صحيفة المثقف

"العولمة" إشكالية العصر الكبرى.. نظرة تحليلية (4)

وتأخذ التطبيقات العملية لأفكار (داروين) وغيرها مجالاً في عدد من الحالات التي تنظر الى الاجناس الاكثر تخلفاَ على انها مجتمعات تشابه التجمعات الحيوانية، التي يجب إبادتها كما يحصل في بعض الاماكن المتفرقة من العالم، فضلاً عن تصريحات " دونالد رافسفيلد " وزير الدفاع الامريكي الاسبق وشامير ورئيس معهد وايزمن الصهيوني وغيرهم، الذين يدعون الى إبادات بشرية لتخفيف الضغط السكاني والغذائي . ولا تلتفت هذه الافكار الى هذه التجمعات بنظرة انسانية قيمية موضوعية ترى في الاستعمار سبباً لتخلف تلك الشعوب، وان الاستعمار (النخبة) الحاكمة التي لديها الثروة والسلطة والقدرة على تحريف الاتجاه الانساني للحضارة هي المسؤولة عن هذا الانحراف.

ومع كل هذه الافكار والنظريات (داروين، ونيتشه، ووليم جيمسي) يأتي (دي لآبوج) بتصورات تدعو الى تفوق الجنس الآري واعتباره الجنس الارقى القادر على الصراع والبقاء، وإبادة الآخرين.!!

وقد بلغت هذه الافكار حداً دعت فيه الى ان الطريقة الوحيدة لكي يكون (الأنثروبولوجيا) اكثر حيادية هو تحريره من القيم الاخلاقية الانسانية لتبرير غزو الشعوب وإبادتها، فيما تلامس هذه الافكار اطار التناقض والصراع والتفاوت الثقافي بين الاجناس البشرية على انه  قائم على اساس ومكونات (بيولوجية - وراثية - بيئوية) تجعل من تكون هذا الثلاثي جنساً متفوقاً له حقوق ومزايا ومكانة تُحرم منها الاجناس الاخرى التي تختلف وتتميز ثقافياً وحضارياً عنها لتحدد بالتالي من هو الادنى ومن هو الاعلى في سلم التطور الحضاري لشعوب الشرق والغرب، مما يرتب مفهوماً عنصرياً يشمل المستويات الاجتماعية والسياسية  والاخلاقية في هذا الجانب هو وراثي محض . وتبنى هذه الافكار على ذلك انه لما كانت الحضارة والاصول العرقية كما تتصورها شيء واحد، فان التخلف الحضاري أمر وراثي.!!

والعنصرية في هذا التصور الذي تعكسه هذه النظريات والافكار هي الرؤية العنصرية للامبريالية الامريكية والغربية وخلفهما الصهيونية التي ما تزال تعمل بفعل رؤاها المادية من اجل تحطيم منظومات القيم الروحية للشعوب بمسميات غير مباشرة تضع الجنس الابيض في قمة السُلَم الحضاري المتقدم، اما بقية البشر، فتضعهم في الاسفل بسبب، كما تزعم هذه النظريات والافكار، المكونات (البيولوجية – الوراثية – البيئوية).

إن مجموعة المقولات التي تروجها الامبريالية والغربية والصهيونية في العالم ومنها افكار (صموئيل هنتنغتون)، هي مقولات فكرية وضعت لتعلق حالة التماس والاحتكاك والتصادم، ولم توضع في اطار فهم المعنى الانساني لمنظومة القيم والافكار والثقافات وما يستوجب من تلاقي في الافكار والنظريات والحوار الثقافي والانساني المعرفي لفهم طبيعة التناقضات في قوانين الكون والطبيعة والمجتمع.

وتؤكد الافكار المطروحة حالياً والتي تضمنتها دراسة حديثة نشرتها مجلة (نيتشر ساينتفيك ريبورتس) في شهر مايس 2020 كتبها الدكتور "جيراردو أكينو" و"البروفسور ماوروبولنيا"، تشير الى (ان الكرة الارضية كانت يغطيها 60 مليون كيلومتر من الغابات تخزن الكاربون وتنتج الاوكسجين . الآن تراجعت مساحة الغطاء الى نحو 35 كيلو مترا مربعا، الأمر الذي أدى الى خلل في توازنات الطبيعة . وتنتهي الدراسة - وهنا بيت القصيد- الى ان النمو السكاني المتسارع وقلة الموارد وقطعْ الغابات سيؤدي الى انهيار كارثي. وإن الانهيار الكارثي في عدد السكان بسبب استهلاك الموارد هو السيناريو الاكثر ترجيحاً للتطور الديناميكي القائم على المعايير الحالية التي تكفل بقاء الحضارة الانسانية اقل من 10% في السيناريو الاكثر تفاؤلاً .. فماذا نستنتج من هذه الدراسة البحثية الحديثة؟:

أولاً- ان هناك زيادة متسارعة في النمو السكاني يجب ايقافها .

ثانياً- هناك شحة في الموارد لا تتناسب مع الزيادة المضطردة للنمو السكاني.

ثالثاً- ان ايقاف الزيادة السكانية يتم من خلال (الكوارث الطبيعية والحروب المفتعلة)، وإن هذه الحروب تؤدي الى كوارث بشرية وبيئية وانسانية.

رابعاً- تقع هذه الكوارث في قلب نظرية (الفوضى الخلاقة) التي انتجتها امريكا والصهيونية العالمية من خلفها.. ولذا فأن الأمبريالية لا تستطيع العيش من دون حروب وتدخلات خارجية وإثارة موجات من الفوضى المتداخلة التي تتحكم بها إدارة ضبط الصراعات ومنع الخروج عن المسارات.. بمعنى التحكم بالفوضى من خلال اطرها وإحكام السيطرة على اطرافها .. وهذا يؤكد أن لا حضارات تتقاتل في ما بينها ولا صراعات حضارية تحدث، إنما تحدث في مخيلة البعض من المفكرين وبعض الفلاسفة وبعض السياسيين الذين يشكلون نخب القيادات التي تخطط للحروب والفوضى في العالم .

فالحضارات الاصلية تتطلع نحو بعضها البعض منذ عصور فجر التاريخ وتتلاقى وتتفاعل. والحضارة العربية - الاسلامية عَلَمَتْ الحضارة الغربية الكثير من المفاهيم الفلسفية والقيمية والنظمية الرفيعة، فهي في هذا الحال لم تكن عدائية ولا منغلقة، فهي معطاءة أغنت الحضارات البشرية بما تملكه من تراث بشري وانساني. وإن طبيعتها في هذا الجانب إنسانية  لا تفرق بين الاجناس على اساس اللون الابيض والاسود والاصفر.

كما ان الحضارات الاصلية في العالم يعاني الانسان فيها من مشكلات مشتركة مستعصية مثل كثرة الفقراء وقلة الاغنياء،  والهوة التي تفصل بينهما وما يترتب تباعا على ذلك من فوارق كثيرة ناجمة عن هذا التفاوت الذي يتسع مع حجم الهوة، فضلاً عن منطق القوة المبرر من قبل الغرب الذي انطلق ليسود على شكل عداء للانسان والانسانية(Anti Humanism)، دون ان يكترث بالهوية والخصوصية الثقافية للآخر، وتجريد الانسان من انسانيته وبالتالي مساواته بكائنات الطبيعة الاخرى واسقاط جوهره الانساني وجعله ذا بعدٍ واحد يتعذر عليه تجاوز واقعه او بُعْده المادي .

ومن هنا جاءت مؤتمرات السكان والمرأة وفلسفة زيادة السكان وإختلال التوازن بين عدد السكان والغذاء، والتخلف والمرض ومسألة الإجهاض والدفاع عن الشواذ جنسياً والتمحور حول الأنثى وحقوق الحيوان او الحق المطلق لأي فرد في ان يفعل ما يشاء، والعمل على إسقاط الدور الانساني للأنسان وتحويله الى انسان قادر على تغيير قيمه وأحكام دوافع اللذة لديه وان تكون دوافعه واحتياجاته واستجاباته مادية صرفة.

يتبع رجاءً ...

 

د.جودت العاني

01/08/2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم