صحيفة المثقف

"العولمة" إشكالية العصر الكبرى.. نظرة تحليلية (5)

هذه الأفكار والنظريات، كلها تمهد لبلورة مفهوم العولمة الثقافية التي عرفت بأنها محاولة سيطرة دولة واحدة على سائر الدول، وإن العالم لم يكن وحده يشكو مثل هذه العولمة فإن فرنسا، وهي بلد الثقافة والفن لا تكف عن الشكوى من سيطرة المفهوم الامريكي لعولمة الثقافة. (1)

كما ان العولمة في تعبير اوضح واقدم في الاستعمال، هي الغزو الاحادي الثقافي الذي يجعل الدول معرضة لتغيير انماط الحياة في داخلها ومبادئها وافكارها ومفاهيمها عبر غزو اعلامي وثقافي منظم. ويقابل العولمة الثقافية تعبير اخر قريب منها في حروف الكلمة وهو عالمية الثقافة، وهي أمر مطلوب لأنها تقوم على اساس التواصل الثقافي والتبادل بين الثقافات، وهو أخذ وعطاء وانفتاح على الثقافات الاخرى. وهذا هو الفارق بين المعنيين، الأول : وهو مفروض ويصبح غزواً وعولمة، والثاني : المختار ويقوم على التواصل والتفاعل والاخذ والعطاء. (2)

فهل تملك دول العالم شروط الاختيار إزاء قوة وسائل الاعلام المتجهة الى العالم كله، والى العالم الثالث خاصة، ومايسمى بالعالم الرابع الذي اجتاز مرحلة تسويق المواد الاولية والمواد الخام الى مرحلة انتاجية متقدمة اخرجته من خانة العالم الثالث؟ وهل تقيم دول العالم الحواجز وتختفي خلف اسوار العزلة.

والإجابة على هذه التساؤلات هي أن مواثيق حقوق الانسان توضح  انه (لا تتمثل الهوية الثقافية ولا تبرز خصوصيتها الحضارية ولا تغدو هوية قادرة على نشدان العالمية وعلى الاخذ والعطاء، إلا اذا تجسدت مرجعيتها في كيان مشخص تتطابق فيه ثلاثة عناصر هي : الوطن والأمة والدولة). (3)

بيد ان العولمة وعلى خلافها تركز على شيوع ثقافة مطلقة وصهر الثقافات المختلفة عن طريق إعمام ثقافة المركز الرأسمالي القيادي فيها. بمعنى العمل على فقدان الترابط لتلك العناصر التي تعبر عن الخصوصية الثقافية والحضارية التي تفصح عن تنوع النظم السياسية والاقتصادية في العالم.

إن العولمة بما تملكه من اساليب متعددة منها- ثورة المعلومات والاتصالات- باتت تشكل خطراً فاعلاً على خصوصيات ثقافات الشعوب المختلفة، تبعاً لدرجات تحصنها وقدراتها على التصدي لحالات الاختراق، وتهدد ذاتيتها بما تطرحه من اشكال ثقافية غريبة على هذه الشعوب، فهي في محصلتها تنطوي على الاحساس بالخواء الروحي والإستلاب أمام الفارق الشاسع في التقدم وتراكم الثروة لدى الشمال، فيما تجد مقولة "فوكوياما" الزائفة (بأن ما تحقق من انتصار للرأسمالية يشكل نهاية لتاريخ الفكر الانساني والثقافي)(4)- في حين تجد الشعوب نفسها في حالة اغتراب مع ثقافاتها الوطنية الممتدة في اعماق التاريخ والحضارة الانسانية. فالفرنسيون يتحدثون اليوم عن موت الثقافة ويقصدون بها عملية (التسليع) التي تعم العالم لكي تطال العقول والاشياء، بإعتبار ان الثقافة هي التي تنتج مكونات الحياة المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل مجتمع.(5) ، فيما تأتي العولمة كمفهوم له هدف اختراق لكل هذه المكونات، ونفي الآخر نفياً وجودياً بالجملة) (6).

فقد باتت التكنولوجيا والعلم وثورة الاتصالات والمعلومات أدوات اساسية لما يسمى بالعولمة، وبفعل ما تحققه من وفرة انتاجية وما تتيحه من تلبية وإشباع حاجات الناس، فقد اصبحت أداة سياسية تدعم السيطرة للأقلية (الأوليغارشية) الرأسمالية، وتوفر قدرا معينا من الاستقرار للنظام الذي تسعى لتكريسه، فشكل ذلك نوعاً آخر للسيطرة التي تبطن عقل الانسان ووجدانه ووعيه وسلوكه وغرائزه، حيث يمارس الانسان حرية زائفة داخل ضرورة قمعية شاملة يفقد فيها وعيه بإنعدام حريته، بل إنعدام وعيه بنفسه أو يبلغ درجة قصوى في الإغتراب، الأمر الذي يشيع في اجوائه إستثارة الرغبات الحسية الأخرى كالجنس الذي اصبحت تحفل به إعلانات الافلام والافلام ذاتها والملاهي وتسليع المرأة وزينة أغلفة المجلات والمسلسلات التلفازية المعينه. إنها بدورها مظهر لقيم معينة قد يكون لها جانب إيجابي هو ان الانسان لم يعد مكبوتاً ولكن له جوانب سلبية واضحة تجعل الحياة الانسانية حياة حسية مباشرة وتجعلها موضوعاً للمتاجرة والربح. (7) .

وهكذا، فبدلاً من الحدود الثقافية الوطنية والقومية تطرح ايديولوجية العولمة (حدوداً) اخرى غير مرئية ترسمها الشبكات العالمية بقصد الهيمنة على الاقتصاد والاذواق والفكر والسلوك. ونجد في هذا تناقضاً واضحا مع مجمل المواثيق الدولية لحقوق الانسان وحرياته الاساسية ومؤتمراتها العالمية بهذا الشأن.

والامر المهم هو مدى خطورة العولمة في تكريس الثنائية والانشطار في الهوية الثقافية العربية. فالاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة لا يقف عند حدود تكريس الاستتباع أو التبعية الحضارية بوجه عام بل إنه سلاح خطير يكرس الثنائية والانشطار في الهوية الوطنية والقومية، وهذا نجده واضحا في الصورة العربية الراهنة التي يسودها الارتباك والتذبذب بين محورين اساسيين هما : محور الصراع الدولي القائم على الـ(GEO- Economy)، والمحور الاقليمي القائم على اساس الـ(Geo- Policy) ، المشحون بالتحديات والمخاطر المهددة للأمن القومي العربي والمصالح العربية العليا، فيما تغيب إستعدادات العمل العربي المشترك للدفاع من جهة، وبناء قاعدة اقتصادية تكاملية عربية لحماية الاقتصاد العربي من التبدد والنهب والاستنزاف من جهة اخرى، طالما يبقى الصراع الاقليمي بين الشد والجذب على وفق نظرية شد الأطراف المعروفة.

ويتضح الوجه السياسي والثقافي للعولمة الاكثر قبحا، حيث تتيح العولمة امكانية توظيف المؤسسات والمنظمات الدولية لفرض إرادة الاطراف القوية على الشعوب الضعيفة، بل وفرض ارادة دولة بعينها على عدة دول، وكذلك فان عولمة الاعلام الجماهيري الكوني اصبح هو الآخر أداة لتسييد ثقافة العنف والاستهلاك التجاري الغرائزي وتحقيق صور نمطية سلبية عن الشعوب المناهضة على وجه الخصوص. فقد رأى " روجيه غارودي " الفيلسوف الفرنسي وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي الأسبق كيفية تسخير المسيحية واليهودية لصالح الصهيونية والرأسمالية الامريكية ممثلة باقتصاد السوق (العولمة في مقابل لآهوت التحرر) (8) ، ويرى أيضاً (أن العالم يعيش أشرس حروب الدين، لا بين الأديان الحقيقية، وإنما بين هذا الدين الذي لا يجرأ أحد على أن يعلن عن إسمه، والذي يحكم بالفعل اليوم جميع العلاقات الاجتماعية، وجميع العلاقات الدولية على حد سواء. وحدانية السوق التي تطغي على جميع الوثنيات، إن وحدانية السوق ولدت الشرك أي عبادة أوثان شتى كالمال والسلطة)- (9) .

يتبع رجاءً ...

 

د. جودت صالح

12/08/2020

.............................

الهوامش:

1- د. ناصر الدين الاسد/ العولمة هي غزو ثقافي أحادي- جريدة الرأي- العدد الصادر في 6/1997.

2-  المصدر نفسه.

3-  د. محمد جابر الانصاري/ العالم والعرب سنة 2000- الآداب ط1 بيروت 1988 ص 6 .

4-  فرانسيس فوكوياما/ نهاية التاريخ- ترجمة د. حسين الشيخ- دار العلوم العربية- بيروت ط1 1992.

5-  علي حرب/ فضح الثقافة ومفارقاتها- مجلة العرب، العدد (46) سنة 1997.

6- د. صلاح حسن مطرود/ العولمة وقضايا حقوق الانسان وحرياته الاساسية- مجلة بيت الحكمة العدد (37) لسنة 1998.

7-  روجيه غارودي/ نحو حروب دينية .. جدل العصر- دار عطيه للطباعة والنشر- بيروت 1966 ص(12).

8- المصدر نفسه.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم