صحيفة المثقف

جدلية الرمز المحتجب والواقع المكشوف

1698  غئب طعمة فرمان إن رواية القربان* لغائب طعمة فرمان، قابلة كلها لأن تفسر على مستويين الواقعي والرمزي حتى نقوم بفتح مغاليق النص، وليس هذا فقط بل إذا (كان العمل رمزياً فعلى أي من قواعد القراءة نعتمد)(1).

ستكون قراءتنا حينئذ قراءة داخل النص وخارجه(2) ، وهذا بدوره سيجعلنا نتمتع بقراءة جمالية – نصية مفتوحة على دلالات رمزية واستراتيجية للنص تعمل على توزيع الأبعاد المرسومة لها بدقة ووضعها في مكانها الصحيح من أجل التعامل والتفاعل معها لخلق صورة سحرية، لذا كان التمثيل للرمز كثيفاً، وكان اللجوء إليه تهرباً من المباشرة في الطرح التاريخي – السياسي وأن (الإحالة إلى رمز أو إلى ميثولوجيا، لا تعني الإحالة إلى فكرة، فالرمز تجربة إنسانية مكثفة، والعلاقة بين العمل الفني والرموز المحال إليها، ليست علاقة بسيطة كما في الاستعارة أو التشبيه، ولا علاقة راكدة كما تكون العلاقة بين الفكرة والمثال التوضيحي: العلاقة بين الاثنين هي علاقة جدلية معقدة )(3)، وهذا بدوره لا يعني أن النص – الأدبي لم يستوفِ أسسه الفنية إلا بالرمز، والزمن التاريخي للرواية غائب تماماً، وجعله فرمان زمناً مؤولاً من أزمنة متداخلة في الرواية، خلاف الزمن التاريخي الواضح في رواياته السابقة . (النخلة والجيران) أحداثها تدور في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها (خمسة أصوات) قبل ثورة 14 تموز (المخاض) الفترة القاسمية، وهذا ما يشاهده القارئ من خلال تداخل الأجيال الثلاثة – الجيل الأول دبش / الجيل الثاني مظلومة وصباح وياسر ../ الجيل الثالث عزيز و فتاح(4) – وهذا أيضاً جعل الرواية تمتلك مسارين الواقعي الوهمي المنحرف عن الواقع الحقيقي بلغته وضمنيته، فبدأ هذا الواقع الوهمي الذي ابتدعه فرمان أكثر دلالة تعبيرية وأعمق مغزى من الواقع الفعلي، والواقع الوهمي والرمزي هما في اللحظة ذاتها متداخلان يستحيل على القارئ أو الناقد أن يقوم بفصلهما أو أن يتناول واحداً دون الآخر، فهما بنية واحدة تقودك إلى بعدين مع رؤية مزدوجة ( ثنائية المعنى – ثنائية الدلالة ) .

(اشتعل عود ثقاب في الظلام ) ص7 .

في هذا المفتتح للرواية يعطينا فرمان صورة متحولة إلى استعارة ثم إلى رمز، النور والخير مقابل الظلام والشر، وهذا المفتتح يُعد مخططاً جدلياً أولياً على ما ستكون عليه الرواية .

(ارتعشت يداها وهي تشعل عود ثقاب) ص253 .

يشتعل عود ثقاب في بداية الرواية، ويشتعل عود ثقاب في نهاية الرواية، وما بين البداية والنهاية تربض وقائع وأحداث الرواية، ولكن ما معنى ذلك؟ معناه أن النور والخير يعملان على إزاحة الظلام والشر، معناه أن هناك صراعاً في السر والعلن، صراعاً محتجباً ومكشوفاً، فهكذا منح فرمان روايته رؤيا استشراقية مفتوحة لميلاد أسطورة فـ (الحديث عن الحاجة إلى أسطورة، في حالة كاتب خيالي، إشارة إلى شعوره بحاجته إلى الاشتراك في مجتمعه )(5) .

وكلما يشتعل عود ثقاب يحرق معه شخصية روائية، ففي الاحتراق الأول قتل دبش، وفي الاحتراق الأخير انتحرت زنوبة، فما بين العودين يتجول الموت، فعود الثقاب أصبح يمتلك معنيين ودلالتين الحياة والموت، فكانت بحق رواية سوداء، رواية ملعونة بالموت، وأيضاً يكّون عود الثقاب للقارئ مدخلاً مضاء ليدلف منه إلى عالم الرواية بأجمعه، ثم ليكوّن مخرجاً للرواية، ومؤدياً وظيفة واقعية – رمزية داخل بنية النص وخارجها .

واستطاع فرمان أن يحول الرؤية الروائية إلى معنى جمالي مع ثنائية متضمنة بحرفيتها مع الدلالة الرمزية (مظلومة – زنوبة – الصبي فتاح وعزيز)، إلا أن الرواية إذ تنمو موقفاً بعد موقف تثير جهراً أسئلة عدة ينطوي عليها عنوانها القربان:

- ماذا يعني مقتل دبش؟

- ماذا يعني انتحار زنوبة؟

- لمَ قُتل ياسر؟

- هل مظلومة رمز لطبقة، لشعب، لوطن؟

- ماذا يرمز حسن العلوان في النص – الروائي؟

أسئلة كثيرة تبحث عن أجوبة في فضاء النص – الروائي وكلمة السر لا يعثر عليها إلا بعد قراءة متأنية عميقة .

اللافت للنظر في رواية القربان أنها تخلو من المثقفين (الأنتلجنسيا)، ومن الراوي المتعدد، ومن الحكاية داخل الحكاية، ورغم الرؤية الأيديولوجية لفرمان،، وحياديته واحتفاظه بوجهة نظره قدر الإمكان، فقد جاء العمل الأدبي محملاً بالرمز السياسي، ولكن هذا لا ينفي بأن في كل (إبداع هاجساً سياسياً معلناً أو مبطناً، ليس ثمة إبداع غير سياسي، أي خارج التاريخ)(6) .

يكاد يحتل الفضاء المكاني أهمية قصوى في رواية (القربان)، بل يكاد يبلغ حداً لم يصله في أية رواية لفرمان، وأصبح يؤدي وظيفة قيمية كبيرة ليس ذلك فحسب بل أسبغ عليه بعداً سوسيولوجياً وسايكولوجياً، وبلغ الصراع والتناقض مداه بين الأمكنة والأشخاص (عبد الله / المقهى – السجن)، إن المكان / الفضاء هذا موجود كرمز أكثر منه كفضاء واقع فالفضاء الرمزي – المتخيل يزيح دائماً الفضاء الواقعي الوجودي .

لقد أراد فرمان أن ينقل صراعات وتناقضات مجتمع عراق الخمسينات والستينات، بكل فئاته وأحزابه وطبقاته إلى المحلة البغدادية – بأزقتها ودكاكينها وأسواقها وبيوتها – التي لم تستطع بدورها أن تحتويه، لأنها فضاء مكاني محدد ضيق محصور في دائرة، ولذا لم تنجح عملية اختزال بغداد – العراق إلى المحلة البغدادية، ومن ثم يمكن قراءة صراع الرواية من خلال قراءة الأمكنة وتحسسها والتي تشكل علامات أساسية في بناء الرواية .

إن الفضاء المكاني يُعدّ جزءاً من فضاء النص الروائي، والتفاعل والتأثير بينهما يظهر على الأشخاص والأشياء بوضوح، وهذا يتم رصده واستخلاصه من خلال تفكيك فضاء النص الذي يقوم بدوره بفضح أسرار اللغة السردية المتناسلة فيه، فلقد كانت الرواية تسير في فضاء النص – المفتوح المنتج شخصيات روائية مفتوحة ذوات بنيات متحركة متغيرة، وهذا ما لمسناه في بداية ونهاية الرواية المفتوحة، فالأمكنة المفتوحة منحت الرواية زخم الإيجابية والانفتاح على كافة الأصعدة .

تُعد مظلومة البطلة الرئيسية في الرواية، فهي البؤرة والمحور فيها، وكل شخصيات الرواية مشدودون إليها كلّ حسب العلاقة الموجودة بينهما ونوعية العلاقة، وهذه العلاقة تتحدد ضمن الظروف والمواقف والمصالح السائدة، فعلاقة حسن العلوان بمظلومة غير علاقة صباح، وهكذا فمن هنا نستطيع الإمساك بخيوط اللعبة والتحليق في فضائها، وعلى هذا الأساس نقدر أن نحدد ونؤشر الوعي – الطبقي للأفراد، واكتشاف مدى عمق التناقضات الاجتماعي – الفكرية ونوعية هذا الوعي، وفي أية خانة يكون، أهو مظلل؟ أم لا؟ لأن الوعي يجعلهم يخلقون من جديد ويستعيدون استقلالهم الاقتصادي الذي سلخته منهم القوى الظالمة المستغلة التي حولتهم إلى ظواهر عفوية مُغرّبة ووعيهم يتجدد ويتجذر من خلال صراعهم مع العالم .

عملياً لم تتغير حياة مظلومة في الرواية، ما قبل وما بعد موت دبش، لماذا؟ لأن الثروة التي كانت في حياة أبيها لم تول إليها ولا تعرف عنها شيئاً، إنما آلت إلى الوصي (القسري) – حسن العلوان، فكانت سجينة منذ وفاة – اغتيال أمها المدانة دائماً من قبل دبش بالخيانة، قاصر، لا تمتلك وعياً ناضجاً، علاقتها بالعالم المحيط بها محدودة جداً تصل إلى حد السذاجة ومن الحوار التالي نتمكن من استنتاج أشياء كثيرة:

[ قال دبش لمظلومة:

- سأحبسك طول عمرك أنت عاشقة وأنا لا أدري .

- لا أعرف ما هو العشق .

- أمك خائنة .

- أمي وفية ] ص47

هذا الحوار يجعلنا نبني رؤية واضحة عن علاقة مظلومة بالعالم وبالآخرين وانعكاسه عليها، وكلنا نلمس بأنه لا توجد وشائج حقيقية قوية بينها وبين الآخرين والأشياء، فـ دبش قد قام بتحديد هذه وجعلها محكومة به، لذا أصبحت مظلومة تتطلع وتنظر الى العالم المحيط بها من خلال سادية دبش واضطهاده لها، ومن خلال الرعب والهلع الذي تحيا به والوحدة، شعورها دليلها وليس فكرها ولكنها كانت تحتضن الحياة وأحساسها بالأشياء عميق، فكلما توغلنا في دواخل مظلومة نعثر على رمز ودلالة، فهي الأنثى المستلبة والطبقة المضطهدة، إنها مزيج هيليني من الرموز مستنداً الى الواقع، البعض جعلها رمزاً للعراق فيقول الناقد العراقي الدكتور نجم عبد الله كاظم بأن (أهم رموز " القربان " شخصية " مظلومة " التي ترمز الى العراق )(7)، ويتفق معه في ذلك الدكتور صالح هويدي ( إن " مظلومة " بهذا المعنى إنما ترمز إلى العراق أو إلى " الشعب " العراقي)(8)، ولكن كلمة العراق كلمة مطلقة تتضمن دلالات تجريدية .

أما دبش صاحب الأملاك في المحلة البغدادية من دور ومحلات وحمام وزورخانة ومقهى، جشع لا حدود لجشعه، ظالم، مكروه، وهذه الشخصية تعد شخصية نمطية متكاملة الاوصاف الفنية، عمقت الصراع – الطبقي بالممارسات اللاإنسانية وباستغلالها للآخرين، وهذا النهج عمل على إنضاج الوعي – الطبقي للشخصيات الضد، ولكن هذه الشخصية كانت تحمل في اللحظة ذاتها بذرة فنائها وموتها وانهيارها لأن ( الإنسان على صعيد علاقاته الشخصية يدخل بواسطة الغير في علاقة مع ذاته)(9) . فكانت هذه العلاقة غير أصيلة ممسوخة لا إنسانية، لذا كان لابد من موت هذه الظاهرة ولابد من (مبادرة إذن للاطاحة)(10) بها، فدبش يعد رمزاً واضح الدلالات لموت الأيديولوجية البرجوازية الرجعية .

بعد إزاحة الواقع الر وائي المنظور لمظلومة ودبش تضعها هذه الإزاحة أمام المنافذ الرمزية المطلة على الشخصية الغائبة / الحاضرة حسن العلوان الذي يرجع إليه الفعل في تعميق الرؤية المأساوية للرواية، من خلال تحكمه في الأشخاص الذين يديرون المقهى التي تجري على ارضها الأحداث المهمة والخطيرة، ولم تخرج علاقته عنهم (دبش، ياسر، عبد الله ) لماذا هؤلاء بالذات يستطيع أن يوجههم نحو كل ما هو ضد مصلحة المجموع؟

[- لم يحصّل أحد غير حسن العلوان .

- حسن العلوان !] ص 137 .

ويبقى حسن العلوان علامة تعجب للجميع، بـ فحيح صوته، وبفعله المشبوه دائماً، وأينما يحل يترك وراءه آثار المأساة مع شر متشظٍ، إنه أخطبوط ذو ألف ذراع يمدها في أية زاوية مظلمة، إنه البرجوازية – الطفيلية . أما المقهى فعند تجاوزه للواقع الروائي ونفضه للرؤية يصبح (رمزاً للعراق)(11):

[ اليوم سأذهب إلى المقهى رغماً عنه ..إنه ليس مقهاه، بل مقهى الطرف .. أو مقهى مظلومة إذا أردت الحقيقة] ص102 .

بعد موت دبش يستلم ياسر إدارة المقهى / العراق ويصبح (الكل في الكل) ص114 في إدارتها، ولكن تبقى عنده عقدة مظلومة، فهو يفكر بها وبثروتها ويطمح أن يحقق مطامحه من خلال زواجه منها . ولكن تبقى مظلومة بعيدة جداً عنه وتأتي الضربة القاضية على يد حسن العلوان عندما يروم تزويج مظلومة بأحد معارفه بعد أن باركه ياسر بالشهادة الشفوية للوصية على مظلومة، هنا تتحقق القطيعة الكاملة والتامة بينه وبين الناس ويدخل مرحلة الانذهال والتفاجؤ و(لم يعد راضياً عنهم ولا عن نفسه، شيء يقف كالجدار بينه وبين العالم) ص135 . وأخيراً يلفظ أنفاسه مقتولاً على قارعة الطريق ملفوفاً بوحدته متوشحاً خيبته، إنه القوى التي خسرت نفسها وخسرت العالم، فلقد كان كان يمشي داخل صهريج مليء بالديناميت .

زنوبة، مزيج من العقل والجنون من الخيال والواقع، هكذا صورها فرمان تناقض عميق ولكنها حقيقة عارية وحادة، فالوضع الإنساني لها يتدفق علينا بأنسيابية وهي مرفوضة إذا نظر إليها من زاوية حياتية مع مجمل تفاصيل أقوالها وأفعالها ومقبولة إذا نُظر إليها من زاوية فنية بحتة، وتبقى قيمتها الفنية في حقيقتها رغم أن (الناس الآخرين الذين يعتبرون الحقيقة ضرباً من الجنون أو الغباء)(12) . قبل موت دبش لم نتعرف عليها إلا من خلال مشهد شرائها للفطور لدبش، وبعد موته تبرز بشكل حاد وملموس صدم القارئ بها، لماذا هذا التحول المفاجئ في السرد الروائي تجاه زنوبة؟ إن التغلغل في أعماق نفس زنوبة اللامستقرة واللامنجزة يقذفنا إلى خارج النص الروائي لمعرفة دلالتها الرمزية فـ زنوبة كسفينة (حب في زمن الكوليرا) التي رفعت العلم الأصفر للدلالة على أن مرض الكوليرا منتشر على السفينة من أجل ان يتعاطى العاشقون الحب، فهكذا زنوبة رفعها فرمان في الرواية لكي يشحنها بالدلالات والإيماءات مع إيقاعات رمزية وواقعية فلم تكن رمزيته محض رمزية مجردة شكلية، بل رمزية ممزوجة بالحياة والأشياء والعالم، فـ زنوبة الثورة التي أداروا ظهورهم لها وجعلوها تحبل بالقرارات والأعمال غير الشرعية ولتنتحر وسط الرعب من المستقبل والرعب من الآخرين والتخلي عنها فهي الحلقة غير المكتملة وغير الواعية لظروفها، استغلت أبشع استغلال نتيجة لذلك من قبل الطارئين والتافهين، فحساني الذي غرر بها يعرف نفسه كم هو تافه أحسن من أي شخص آخر، هؤلاء ليسوا أبطالها الحقيقيين هؤلاء كانوا مدسوسين من أجل تلويثها والطعن في نقائها كما فعل حساني بـ زنوبة بمساعدة القوى المضادة التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية الطبقية وحلمها لم يستطع اختراق اللاممكن في الواقع المتحول إلى وهم، الذي ألجأها لتمارس العادة في الظلام زمنها المطلق المحكومة به اجتماعياً هو جحيم الأرض .

وبالخيال الذي يتغدى على الحقيقة استطاع فرمان تصوير الواقع، تصوير زنوبة، مبتعداً عن الواقعية – الاشتراكية التي (تتطلب النفاق وتصوير الواقع على نحو رومانسي يغاير تماماً ما يجري على أرض الواقع)(13)، أي مبتعداً عن الواقعية التي تعمل على خلق الأبطال الإيجابيين فقط، أبطال (السوبرمان) كما صرح بذلك في أواخر حياته المفكر والفيلسوف جورج لوكاش، بأنه يوجد أبطال سلبيون كما يوجد أبطال إيجابيون، أي العمل على تصوير الواقع من خلال الخيال الجامح، لا العمل على تزوير الواقع وإضفاء صفات ليست به وتحويله إلى واقع خارق خرافي لا يحتمله الواقع نفسه، فالبطل له حدوده الدلالية الواضحة المعالم: (إنه يفعل، ويعاني، ويفكر، ويعي ضمن حدود وجوده المتحقق أي في حدود صورته الفنية المحددة بوصفها واقعاً حقيقياً إنه عاجز عن التوقف عن كونه ما هو عليه بالفعل، أي عاجز عن الخروج من حدود الشخصية)(14) .

عند قراءتي لمشهد احتضار والدة زنوبة، يذكرني هذا بمشهد ميرسو وهو جالس بالقرب من جثمان والدته المسجى على السرير، يحيط به الموت، بعد مراسيم دفنها، يذهب مباشرة مع عشيقته ماري للسباحة ثم للمضاجعة، فـ زنوبة عند احتضار والدتها تذهب لجلب ياسر وهي تكاد (تطير فرحاً) ص168، وتدخله غرفتها بمراسيم غاية في السرية، والانطلاق والحيوية، لتمتزج برائحة الموت الجاثم بالقرب منها والزاحف في أرجاء الغرفة لتراودها (شهوة شريرة) ص169، فالموت يوحدهما، يطلقهما إلى العالم، يقذفهما إلى المجهول، ميرسو وزنوبة، فمن خلال الموت يقوى نسغ الحياة عندهما، ويزدادان تعلقاً بها فالموت يساوي الحياة عندهما لافرق بينهما إلا بالعمق والصدق والانفتاح على المسارين، الغائية في هذا الموقف هو الحقيقة، كما يوجد موت توجد حياة، هذه حقيقة وعلينا أن نخضع لها بكل صدق، هكذا صور فرمان هذا الصراع، الفناء والبقاء، إشارة إلى الوجود، إلى وجودنا، إشارة إلى الفعل الإنساني المتناقض الذي لا يفسر إلى الظاهرة (الإنسان) المليء بالإشارات والرموز . وفي هذه يستخدم فرمان الإشارة بكل ذكاء إلى أن الثورة – زنوبة، التي تضع النفط في رأسها من أجل القضاء على القمل – الطفيلي الذي يعيش عليها ولا يمكن القضاء عليه، إلا بالانتحار سوياً الثورة والطفيليين،إشارة واضحة إلى الصورة الفنية والواقع الروائي إلى البرجوازية – الطفيلية التي تحيل مكتسبات الثورة إليها وإلى الموت القادم الذي لا مفر منه بتاتاً من أجل التطهر:

- زنوبة، ليش رائحة النفط في رأسك تعط .

- أخاف من القمل) ص70 .

القمل والنفط، وظفهما فرمان لرؤية مزدوجة (ثنائية المعنى) في إشارة ذكية وطبيعية وتلقائية تثير الإعجاب لاستخدامه ذلك مع وجهة نظر طبقية مزدوجة ترى بها (بكل وضوح الفارق من وجهة النظر البرجوازية ووجهة النظر البروليتارية)(15) .

في هذا العمل الروائي تبرز مشكلة أساسية عند الشخصيات الروائية هي أن الأغلبية منهم يعانون من الوحدة السوسيولوجية بشكل مفزع ومخيف مع وحدة سايكولوجية: (وأحس سلمان بالتعاسة وكأن العالم انقلب إلى خواء) ص138 .

وتشعر مع ياسر بأنك وحيد وحدة مطلقة مع ذاتك بقوله: (العالم خواء، لا أهل ولا أقارب) ص30 .

أما مع معلم الرياضيات علي فتُحس كم ثقيلة وتعسة الوحدة: (الوحدة لا تحتمل) ص189 .

لكن رغم الصراع والتناقض فـ غائب طعمة فرمان يقودك من حيث لا تدري إلى مجسات غاية في الذاتية وفي السرية ليعرض الصورة الداخلية للشخصيات وولعهم بـ ("حقيقتهم " هو الذي يحدد موقفهم تجاه الناس الآخرين ويشكل نموذجاً حياً لعزلة وانفرادية هؤلاء الأبطال )(16)، وهذه المجسات تدخل ضمن الصراع الاجتماعي العام، وعبد الله الصانع الثاني لمقهى دبش خير من يمثل (هؤلاء) في قدريته واستسلامه لوضعه الاجتماعي وشعوره بالغبن والمرارة وعدم المساواة، ولم ( يكن أمامه في كثير من الأحيان إلا البحث عن مخرج من السماء)(17)، وحواره مع زوجته يوضح لنا هذه الصورة المرسومة من قبل فرمان:

[- الله كريم .

تأففت الزوجة وقالت:

- كسبنا كثيراً من " الله كريم "

- لطيفة لا تكفري .

واستغفر لها وله ] ص94 .

وضغط الوضع الاجتماعي والتأزم السايكولوجي وضعف الشخصية يؤدي ذلك بعبد الله إلى قطع الخيوط الواهية التي تربطه وإلى الانفصام بينه وبين الآخرين والعالم، وإلى غياب الوعي الذاتي والمجتمعي الى الجنون .

ويبقى القربان والضحية في رواية (القربان) هو المجتمع العراقي .

 

أسامة غانم

....................

الهوامش والإحالات:

* القربان – مطبعة الاديب البغدادية، بغداد / 1975 .

1- رولان بارت – نقد وحقيقة – ت الدكتور منذر عياشي ص80 مركز الإنماء الحضاري، بيروت .

2- أسامة غانم – غائب طعمة فرمان الحاضر في الذاكرة الذهبية ص133 مجلة الواح العدد 6/1999 مدريد – اسبانيا .

3- الاستشهاد لغالب هلسا من الدراسة النقدية للدكتور عبد الرحمن ياغي (رؤية غالب هلسا النقدية) – المنشورة في مجلة الاقلام العراقية العدد 11-12/ تشرين 2 / كانون 1 / 1996، ص46 .

4- موفق الشديدي – القربان – ص123 مجلة الثقافة الجديدة العدد11 (70) تشرين 2 – كانون 1 1975.

5- رينيه ويلك، أوستن وارن – نظرية الأدب – د محي الدين صبحي مراجعة الدكتور حسام الخطيب ص248 – المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية – مطبعة خالد الطرابيشي دمشق 1972 .

6- نجيب العوفي – جدل القراءة – ص128 دار النشر المغربية الدار البيضاء 1983.

7- د. نجم عبد الله كاظم – الرواية في العراق 1965 – 1980 ص 70 دار الشؤون الثقافية، بغداد 1987 .

8- د.صالح هويدي – الرتميز في الفن القصصي العراقي الحديث – ص93 دار الشؤون الثقافية، بغداد 1989 .

9- د.نمير العاني – الرابطة العامة لظواهر الواقع – ص59 مجلة الثقافة الجديدة – العدد 11 (70) تشرين 2 – كانون1 1975 .

10- موفق الشديدي – القربان – ص124 .

11- د.صالح هويدي – الترميز في الفن القصصي العراقي الحديث – ص110 . أتفق مع الدكتور هويدي فيما ذهب إليه من تفسيره للمقهى بأنها العراق، رغم تراجعه عن ذلك بعد سطر واحد وتناقضه لما قاله (لكن هذه الدلالة الرمزية سرعان ما تشهد نكوصاً ..مع ما توحيه)، لأن عبد الله قام بالانتقال إلى المقهى الجديد، لماذا لا نقول بأن العراق دخل مرحلة جديدة مع عبد الله؟

وقد تناول الناقد عبد الجبار عباس هذا التفسير للدكتور هويدي بأسهاب في دراسته الموسومة (الرمز وألوان التوظيف الرمزي في القصة العراقية) القسم الثاني المنشورة في جريدة الثورة 7/1/1989 والمضمنة في كتاب (الحبكة المنغمة) اعداد د.علي جواد الطاهر وعائد خصباك، دار الشؤون الثقافية بغداد 1994 .

وللعلم، فقد فسر الدكتور هويدي بأن مظلومة ترمز إلى العراق (ص93) أيضاً مع أن المقهى مساحة مكانية تتواجد فيها ناس كذا العراق مساحة مكانية يتواجد عليها ناس، وهذا الأقرب والأصوب من جعل مظلومة ترمز إلى العراق وإذا قمنا بقراءة النص – الروائي بتمعن دون تفسيرات مسبقة تكون مظلومة بعيدة كل البعد عن رمز – العراق . وأعتقد أن الدكتور هويدي قد أخذ هذا التفسير دون أن يشير إليه من كتاب (الرواية العراقية) للدكتور نجم عبد الله كاظم ص70 .

12- م باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي – ت الدكتور جميل نصيف التكريتي، مراجعة الدكتورة حياة شرارة ص222 دار الشؤون الثقافية، بغداد 1986 .

13- د/ رمسيس عوض، المنشقون السوفييت والواقعية الاشتراكية ص142، مجلة المنار، العدد 61، كانون الثاني 1990 .

14- م باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي – ص73 .

15- جورج لوكاش – التاريخ والوعي الطبقي – ترجمة حنا الشاعر ص153 دار الأندلس، بيروت ط2 1982 .

16- م باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي ص222 .

17- د. عبد الله حنا – الحركة الثورية العربية بين العوامل الخارجية وموقعها داخل الطبقات الاجتماعية ص342 – مجلة النهج 23/24 العدد الثاني 1989.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم