لم يغادر ذاكرةَ بغداد التدميرُ والخرابُ الذي فعله صدام حسين وهولاكو من قبلكم.كيف تجيبون الله غدًا، إن كنتم تؤمنون بالله، وتعتقدون بيوم الحساب!

(روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أميرالمؤمنين عليه السلام اشترى على عهده دارًا بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك، فاستدعى شريحًا، وقال له: بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمانِينَ دِينَارًا، وَكَتَبْتَ لَهَا كِتَابًا، وَأَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُودًا. فقال له شريح: قد كان ذلك يا أميرالمؤمنين. قال: فنظر إليه نظر مغضب ثمّ قال له: يَا شُرَيْحُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصًا، وَيُسْلِمَكَ إلَى قَبْرِكَ خَالِصًا. فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لاَ تَكُونُ ابْتَعْتَ هذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الَّثمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ! فَإِذَا أَنْتَ قدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الْآخِرَةِ!)[4]. "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ"[5].

 

د. عبدالجبار الرفاعي

.............................

[1] البقرة 159.

[2] الأعراف 156.

[3] الإسراء 72.

[4] نهج البلاغة، الرسالة ٣: لشريح بن الحارث قاضيه.

[5] سورة ق 37.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم