صحيفة المثقف

حكايات مجنون (4)

عبد الرزاق اسطيطوفرح خوسيه فرحا شديدا بضم ضيعة زهور إلى ضيعته فأقام حفلة عشاء بالمناسبة على شرف ضيوفه الأجانب ، بدا منتشيا تغمره السعادة وهو يوزع كؤوس الشراب بنفسه، ويمازح الضيوف خاصة الجميلات، أووهو يحكي لهن حكايات بديئة فيضحكن بصوت عال، مما كان يثير غيرة زوجته الشقراء روزاليندا التي كانت تراقب تصرفاته، وتخاف طيشه بعد السكر فتكتم غيضها مخافة الفضيحة.. وباقتراح من زوجته، وإلحاح منها قرر خوسيه قضاء عطلة قصيرة باسبانيا، ومنها إلى ريو ديجانيرو للتمتع بجمال، وسحر شواطئها .وهكذا حزم حقائبه وسافر مساء الغد إلى طنجة، ومنها إلى اسبانيا تاركا خلفه الضيعة المترامية الأطراف تحرسها الكلاب، وعيون العسس..لم تمر أيام قلائل على سفر خوسيه وزوجته حتى اشتد الحر واختنق الكل، وصارت مدينة أبيدوم نوفوم تغلي على صفيح ساخن من شدته اشتعلت النيران في الغابة، وبعض البيوت، والمحلات. وفر سكانها إلى المدن الشاطئية فصارت عند الظهيرة أشبه بالمدن المهجورة...

تمدد العسس من شدة الحرعند القيلولة تحت أغصان الأشجار الوارفة المطلة على النهر فأخذتهم سنة من النوم فلم يعرفوا كيف، ولا متى اشتعلت النيران في كل أركان بيت خوسيه، ولم ينتبهوا للأمر إلا عندما امتدت ألسنتها بجنون إلى أكوام التبن والأشجار والكروم المحيطة بها، ومنها إلى مخازن الحبوب والعلف ، وبراميل البنزين والقصب فانتشرت بسرعة وجنون عند المساء مع هبوب الريح فاشتد لهيبها وسعارها فأتت على حظيرة الغنم والمعز ففرت منها البهائم والطيور والكلاب والأرانب مذعورة، وحاصرت النيران الإصطبل من كل الجهات فاحترقت الخيول وبعض الثيران المربوطة به.... وتصاعدت ألسنة النار الحمراء المتوهجة في الأفق فغطت سحب الدخان السماء وسارت كأشباح مخيفة فوق بيوت القرى، والمدينة .وهكذا وصل الخبر للكل ...لم يستطع العسس لوحدهم إخمادها، والحد من انتشارها الواسع والسريع فقد صارت كما لو أنها حمم بركان تتدفق من تحت أرجلهم ... حاصرتهم ألسنة النيران من كل حدب وصوب، ولما وصل رجال المطافئ مع آذان المغرب، ومعهم أهالي الأحياء والقرى المجاورة للنهر، لمساعدتهم كانت النيران قد أتت على كل شيء، وحولت الضيعة إلى رماد، وأطلال وخراب ، وكأن أفران جهنم تلقفتها دفعة واحدة أو حرب طروادة جديدة وقعت بها... اتصل الروبيورئيس العسس، والمكلف بحراسة الضيعة، وبكل صغيرة وكبيرة تحصل بها بخوسيه ليعلمه بالخبر كانت قبضة يده، وهي تمسك بالهاتف ترتعش كأوراق غصن رقيق في مهب ريح قوية، وصوته يكاد لايسمع .فقد جف، وبح حلقه من شدةالدخان، وهول مارأت عيناه، وهده الخوف على مصيره فعجزت قدماه على حمله، ونشف ريقه ...ولأنه عجز عن إخبار خوسيه بعدماخانته القدرة والكلمات، نقل الخبر لزوجته روزاليندامن غير تفاصيل ...أدى للموظف ثمن المكالمة، وغادر مصلحة البريد الوحيدة وسط المدينة على عجل ليعود إلى الضيعة من جديد.. ومن غير أن يحزم حقائبه عاد خوسيه بسرعة البرق على أول طائرة متجهة إلى طنجة ومنها إلى مدينة أبيدوم نوفوم حيث توجد ضيعته الوارفة المطلة على نهر اللوكوس... في الطائرة والدموع تغسل وجنتيه ولكي ينسى ماسمع طلب من المضيفة أن تمده بكأس من الويسكي جرعه دفعة واحدة .وطلب أخرى من غير ثلج..ومع كل كأس كان تطفو على السطح ذكرياته، وطفولته وكيف جاء مع والده الجندي إلى المغرب في بداية الاستعمار الإسباني واستقر بضفاف نهر اللوكوس المحيطة بمدينة ابيدوم نوفوم ، وكيف حول بعرقه وجهده ، ومكره البستان الوحيد الذي ورثه عن والده إلى ضيعة ممتدة كالبحرعلى مساحة واسعة من البساتين والحقول وكأنهاجنة من جنان الله على الأرض. وعندما تذكر زهور بنت العتال بجمالها وعيونها الواسعة كعيون الغزلان البرية، بكى شوقا وحنينا إليها ولعن الزمن، والقدر لأنهما سرقا منه حتى رائحتها وعطرها الذي كان يشمهما في ضيعتها بعد انتحارها .."أي لعنة هذه التي تطارد ضفاف نهر اللوكوس، وتطاردني وتطارد مدينة أبيدوم نوفوم" قال لنفسه بحرقة .ولعبت الخمرة في روحه ورأسه فصار أقرب إلى تصديق ما يقوله العسس عن لعنة عيشة تلك الجنية الجميلة التي تسكن شجرة التوت وعن كيفيةانتقامها لعشيقها الفلاقي...

منعت المضيفة الإسبانية الجميلة عن خوسيه المزيد من الشرب، وطلبت منه أن يخلد للنوم لأن في ذلك راحة له، وللركاب..لما وصل إلى الضيعة وجد كل شيء أكلته النيران، وعبثت به كالخنازير... البيت والحظيرة والإصطبل، والأشجارالمورقة، ومحاصيل القمح والشعير.....وحتى الحصان الأبيض الذي كان يحبه بهوس وجنون حد تسميته على اسمه خوسيه لم ينجو من المحرقة... نظر خوسيه إلى مكان مربط حصانه بحزن وغضب شديد ، مخاطبا إياه قائلا :" يحزنني فراقك أيها العزيز بهذا الشكل المريع..سامحني فقد كنت غبياعندما تركتك لوحدك طوال هذه الفترة" ثم انتقل ببصره إلى الأراضي الشاسعة الممتدة على طول البصر، والتي كانت تسرح فيها الخيل والثيران، ولا يستطيع جن ولا إنس الإقتراب من أسوارها وأشجارها مخافة بنادق العسس، وعصيهم، وأنياب الكلاب المفترسة وقد صارت بين عشية وضحاها صحراء سوداء، موغلة في الظلام الممزوج برائحة دخان الحرائق، وطعم الخسارة والأسى... فاجتاحه كموج حزن جارف، وندم شديدعلى أنه سمع كلام زوجته وسافر إلى اسبانيا، ومنها إلى شواطئ ريو دي جانيرو لقضاء عطلة الصيف، وخلف وراءه العسس المغفلين لحراسة الضيعة، وصب جام غضبه على زوجته عندما التحقت به عائدة من اسبانيا فانفجر في وجهها كبركان، والرذاذ يتطاير من بين شفتيه وأسنانه ويداه ترتعشان من شدة الغضب والانفعال أمسك شعرها الأشقر بعنف، وجرها حتى كاد أن يسقطها أرضا، وهو يصرخ كالمجنون في وجهها مرددا: "كاارثة.. كااارثة ..أنت السبب في كل شيء ..قلت لك دعني هنا لا أحب السفر في الصيف.." وهي بالمقابل كانت تلعن أجداد أجداده واليوم الذي أحبته فيه ... انتابت خوسيه حالة سوداوية شلت عقله بعدعراكه مع زوجته أمام الملأ فشعر بالضياع، والوحدة وبأن شيئا ما بدأ ينهار بداخله ويتهاوى إلى مياه النهركجبل من جليد في عز الصيف...في الغد وجد العسس خوسيه معلقاكأضحية العيد بحبل إلى فرع من فروع شجرة من أشجارالكاليتوس المنتشرة على طول الطريق الموصل إلى العاصمة...لم يخطر ببال روزاليندا زوجة خوسيه أن يقدم زوجها على الانتحار بهذا الشكل المريع بسبب الحريق. فقدعهدته شابا قويا وذكيا وماكرا كثعلب، وله من القوة والقدرة على تجاوز المحن ما لا تقدر عليه فحول الثيران والخيول. لذلك أحبته وتزوجته . ولما مال بروحه إلى زهور بنت العتال، كما تميل الأغصان إلى مياه النهر.وعشقها بوله وجنون كرهته وتمنت موته، وقتله ..لذلك عملت في السر، وفي العلن على خيانته مع الروبيو رئيس العسس..

كيف ضاع كل شيء في لمح البصر، وضاعت معه الضيعة بأشجارها الوارفة ؟!كيف ضعف خوسيه وانهار دفعة واحدة كقطعة ثلج تحت شمس حارقة؟! وكيف أدى به عشقه للضيعة إلى الجنون بعد احتراقها ثم إلى الإنتحار؟!..هذا ماكانت تجيب عليه زوجته وهي ترد على أسئلة الشرطة أثناء كتابة محضر مفصل لواقعة الحريق وانتحار خوسيه قائلة:" كل شيء قد يفعله خوسيه. يسكر.. يلعن.. يضرب يصرخ.. يسب.. يخون ويعشق.. يحتال و يكذب إلا أن يقتل نفسه بهذه الطريقة البشعة!. فقد كان يحب الحياة حد الجنون مثلما كان يحب الضيعة ومياه النهر والأشجار، وحصانه، وزهور بنت العتال..".

بكت بحرقة على احتراق ذكريات حبها الأول وأحلامها، وصورها الملتقطة على ضفاف النهر، وتحت أغصان أشجارالضيعة بالقرب من مهرتها المدللة ...قادت الشرطة العسس للتحقيق معهم بتهمة التآمر، والإنتقام والإهمال. وبعد التحقيق مباشرة أطلق سراحهم بعد تنازل زوجة خوسيه عن متابعتهم نظرا لحبها للربيو وتعلقها به. فهي لا تقدر على فراقه وسجنه...ولأنها فقدت القدرة على البدء من جديد في نفس المكان بعيداعن مهرتها الجامحة المرقطة بالأبيض والأسود، وخضرة البساتين، والأشجار المورقة، التي كانت تتمتع بها ساعة الغروب من شرفات بيتها الواسع، المطل مباشرة على مياه نهراللوكوس المتدفقة كأمواج البحر باعت كل أراضي خوسيه وأملاكه بمافيها الضيعة المحترقة لمهندس لم يعرف أحد لحد الآن من أين جاء بكل تلك الأموال، ليعقد صفقة البيع معها، ويطرد العسس وحمالو الرمل بحميرهم وبغالهم وعرباتهم من على ضفاف النهر....وقف العسس جميعهم ذات مساء بعد الواقعة بأيام معدودة، وانتهاء التحقيق لتوديع روزاليندا عند مدخل الضيعة..نزلت من السيارة بصعوبة، وهي ترفل في ثوب أسود يكشف عن ذراعيها المنحوتتين وصدرها الناهد . ومدت يدها بأدب ورقة لتسلم عليهم واحدا واحدا وتودعهم وداعها الأخير، وهي تمنح لكل واحد منهم مكافأة نهاية الخدمة ...بدت ملامحهم وحركاتهم، ونظراتهم وكلماتهم، وهم يودعونها مشوشة وتائهة ومرتجلة. فقد طغت الكآبة على كل شيء، وصارت مياه النهر في حلوقهم مالحة كمياه البحر بعد أن كانت عذبة رقراقة واسودت الدنيا في عيونهم ، وفقدت خضرتها وطراوتها...ولما وصل دورالروبيو، وكان واحدا من العسس المخلصين لها، والذي لم تعرف روزاليندا كيف وقعت في حبه.. جرته من ذراعه بلطف وطلبت منه أن يصعد إلى السيارة وينتظرها... لما جلست بجانبه، نظرت إليه بعيون ذابلة والألم يعصر فؤادها قائلة :"أنت تعرف كم أحبك ولا أستطيع تركك تضيع مني كما ضاعت الضيعة بأشجارها. فإن شئت السفر معي فهذا ما أتمناه وإن شئت البقاء، وهذا ما لا أوده فسوف أترك لك من المال ما يغنيك عن التعب والمذلة ". نظر الروبيو إليها بدهشة وقد شل كلامها وعطرها وجمالها تفكيره .وساد الصمت بينهما للحظات. ثم أشاح بوجهه عنها جهة النهر، وجال بعينيه الحزينتين المنكسرتين مابين أغصان الأشجار الوارفة في الجهة الأخرى من النهر المقابلة لضيعة خوسيه حيث بساتين ولد الفاسي، والجسر الممتد فوق مياه النهر، وسرح بخياله مع أسراب طيور اللقالق والسنونو، وهي تسبح في الأفق تاركة العنان لأجنحتها في الهواء لترسم ماتشاء من لوحات فنية تزين لحظة الغروب..كان يتأمل المناظر المحيطة بالنهر ويودعهاكما لو أنه يودع قطعة من روحه...قطعت روزاليندا على الربيو شروده قائلة بحزم:" ماذا قلت .القرار الآن قرارك." تمل الروبيو سحر وجهها طويلا فمن يرى روز الشقراء بقوامها الساحر، وعيونها الزرق لا يقدر على رفض طلب لها. وبحركة من يده وضع الظرف الذي مدته إليه بين يديها وضغط بقوة عليهما في دلالة على الموافقة والرضا والحب قائلا :"لقد قررت السفر معك".

وهكذا في الغد سافرا معا الى اسبانيا واستقرا هناك للأبد..وأشاع العسس عن روزاليندا زوجة خوسيه والروبيو بعد رحيلهما مباشرة مسؤولية إحراق الضيعة، وأقسموا بالله أمام الأهالي بأن الروبيو وبطلب منها هو الذي أضرم النيران في بيت خوسيه، وضيعته كي يستطيع الزواج من روزاليندا وامتلاك الضيعة، فالنيران التي امتدت، وانتشرت يقول العسس لم تكن تشبه النيران التي عرفوها وألفوها لأنها كانت شديدة الحمرة، والزرقة وتنتشربسرعة البرق، وبجنون في كل الجهات كمياه فيضان النهرعلى مدينة أبيدوم نوفوم في ليالي الشتاء الطويلة والباردة، فقد كانت تصهر، وتحرق وتعبث بكل شيء تصادفه في طريقها، وتحوله في رمشة عين إلى رماد وركام وأطلال.. كانت نارا مجنونة مدمرة لايستوعبها عقل إنسان كيفما كان.. وأقسموا كذلك أنهم شاهدوا بأم أعينهم إلى جانب الروبيو عيشة عشيقة الفلاقي بنفسها تصب البنزين على أثاث بيت خوسيه وعلى الأشجار، والتبن، وفي الإصطبل، وعلى القصب... وفي كل شبر من الضيعة، وتلقي بأعواد الثقاب المشتعلة عليها . بل أكثر من ذلك عطلت شاحنات الإطفاء، وأفرغت مياهها وسط الشوارع، ولم يكتشف الإطفائيون ذلك إلا عندما وصلوا إلى الضيعة. وإلا كيف تأتي شاحنات الإطفاء بكل هذه الضجة والسرعة وهي فارغة بلا مياه لإطفاء الحريق؟ ! وكيف تبقى مشلولة عاجزة أمام هول مارأت من نيران؟!... وتلك حكاية أخرى .

يتبع

***

عبد الرزاق اسطيطو

.......................

* "أي تشابه أو تطابق بين أسماء شخصيات القصة وأسماء الأشخاص في الواقع هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع"

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم