صحيفة المثقف

الراحل علي الوردي في ميزان: انتفاضة الحي

عبد الرضا حمد جاسماعود في هذه والتاليات للبحث في طروحات الراحل الدكتور علي الوردي له الذكر العطر ونحن في ذكرى مرور ربع قرن على رحيله له الرحمة (توفي في 13تموز1995) ستختلف التاليات عن السابقات حيث سأطرح فيها على قدر التمكن التناقضات الكثيرة التي خَزَنَتْها كتب وإصدارات الراحل الوردي ومعها بعض تحريفات وردت ومقاطع اوأمور غريبة تلك التي لا يمكن الا ان تُطرح لتشير الى ضرورة القراءة الدقيقة لما يُنشر...قد يكون بعضها متعمد وفي بعضها ما يمكن ان أقول عنه استغفال والاخر جهل كما لمستُ وقد أكون مخطئ ... سأنقل لكم طروحات الوردي المتناقضة عن الموضوع الواحد وغالبا ما سيكون ذلك دون تدخل الا إذا اقتضت الحالة وفرض التدخل نفسه حين لا يستوي الموضوع بدونه كما في هذه...مثال على ذلك سأحاول جمع ما ورد في كتب الراحل الوردي عن العبقري والعبقرية وعن الزعيم بشكل عام وليس المقصود هنا ما سار عليه العامة بان المقصود بالزعيم هو عبد لكريم قاسم ...وغيرها من الأمور. وبعدها ان كانت هناك بقية سأذهب الى ما كُتِبَ عن الراحل الوردي ذلك الذي ورد في إصدارات الأساتذة الذين كتبوا على/عن الراحل الكبير وستكون البداية مع كتاب الأستاذ الفاضل محمد عيسى الخاقاني/ مئة عام مع الوردي.

لكن اليوم وجدت ان ابدأ بموضوع اثار استغرابي وله علاقة بكتابة التاريخ وهو ما كتبه الراحل الوردي عن انتفاضة الحي/1956...سوف لن اتطرق اليها بمشاعر او مواقف سياسية انما تاريخية واجتماعية مادام الحديث عن راي عالم اجتماع بمنزلة ومكانة الدكتور علي الوردي بحدث اكيد فيه جانب اجتماعي مثل الذي جرى/ حصل عامي1954 و1956 في مدينة الحي/الكوت/العراق...حيث جرى / حصل في اوج نشاطات الراحل الوردي العلمية التدريسية منها او التأليفية (من تأليف) حيث أصدر مجموعة مهمة من كتبه خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي أي قبل الحدث واثناءه وبعده. هذا الحدث السياسي الاجتماعي المتميز كان يفرض على الراحل الوردي ان يسجل ملاحظاته هو وان لا يذهب للاستشهاد بمصدر مهما كان هذا المصدر موثوق او كان عليه على الأقل مزج الجانبين ان كان مضطراً لذلك متوخياً الدقة والحذر حيث ان الكثيرين ممن عاشوا الحدث كانوا لايزالون احياء في عام صدور الكتاب 1965 وبعضهم اهتم بالحدث والكتاب او شارك بالحدث ومن القريبين على/من الراحل الوردي...

معركة الحي

كتب الراحل الوردي عن الحدث الذي جرى وحصل خلال عامي 1954 و1956 [ في ص208 من كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي/1965 /الفصل السابع/الحرب الدائمة في العراق/العنوان الفرعي: بين المدن والقبائل التالي:[...لقد وقعت معركة بين مدينة الحي وقبيلة المياح في عام 1954 وهي كادت ان تكون شاذة وكان لها صدى في انحاء العراق وسبب المعركة ان "أل ياسين" شيوخ قبيلة المياح يملكون الاراضي المحيطة بمدينة الحي وضيقوا الخناق على المدينة وحاولوا منعها من التوسع خارج حدودها القديمة ولم يجرء موظفو الادارة على العمل لتوسيع المدينة وفك الحصار عنها وقد اعلن السيد سعيد قزاز من وزراء الداخلية السابقين امام المحكمة العسكرية العليا الخاصة أنه كان في جدال مستمر مع الشيخ عبد الله الياسين من اجل تخصيص مقبرة لأهل الحي في أراضيه]. انتهى ...(المصدر:ج10 ص108/تاريخ الوزارات العراقية/الدكتور عبد الرزاق الحسني).

رأيي/ مناقشتي/اعتراضي على ما ورد سببه ان الحدث اثار ضجة داخلية تخص المجتمع العراقي والراحل الوردي عنصر فاعل في المجتمع وعاش الحدث عليه التعبير عنه يصبح المسطرة التي يقاس بها نزاهة ودقة وصدق الباحث وهنا الدكتور الوردي حيث يمكن ان يًقال إذا كان النقل عن المُعاش من الاحداث بهذه الصورة فما بالك في النقل عن الدارسات القديمات المبعثرات وفق قال فلان وورد في كتاب فلان وعَّقب فلان ...ووفق ذلك اُسَّطر التالي:

1ـ الغريب ان الراحل الوردي قَبِلَ بهذه الصياغة التي نقشها نقشاً عن المصدر المشار اليه وهو الذي عاش تلك الاحداث بصفته مواطن عراقي وبصفته عالم اجتماع وأستاذ جامعي وقريب من السياسة والحكم بهذه الدرجة او تلك بهذا الشكل او ذاك ولأنه كما وصف ما جرى/ حصل نقلاً عن المصدر: [كادت ان تكون شاذة] [كان لها صدى في انحاء العراق كافة]. ولم يبين لماذا!! وكل مهتم بالوضع الاجتماعي العراقي وقتها ولليوم لا يستغرب من تقاتل القبائل فيما بينها وتحركاتها باتجاه المدن.

2ـ لو اكتفى بهذا النقل لكان بالإمكان طرح بعض التبرير كأن يقول قائل او حتى الوردي نفسه:’’ انه شعلية المؤرخ الحسني كَالها’’ كما كانت له مثل هذه الإجابات عندما يضطر الى الهروب من التفسير/الإجابة...لكنه عَّمَقَ الموضوع عندما نقل قول وزير الداخلية سعيد قزاز في رده على أسئلة محكمة عسكرية نُقِلَتْ وقائعها في كل وسائل الاعلام العراقية وربما بعض الخارجية وصارت هذه المحكمة علامة (مميزة) في تاريخ تلك الحقبة المتميزة من تاريخ العراق المضطرب سياسياً واجتماعياً على كل الصُعد وكان المفروض ان يتابعها الراحل الوردي بكل دقة ويجمع عنها كل القصاصات التي تطرقت لها.

اُناقش صياغة المقطع حيث كما التالي:

1ـ ورد [لقد وقعت معركة بين مدينة الحي وقبيلة المياح في عام 1954 وهي كادت ان تكون شاذة وكان لها صدى في انحاء العراق...] انتهى

كما قلتُ معركة بين القبائل او بينها وبين المدن ليس بالشيء الغريب ولا يمكن ان يكون لها صدى في كافة انحاء العراق حيث لا انترنيت ولا مواقع تواصل اجتماعي ولا صحافة يمكن ان تغطي مثل هذه المعركة بالشكل الذي يجعلها شاذة ويكون صداها في انحاء العراق الا إذا كان هناك موضع/موقع سياسي كبير خلفها ويشمل محيطها العراقي والعربي ووقوعها وسط احداث جسام او اثناء غليان عام داخلي وإقليمي ودولي وهذا ما ارشحه.

2ـ ورد [وسبب المعركة ان "أل ياسين" شيوخ قبيلة المياح يملكون الاراضي المحيطة بمدينة الحي وضيقوا الخناق على المدينة وحاولوا منعها من التوسع خارج حدودها القديمة ولم يجرء موظفو الادارة على العمل لتوسيع المدينة وفك الحصار عنها] انتهى

من هذا النص يمكن ان أتصور ان أهالي المدينة توحدوا وقاموا بالهجوم على قبيلة المياح وهذا غير مقنع ولم يحصل ويلغيه النص نفسه.

وقد كتب الوردي مضيفاً من ج9 ص86 و87 من نفس المصدرالحسني التالي في نفس الصفحة: [وقد حدث ذات يوم مشادة كلامية بين جماعة من ال ياسين وأحد الباعة من أهل الحي تطورت الى صدام بين الفريقين وبعد خمسة ايام هجم نحو مائة من قبيلة المياح صباحاً على السراجين والصاغة في سوق الحي فهب بعض اهل الحي لنجدة اخوانهم فكانت معركة دامية سقط فيها جريحان من القبيلة وخمسة عشر جريحاً من اهل الحي وقد توفي أحدهم] انتهى.

يمكن ان استنتج من هذا ان موضوع حصار المدينة من قبل قبيلة المياح لا دخل له بما جرى فالحادث/المعركة نتج/ت عن مجرد مشادة كلامية مع أحد الباعة وهذه الحالة تحصل كل يوم في كل مدينة عراقية وفي كل سوق.

3ـ ورد: [وقد أعلن السيد سعيد قزاز من وزراء الداخلية السابقين امام المحكمة العسكرية العليا الخاصة أنه كان في جدال مستمر مع الشيخ عبد الله الياسين من اجل تخصيص مقبرة لأهل الحي في أراضيه].

سأتجاوز اعتماد الوردي على الحسني وأذهب الى نص قول سعيد قزاز وهو انه كان في جدال مستمر مع الشيخ عبد الله الياسين من اجل تخصيص مقبرة لأهل الحي في أراضيه

وأسأل هنا: هل يُعقل أن حكومة لا تستطيع بأي طريقة من انتزاع عدة الاف من الأمتار المربعة من شيخ قبيلة يسيطر على مئات الاف الدوانم بدعم واسناد تلك الحكومة؟

 واعتقد كان باستطاعت الحكومة ان تتبع المثل المعروف (شَّيم البْدُّوي وخذ عباته) كما ورد هذا المثل في الكثير من كتب الوردي لتحصل على ما تريد او كان بإمكان الحكومة ان تحصل على ما تريد واضعاف ما تريد بمجرد إقامة وليمة أو امسية واحدة على شرف الشيخ/الأمير عبد الله الياسين في أحد مرابع الحكومة في بغداد!!!!

 ثم هل هناك من يعتقد/يعقل وقتها والان ان أهالي مدينة الحي يحتاجون الى مقبرة وهم الذين يدفنون موتاهم في النجف وكربلاء تبركاً؟ بل هل يعتقد أحد ان هناك مقبرة في كل وسط وجنوب العراق عدا مقبرتي النجف وكربلاء؟؟؟؟

كيف اعتقد الراحل الوردي بصحة هذا القول؟ ان تدوين هذا القول سواء من الحسني او الوردي هو دلالة اكيدة عن حالة الاغتراب التي كانا فيها وإلا كيف يخطر ببال الاثنين هذا النص دون التوقف عنده والتشكيك به او ترك علامتيّ استفهام وتعجب كبيرتين عليه. هكذا اتصور

 كما أتصور/اعتقد ان موقع الراحل الوردي كمواطن وكعالم اجتماع وككاتب يفرض عليه متابعة ما جرى/حصل/وقع بدقة وتسجيل ملاحظات كثيره عنه/عليه لان الحدث له وقع اجتماعي وكان يجب عليه ان يحتفظ بالإصدارات الصحفية التي تناولت الموضوع في حينه او في السنوات التي سبقت اصدار الكتاب او حتى البحث فيها او الاطلاع على ما كُتب عنها عندما اختار ان يحشرها في احد مؤلفاته المهمة وهي التي جرت وحصلت كما اسلفت وهو في اوج نشاطه العلمي الاجتماعي وحصلت في فترة غليان اجتماعي سياسي عراقي وعربي وعالمي اهتزت له الأركان بكل المستويات الاقتصادية والعسكرية والسياسية فمن جهة قرار تقسيم فلسطين واحتلالها وحرب 1948 وما تركته وثورة/انقلاب 1952 في مصر ومن ثم حلف بغداد والعدوان الثلاثي على مصر وتزوير الانتخابات النيابية وتسفير الاخوة الكورد الفيلية وفصل الطلاب من المدارس وسوقهم للخدمة العسكرية وما حصل في سجن الكوت وسجن بغداد.

تفسيري لهذه الحالة هو ان الوردي كتب عن المجتمع الذي عاش فيه من داخل جدران أربعة ومن تقليبه للكتب التي تضمها مكتبته العامرة...لقد تورط الوردي في فصل من فصول الكتاب وهو يحاول ان يستعرض حال المجتمع فأختار له عنوان الحرب الدائمة في العراق وخصص هذه الواقعة في عنوان فرعي هو: بين المدن والقبائل ولإكمال حشر الموضوع تحت هذا العنوان لم يجد غير انتفاضة الحي بعد ان استل تلك العبارة من كتب الدكتور الحسني ...كان لديه الوقت الكافي ليبحث عما جرى حيث المسافة الزمنية بين الواقعة والكتاب اكثر من عقد من الزمان وكان عليه ان يعود الى قصاصات الورق التي قيل ان الدكتور الوردي يحملها في جيبه أينما ذهب وعند سماعة لموضوع عن المجتمع العراقي يستأذن الطارح ليدونها وقيل انه يزعل عندما يجد ان احدهم لم يجلب معه ورقة وقلم ليسجل أعمدة ما يطرحه الوردي في محاضراته ...والاغرب من كل ذلك ان الوردي استعار قول وزير الداخلية في تلك الفترة سعيد قزاز امام المحكمة العسكرية ذائعة الصيت/محكمة المهداوي والتي كان على الراحل الوردي ان يكون قد حضر كل مجرياتها لأهميتها سواء كان معها او ضدها ونشرت وقائعها علناً .

وكتب الوردي بعد ذلك: [وقد أسرع محمد الحبيب شيخ قبيلة ربيعة ليتوسط في الصلح بين الفريقين وتم الصلح بينهما اخيراً ولكنه كان صلحاً ظاهرياً سرعان ما انقلب الى كارثة في عام 1956 عند اشتداد المظاهرات في الحي ضد الاعتداء الثلاثي على مصر.] انتهى

 بعد هذه السنين اسأل: بين من ومن توسط الشيخ محمد الحبيب: هل بين طرفي المشادة الكلامية ام بين قبيلة المياح والسراجين والصاغة في سوق الحي؟؟؟

يمكن ان يتدخل امير ربيعة في نزاع بين قبيلتين لكن ان يتدخل بين قبيلة كبيرة وخمسة عشر جريح كل واحد منهم يتبع قبيلة ربما فهذا غير معقول.

ثم أضاف الراحل الوردي لما سبق التالي: [ً سرعان ما انقلب الى كارثة في عام 1956 عند اشتداد المظاهرات في الحي ضد الاعتداء الثلاثي على مصر] انتهى

...هنا يتكلم الوردي عن انتفاضة عام 1956 أي بعد سنتين عن’’ المشادة الكلامية’’ ...حصل ما حصل عام 1956...ان الوردي هنا يريد ربط ما جرى في انتفاضة الحي التي هزت العراق وحكومته بتلك المشادة الكلامية بين بائع وبعض الأشخاص قبلها بسنتين. ووصفها بالكارثة لوقعها الحقيقي على كل المستويات في العراق...ومع ذلك: هل من المعقول مثل هذا الربط؟ كيف أصبحت كارثة هل تقاتل المياحيين وأصحاب المحلات التجارية والحرفيين في سوق الحي فيما بينهم من جديد ...ام انهم كانوا صفين صف مع المقاومة المصرية للغزو الثلاثي والطرف الاخر مع الغزو ضد مصر وأي الطرفين كان هنا وايهم كان هناك؟

هذا اللبس الذي افرزه عدم الدقة في النقل والربط غير المعقول للحدث وربما سيسجل في سجلات التاريخ بهذه الصيغة بالاعتماد على علمين بارزين عراقيين هما الدكتور المؤرخ الكبير عبد الرزاق الحسني والدكتور عالم الاجتماع الكبير علي الوردي وبالتالي ستتداولها الأقلام والدراسات والبحوث والاطاريح وتعتمدها.... وربما مثلها الكثير من تاريخ العراق والمنطقة. وهنا الخطورة التي دفعتني الى التطرق لهذا النص وتبيان الرأي فيه...

وهذا مع الاسف الشديد ما جرى ويجري مع دراسات الجيل الجديد وحتى جيل ما بين جيل الوردي الحسني والجيل الجديد

 

عبد الرضا حمد جاسم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم