صحيفة المثقف

اللغةُ الوصفيةُ والإدهاش السردي الروائي حين يكون التاريخ هو المرتكز

سعد الساعديمقدمة رواية "شمعون" للكاتبة الجزائرية فاطمة حفيظ

لمن نكتب؛ لمجتمع نحن معه، أو خارج سياقات الزمن والمكان؟ هذا التساؤل طالما طرحته كثيراً في مناسبات عديدة، وهنا أبدأ به هذه المقدمة لكي نستفيد من بعض جواب له، ونضيف عليه، أو نطور الغاية منه حين نخوض في المجال النقدي بعيداً عن صراعات فارغة؛ بل من أجل الوصول للحقائق الكامنة فيما نطرحه كجيل من المهتمين بالكتابة، أو من الكتّاب الساعين لخلق فاعلية مجتمعية تقترب من السعادة والفرح بالقدر الذي يسعى اليه الكاتب بطرح أفكاره الناصعة، لا الفكر الهدّام السوداوي كما عند البعض.

ليس بالأمر الهين سبر أغوار التاريخ والخروج منه بتشكيلات بنائية ذات دلالات نكهتها تتقلب بين الصفحات، صنعت لنا رواية، مثلما بين أيدينا رواية " شمعون" للكاتبة الجزائرية فاطمة حفيظ التي تصدر قريباً عن دار نشر الارادة التربوية في الجزائر، هذا الاسم الذي اختارته (شمعون) من بين أسماء كثيرة كبؤرةِ عنونةٍ تتمحور بين صراعات نفسية، وأمل لا يُعرف حقيقة جوهره، والماهيّة المنبثق منها ترابطياً بين الهاجس العقدي، والانتماء لأرض كينونتها أثارت جدلية واسعة، بسببها الى اليوم تسيل الدماء.

لا أريد الخوض في غمار أي جزء من تفاصيل الرواية كما يفعل البعض شارحاً مفسراً أغلب التفاصيل ليقول أخيراً: ولكي لا نفسد متعة قراءة القارئ نتركها اليه!

بدءاً يكون الانطلاق من اللغة التي كتبت بها الكاتبة روايتها والأسلوبية المشوقة في الوصف بتعدد المعاني الجمالية التي نتوقف عندها على ضوء نظريتنا النقدية الجديدة؛ "نظرية التحليل والارتقاء، مدرسة النقد التجديدية" ضمن محاور قليلة تقريباً لعدم سعة المكان.

إنَّ أي أديب هو كاتب شعبي قبل أن يكون كاتباً عالمياً اذا ما سنحت له فرصة العالمية لاحقاً، ومن بين طيات وثنايا الأدب الشعبي الحقيقي يرتقي الى إثارةٍ وإنارةٍ في انعطافةٍ تنويرية معرفية شديدة، لأن الأديب بأدبه راصد صادق لرحلة شعب طويلة، أحد المساهمين فيها هو، وهذا ما سارت عليه الكاتبة كموهبة جديدة هنا، كما يشتغل الناقد البصير في مختبر رصْدِه قبل أية كتابة، عبر ثقافة بمستوى من الرقي المعرفي، ولا بأس أن تكون ثقافته موسوعية كما سيلاحظ ذلك المتلقي وهو يطالع صفحات الرواية، و يا حبّذا للجميع تلك الثقافة، وليس وقفات بطيئة على الاشتغال.

الفلسفة التي انطلقت منها الكاتبة لم تكن ايديولوجية نتيجة افراز روحي وعقدي لأنها تابعة لعرف أو قانون، أو دين مغاير، لكنها انبثقت نفسياً، وشعوراً حضورياً، من أجل وصف حياة مرّ عليها التاريخ كثيراً، وتوقف عندها لمعرفة نوعية الملابسات المولدة لتناحرات ضحيتها البشر المسالم أخيراً، بعد انتهاك الحرية والكرامة، وإسباغ ذلّ العبودية عليه بصور شتى  قد تكون خارج إرادته، بسبب أخطاء آخرين لا ذنب له فيها غير أنه منتمٍ معهم فيما مضى من تاريخ لتأخذه العزة بالإثم بعد ايمان عميق فيما يأتي من تاريخ جديد.

هناك ثلاثة عوامل مهمة هي المرتكزات الأساسية التي يستند عليها الناص أو المُنتِج في عمله كتشخيص حالة يُراد لها الاهتمام والمتابعة والتلقي، نرى أن الكاتبة اشتغلت عليها، يمكن لأي متابع بعد ذلك تحليلها اجرائياً. هذه الحالة التي هي الانتاج الأدبي بشكله العام، تفسح للناقد و للمتلقي المجال في فهم فلسفة النص أولاً بعد كشفها، أو تحديدها بشكل أكثر وضوحاً،  وفلسفة النص في رواية "شمعون" تسعى لكشف التطورية العدالية ضمن المسيرة البشرية، وهل هناك نوعيات خاصة للحرية، أم الجبر القسري هو من يزجّ بولادة غضبٍ قسري داخلي ذاتياً، يندفع بشكل غضبٍ عام فقط يحفز المصلحة الفردية بظهور الانانية بكل تجلياتها ليعمَّ الشرّ بعد ذلك، وكيف يمكن معرفة الحقيقة كشاهد لا يعرف التزوير أمام التاريخ، وليس تمجيداً أو انتقاصاً، واسترجاع التصور المنبثق عن الكرامة المسروقة في أغلب ما جاء في الرواية كسرد تعبيري انتهجته الكاتبة في حبكة حوارية جاءت من راوٍ خبير، وثنائية تشاركية شخصوية مُسترسَلة بالوصف الابتكاري، بلغة معبِّرة، تحمل الكثير من التي تغلف العمل، كتبئير ارتكازي يرتكز على أهم ما جاءت به وهو: اللغة، والمعنى، والجمال.

مجيء النص الروائي بفكرة عميقة المعنى يقود المتلقي الى الابتعاد عن الظاهرة القشـرية لذلك النص، ولأنَّ الوظيفة النقدية تعتمد على عناصر مهمة في التحليل والكشف، فلا بد لها كي تعطي النتائج المثمرة الاعتماد على مرتكـزات الكشـف الذاتـي والموضوعي من خلال: النص والمتلقي والتأثير في الثقافة العامة، وهذا واضح في الاشتغال المتوافق تصاعدياً لدى الكاتبة في هذه الرواية بخلق دفق الترقب، والاكثار من تساؤلات المتلقي الداخلية، لمعرفة مآل الأحداث، وكيف تكون النهاية، كي يبقى حتى النهاية مشدوداً يكثر في كل مرة توقعات متَصَوَّرَة ادراكياً نجحت الكاتبة في انشائها.

نحيل كل ذلك الى المتلقي اللبيب حين يفتش بدقة بين ثنايا الرواية ليعرف ماذا أرادت الكاتبة، والى ماذا سعت، وأين مكامن القوة التصارعية الظاهرة والمضمرة في عموم النص، وكيف أمسكت الكاتبة بشدّة بهذه المرتكزات وأنتجت لنا رواية فيها الكثير من الصور والألوان ككاتبة ليست متمرّسة بكتابة الروايات لها باع طويل في هذا المجال، بل هي باكورة اعمالها، بذلت فيها الجهد الذي لا نسعى لتلميع صورته، بقدر الاشادة بقدرة الشجاعة الكتابية في ظل مرحلة حساسة تشير اليها الرواية بعمق غزير.

واذا عرفنا أن النص يتشكّل من تركيب وبناء مجموعة من الجمل مع بعضها، غير أن هذا التركيب الموقعي للجمل لا ينفع أحياناً وحده في بناء النص، إذ يمكن أن تتلاحق الكثير من الجُمل لكنها تبقى غير متمكنة عن أن تشكّل نصّاً بترابط مقنع وذي دلالة، وعليه فلابد من وجود تعالقات بين عناصر واردة في تلك الجمل المتتالية تفي بالغرض من المعنى والفهم العام، وهذا أيضاً ما اشتغلت عليه الكاتبة حفيظ ابتداءً من أول فصل في الرواية عندما وضعت اقتباساً استهلالياً فوق كل فصل يليه ترقيم وعنوان جديد تابع.

من خلال ما سبق، بعد قراءة الرواية بتمعن، تتجلى غاية وقصد أرادته الكاتبة كمرسل يقوم بإرسال رسالته الى قارئ (متلقٍ) عبر عملية اتصال لا تحتاج الى تشفير في بعض جوانبها رغم وجودها هنا؛ بل أنها رسالة اعلامية واضحة المباني والمعاني قَصَدَ صاحبها إيصالها الى جمهور خاص أو عام، عبر كلمات الرواية بما تحمل من إيحاءات وتشبيهات، وصور بلاغية متنوعة بالوصف والتشكيل، ونزف خلجات نفسية عميقة على سطح الورقة هي في الحقيقة رؤية وفلسفة الكاتبة الحياتية، وفق طروحاتها الذاتية كصانع للشخوص، ومحدد للمسارات، بلسان الراوي الواصف، وليس بلسان السارد المباشر، لنكتشف أخيراً أنها ابتعدت جداً عن المباشرة والتقريرية التي لم تعد تتساوق مع الكتابات التجديدية اليوم، وثمة اكتشاف آخر جاء كمحصلة وهو: انشاء بيانات مميزة في الكثير مما كتبته فاطمة حفيظ تستحق التأمل والوقوف عندها بما لها من إيحاءات دلالية تعزز من القوة السردية بتموجها وتأججها اللغوي التجديدي، والمقدرة الفنية التي نهجتها كروائية.

 

كتبها سعد الساعدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم