صحيفة المثقف

مشهديَّةُ الموت في قصيدة (مُترجّلاً ليُحلّق)

وليد العرفي مرثيَّةُ الشَّاعر: طارق الحلفي

يعدُّ غرض الرثاء في الشعر أحد الأغراض الرئيسة فيه، وهو قسيم المديح الذي يكاد يُشكّل مساحة أكبر من حيث إنه كان يشغل مساحة أكبر في اهتمام الشاعر؛ لا رتباطه بالنفعية الشخصية والمصلحة الذاتية، وهو بذلك يبتعد عن غرض الرثاء الذي يبرز لنا غرضاً سامياً مُنزَّهاً عن كل غاية مبرَّأً من كل شائبة؛  فهو غرض ينبض بالحقيقة، ومرآة النفس الصادقة التي تعكس  حالة فقد صديق، أو قريب .

ينحصر غرض الرّثاء في الشّعر العربي بمضمونه الوحيد الإنسان في أجلّ تساميه، وهو الغرض الذي لا يتغيَّا غاية إلا البوح والتعبير عن مخالجات النفس في لحظة وداع هي أكثر لحظات الوداع مأساة وحزناً؛ لأنها لحظة لا لقاء بعدها، وأمام مشهد الموت تبدو قوّة الإنسان ضعفاً، واتّساع مساحة البوح ضيقة، إذ يبدو الكلام عاجزاً عن التعبير، والعين حاسرة عن تصوير الموقف، وفي هذه القصيدة يعيش الشاعر طارق الحلفي حالة فقد ثنائية تتمثّل بفقد الأخ  وابنته، وهو ما يجعل إحساسه بالفقد أكثر إيلاماً، و يجعل الكلام غير قادر على الإبانة، مثلما ينعكس حزن الذات على الواقع الموضوعي ؛ فيرى المكان أصبح ضيقاً، وهو ما يجعل الشاعر يختار مساحة أخرى يسير عليها في هذا المكان الذي يجد طرقاته في أطراف القلب، وقد أعجزته العبارة، وانعقد اللسان عن الكلام  :

ضيقًا كان الكلام

ضيقًا كان المكان

وأنا أمشي على أطرافِ قلبي

وعلى عيّ اللسان

نائحًا كان حوارُ الروحِ من جور الحكايةْ

وفي ظلّ مأساوية الحالة، وقسوة المشهد اللحظي يحاول الشاعر أن يستعيد صورة الأمس التي تحمل في مضامينها جماليّة تلك الاستعادة بما كانت تحفل فيه تلك الذكريات من خصوصيّة كان فيها الأخ يستلذُّ بمتعة الحياة في مصاحبة أخيه :

لم أكن وحدي على جرفِ الطفولةْ

فأنا أحملُ في خبزِ شعيري ذكريات

دهشتي الأولى وصوتكْ

وامتدادَ الصحوِ في عتمة جهلي

لتنحّي كلّ ما خالجَ روحي

من شرايين التكلس..

طرقاتِ الخوفِ والدغلَ، غبارَ الوحشة،

الماءَ الذي التفت يداهُ ذات يومٍ حول جذعي

لأطير بحمامات الصبا

نحو رؤيايَّ وأرضِ الذكريات

وفي صور الاستعادة يتبدّى لنا رجوع الشاعر إلى ذلك الماضي، وكأنه يعيش فيه تلك اللحظات من جديد، وهو ما يتجلّى بكثافة فعل الحاضر: (المضارع :  يكن، يفزع، أمشي، نصيد ) التي جاءت مقترنةً بأحداث لم تزل حيّةً نابضةً في الذاكرة التي يستعيد الشاعر شريطها، وكأنَّها لحظات تُعاش الآن :

لم يكن يفزعني صمغُ المساء

وأنا بينك أمشي

 في طمى النهر وهمس المستحيل

لنصيد الليل والطلع وأعشاش النخيل

ببقايا الشيطنة

وعلى هذا المشهد يبدو فعل الاستعادة فعلاً مُحبَّباً إلى النفس، وهو حبُّ ممزوج بغصّة بادية، وحسرة تلهب مشاعر الشاعر، وتُوقظ في داخله نار الحنين إلى تلك الأيام حيث يقول :

كم ضَحِكْنا

ضِحْكَنا كان يغطي جثةَ النوءِ التعيسةْ

ونبوءاتِ مرايا كسرَتْ حافاتها اصواتنا

وحُشاشاتِ الكلامْ

قبل أن تكسرَ قلبي

وكؤوسَ الطمأنينة

فوق قبرك

يبدو فعل الفراق المتحقّق برحيل الأخ قد هدَّ عزيمة الشاعر الذي يجد نفسه قد تعرّى من أسباب قوّته التي كان يجدها في أخيه بما يعنيه من مساندة ومؤازرة؛ فيتمثل صورة الفقد بصورة العاري، إنها صورة تختزل كثيراً من عمق الفاجعة التي يريد الشاعر التعبير عنها ؛ فالتعرّي النفسي أكثر إيلاماً، وأشدَّ أسى من تعرّي الجسد في هذه المرثية التي تطفح بأحاسيس الأسى والتفجّع :

 

عاريًا كنتُ ولكني مشيت

نحو أبوابِ المياهِ

كي أندّي شفتيكَ

وأزيدُ الخمرَ خمرًا

لمسافات الطريق

سائرًا نحو شعاعٍ من جبينكْ

علني أمسحُ من شالٍ البناتِ

حنظلَ الطينِ الذي يملأ قلبي

علَّني أسكب من إرث حليبي

قطراتٍ لاستعارات البقاء

علّ يومًا

بعض يومٍ

من ثقوبِ النورِ أنّي ألتقيكَ

قبل أن يفجعني كعبُ رحيلكْ

بالرثاء

ضيقًا كان المكان

ضيقا كان أصيصُ الأمس، كي يحملَ

في منفاي أهوالَ الفراقِ

وضَراعاتِ غدي

يحاول الشاعر أن يقبض على جمرة  الوقت التي أصبحت جحيماً ممتداً في اتّساع دائرة الموت المتجسّد واقعاً، ولكنه يستبعده خيالاً وأمنية يدرك أنها غير متحقّقة، ولذلك يُكثر الشاعر أفعال الطلب بصيغة الأمر : (تريث، اترك، امنح، ادخل  ) وهي أفعال يعي الشاعر أنها يستحيل تنفيذها غير أنها تأتي في سياق الولع التائق باستعادة المفتقد، ولو بالخيال الشعري ؛ فتتعاقب تلك الأوامر بحرف الترجي : (لعلَّ) الذي يكشف عن مُضمرات الذات المتعطشة إلى أمل لا يلوح منه غير سراب يرسمه خيال الشاعر، وتزينه له محبّة تريد أن تستعيد حالة أصبحت من الماضي البعيد، إذْ يطلب الشاعر لحظة توقّف؛ ليستطيع أن يكتب كلمة رثاء،أو يقول جملة في فقد أخيه، وهو يوقن أنَّ غيابَهُ صار حقيقة: فتريثْ!

واتركِ النعشَ وعُدْ منه إلينا

وادخلِ القلبَ وعانقني

فإني في الضياع

وامنحِ الوقتَ لوقتي

علني أكتبُ في مدحكِ جملةْ

جملةً أخرى تخبّي

بين أهدابِ الحروفِ

حبكةَ الموتِ ودمعي

قبلَ أن ترقدَ في قاعِ الغيابِ

بكمةُ الروحِ

وأنت..

قبل أن أصقلَ ألماسَ الحقيقة

...

...

قد تأبطتَ الوداع

وأخيراً نُشير إلى أنَّ قصيدة الشاعر: طارق الحلفي  نهضت بمشهدية الموت ذلك الشبح الذي يُطارد النفس البشريّة بكلّ قسوة ؛ فيُخلّف فيها الأسى والحزن العميقين، وهو ما اتَّشحت به قصيدة الشاعر :طارق  الحلفي ؛ فجاءت هذه المرثية من حيث بناؤها الفنيّ وشاعريّتها من أجمل ما قرأت للشاعر من نصوص سابقة، ولعلَّ أكثر مقوّمات شعرية هذه المرثيّة، ومصدر فنيتها العالية أنها جاءت تعبيراً صادقاً عن معاناة حقيقية، وتجربة واقعية كابد الشاعر معاناتها بأبعادها التي أحاطت به من كل جوانبها؛ فكانت قصيدة شاعر عانى الفقد المُضاعَف المتمثّل بفقد إنسانيين عزيزين على قلب الشاعر، وقريبين منه روحاً وجسداً، وعاطفةً، وهو ما رفع هذه القصيدة إلى مصاف النصوص التي يُمكن أن تكون مراث إنسانية عامّة لا مراث منغلقة على الشاعر في حالة فقده الخاصّة بوفاة بنت الأخ والأخ الذي ترجّل جسداً، ولكنَّ روحه حلّقت، مثلما كان ذلك الموت سبباً من أسباب قوّة النصّ في التعبير، وجناحاً حلّق به الشاعر في فضاء الموت، وتجلّيات آلامه رغم ما في تلك التجلّيات من مرارة لاذعة، وقسوة معاناة حارقة.

 

د. وليد العرفي

.....................

للاطلاع على قصيدة الشاعر في صحيفة المثقف

مترجلا.. ليحلق / طارق الحلفي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم