صحيفة المثقف

كبرياء وعنفوان

ناجي ظاهرعدت ذات مساء الى بيتنا مسرورا فرحا، فاستقبلتني امي بابتسامة رضا ومحبة و.. تساؤل عيانيّ. قلت لها انني تعرفت على انسان مهجّر مثل حالاتنا، صاحب دكان تذكاريات في وسط البلدة والله منعم ومفضل عليه. واصلت امي ابتسامتها، كأنما هي تطلب مني ان اوضح لها اكثر، فالقيت عليها محاضرة مطوّلة.. حاولت ان اوضح فيها ان هناك فارقا واتفاقا بيني وبينه، اما الفرق فانه يتمثل في انه في حوالي الخمسين من عمره.. متزوج من اجنبية، في حين انني في السابعة عشرة.. واعزب.. لكن إلى جانب هذا.. هناك ما هو مشترك بيننا، فهو يحب الفن ويمارس الرسم التشكيلي خفية وزهدا في الشهرة المزيفة.. وانا احلم بان اكون كاتبا. اما ما يحيط بهذا كله ويتوّجه.. هو اننا نحن الاثنين من اللاجئين في بلادنا. استمعت امي الى محاضرتي باهتمام شديد، وقالت لي: انت من يوم يومك بتحب معاشرة الكبار.. بس انتبه ودير بالك. طمأنت امي. تناولت كتابا استرخي هناك قريبا مني وشرعت في قراءته، وعندما ابتدأ الظلام في الهبوط على بيتنا وعلى كتابي.. كان لا بد من اشعل القنديل واواصل القراءة.

بعد ايام توجّهت امي الارملة للعمل غسّالة في بيوت اليهود، فيما توجهت انا الى صديقي في دكانه، وقد كنت مستمعا ومستمتعا له، حد انني احببت الا ينقضي الوقت، واقر ان الجلوس اليه كان بمثابة قراءة اخرى في كتاب ذكي. ومضت اشهر وانا اتردّد على دكان صديقي ذاك، الى ان قال لي ذات جلسة انه ينوي ان يسافر لزيارة اهل زوجته الأجنبية، فسألته عن الوقت الذي سيقضيه هناك، فرد ليس اقل من شهر.

بعد خمسة عشر يوما مررت بالقرب من دكانه ففوجئت به وقد جلس هناك في مدخلها على تنكته التاريخية العريقة، ووضع راسه بين يديه. ما ان راني حتى هتف بي:

-جيت؟..

لم اجب ورددت عليه بنظرة متسائلة عن سبب عودته قبل انتهاء فترة رحلته المتوقعة.

- هذه حكاية يطول شرحها..

اجابني وتلالٌ مشجّرةٌ بالحزن تطل من عينيه.

-ما الذي حدث؟.. هتفتُ به.

-ما حدث لا يتحمّله انسان. قال وهو ينظر الى الفضاء الممتد امامنا في الشارع.

شعرت بنوع من الكرب، واجتاحتني حالة من القلق المشوب بحب الاستطلاع، ووجدتني ادخل في حالة من الصمت. بدا ان صديقي شعر بما شعرت به، فشرع في اغلاق دكانه، وامسكني من يدي، لأجد نفسي إلى جانبه في سيارته، ولننطلق بالتالي إلى قريته المهجرة الساكنة في روحه وقلبه.

اوقف سيارته بالقرب من عين الماء، الاثر الوحيد القائم من قريته، نزل من سيارته، سار وسرت وراءه، امسك بزهرةِ نبتةٍ يابسةٍ وقذف بها إلى عصفور حلّق قريبًا.. طفرت دمعة إلى عينه، وقال لي:

- لقد تدمّرت.. طرقت بابي نكبة اخرى.

ارسلت تجاهه نظرة متسائلة، في محاولة مني لتشجيعه على البوح وعدم قطع تسلسل اخيلته، فتجاهل نظرتي وسرح في فضاء قريته واشجارها وتمتم:

-لو بقينا هنا.. ما حدث كل هذا.

وجدتني اندفع هاتفا به:

-ما الذي حدث.. قلبي لا يتحمل اكثر.

-زوجتي رفضت العودة الى البلاد. قال كأنما هو يهوي بحمل ثقيل ارهق كاهله.

قال هذا وعاد يرسل نظرة إلى العصفور والزهرة. ويضيف:

-لقد فررت اوروبا كلها.. لا يوجد فيها لا زهرة ولا عصفور يشبهني.. خسارة..

ومد يده متحسسا ريش ذلك العصفور.. بحنو وحنان.

مضى الوقت بطيئا بين دمعة وذكرى.. ووجدته يتوجّه إلى ونحن نستقل سيارته عائدين إلى ناصرتنا:

-انت بتحب كتابة القصص.. وبتحلم تكون كاتب.. صح؟

هتفت به دون ارادة مني:

-صح.

أضاف:

-انت بتحتاج لأجواء مريحة لكتابة القصص. صح؟

انتشيت:

-صح.

عندها نطق بما مهد له:

-شو رايك تيجي انت وامك للسكن عندي.. بيتي كبير وبتسع النا كلنا.

اجتاحني شعورٌ حلوٌ، خاصة انني حلمت فعلا ان اغلب التهجير بالقصص، وها هي الفرصة تحين لان اجد الوقت الكافي والنور الكافي للكتابة.

في طريق العودة الى بيتي، رحت اتصور ما سوف انعم به من راحة وهدوء بال، ووقت للكتابة، بل تصوّرت ان الله بعث لي اخيرًا ماري هاسكل، في اهاب رجل فلسطيني لاجئ مثل حالاتي، واخذتُ امني نفسي بكتابة قصص تهز العالم وتؤكد له ان طرد اهلي من قريتهم لم يقض عليهم وإنما فتح المجالَ بشكل او بآخر.. لأن تزدهر في حديقتهم الف زهرة.. وغابة من الاحلام. تمنيت لو ان الطريق قصر لأصل الى بيتنا في حي الصفافرة، بأسرع وقت ولأخبرها بنبأ الحلم الرائع الذي طرق اخيرًا ابواب حياتي وطموحي. عندما وصلت بيتنا، لم تكن امي هناك.. استلقيت تحت شجرة الليمون في حاكورة بيتنا الفقير المتواضع. ونمت على حلمي الجميل. لأشعر بعد لحظات بيد امي تسوّي شعري وتطلب مني ان ادخل إلى البيت لارتاح هناك. قبل ان انام اخبرت امي بما اقترحه علي صديقي المكلوم.. فسألتني وانت شو رايك، فقلبت سؤالها.. بالأول قولي انت. عندها غرست امي عينها في عيني.. فكرك في بيت في الدنيا ممكن يكون افضل من بيتنا؟ عندها خجلت من امي ولم اعد الى اقتراح صديقي.. بتاتا.

 

قصة: ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم