صحيفة المثقف

التوريط الاجتماعي الشامل في السياسة

مهدي الصافيرحل الاستعمار عن بلاد العرب اواسط القرن الماضي، وترك خلفه مجتمعات منقسمة طائفيا واثنيا، ومتغيرة ديمغرافيا، ومتداخلة جغرافيا، وضعها داخل منظومة الامر الواقع الى جانب قنابل موقوتة مؤجلة، يتحكم هو وحده بساعة الانفجار اوالتهديد بنزع فتيلها متى شاء، ارض كل شيء فيها بحاجة الى المراجعة، واهلها جميعا بحاجة الى التعويض المعنوي والمادي والروحي، قد يستنثى من هذه الشعوب بعض دول الخليج الغنية بالثروات النفطية، اذ عاش ابناءها فترات رخاء معقولة، بعد انطلاق مشاريع اكتشاف وتصدير النفط، الا انهم عادوا للغرق مجددا في مستنقعات ونزاعات عربية وخليجية اخرى منذ عام 1980، ثم تدرجت الكوارث واستمرت بالانهيار(احتلال الكويت عام 1990، وسقوط نظام صدام 2003، وانطلاق المشروع الامبريالي الدولي للشرق الاوسط الجديد)...

الوعي السياسي يختلف جذريا عن الوعي الثقافي او الاجتماعي (والاقتصادي الخ.)، هذا المجال الواسع بحاجة الى عدة عوامل وتجارب ومقومات التحليل والاستنتاج والفهم العلمي، لاتوجد فيه مرجعيات تاريخية معروفة، يمكن الاعتماد عليها، ولايملك العالم فلسفة علمية محددة او ممنهجة قادرة على بناء اسس منطقية عملية لها، انما تطورت عبر الزمن مع التحول الاجتماعي والعلمي للامم والشعوب

(عدا مايطرح من افكار خارج التاريخ الالكتروني كما في فلسفة افلاطون حول مراحل الوصول الى المدينة الفاضلة حيث قدم الكاتب كار بوبر، نقدا لها في كتابه "المجتمع المفتوح واعداؤه"... يقول ...طبقا لافلاطون.."فأن النزاع الداخلي، الصراع الطبقي، الناشئ عن الحرص على المصلحة الشخصية، وخصوصا المصلحة الشخصية المادية او الاقتصادية، هو القوة للديناميكية الاجتماعية، والصيغة الماركسية التي تعتبر ان تاريخ كل المجتمعات الموجودة حتى الان، انما تاريخ للصراع الطبقي، تلائم النزعة التاريخية لافلاطون، تقريبا مثلما تلائمها عند ماركس، فالفترات او المعالم الاربعة الاكثر بروزا في تاريخ الانحلال السياسي.. توصف من قبل افلاطون على النحو التالي، اولا، تأتي الدولة التيماركية او الديمقراطية، وهي حكم النبيل الذي يبحث عن السؤدد والشهرة، ثانيا الاوليجاركية، وهي حكم العائلات الغنية، يليها في الترتيب مولد الديمقراطية وهي حكم الحرية التي تعني عدم الخضوع للقانون، واخيرا الحكم الاستبدادي اي المرض الرابع والاخير للمدينة.. اي تاريخ للانحطاط الاجتماعي، المريض هو المجتمع، ورجل الدولة الطبيب والعكس بالعكس، الخ.)،

لاشيء يمكن ان يصبح اساس علمي لبناء الدول الحديثة المتعددة الثقافات والاعراق والطوائف (حتى في النماذج الديمقراطية العريقة امريكا وغيرها، اذ لازالت العنصرية والتفوق العرقي الابيض هو السائد هناك)، بل كانت الشعوب والامم ولازالت تؤخذ الى الازمات والحروب والكوارث والمتاهات، دون ان يكون لها الاثر البالغ في ايقافها او معالجة نتائجها على المدى البعيد، الفرق ان الصراعات والصدامات الدولية الحديثة تحولت الى صراعات تجارية اقتصادية غير اخلاقية، تسودها التناقضات والتنافس غير الشرعي احيانا، والمضاربة الجشعة(بعد نهاية الحرب الباردة اصبح الاقتصاد هو السلاح والعدو والهدف والغاية الرئيسية للقوى الامبريالية العظمى في مناطق النفوذ)، ونظريات للهيمنة الحديثة، بعد قيام النظام العالمي الجديد

(الاتفاقات والمنتديات التجارية والاقتصادية الدولية الحديثة للتجارة الحرة، تنظيم التعريفات للممرات البحرية والجوية، فتح القنوات البحرية وانشاء الموانئ، اتساع مفهوم ورقعة وامن المصالح الدولية الاستراتيجية، حقوق الملكية الابداعية والابتكارات الصناعية او التكنولوجية، التجارة الالكترونية..الخ.)، لايعتقد ان اطروحة صدام الحضارات هو الدافع الطبيعي للمواجهة والنزاع، انما هي اقرب الى القشورالايديولوجية للصراع الرأسمالي على المال والنفوذ، بعد ان خضعت الانظمة الديمقراطية والشعوب في العالم الغربي والشرقي الى سيطرة اسواق المال والاعمال..

التوريط الاجتماعي وعلى وجه الخصوص في بلداننا العربية، هي عبارة عن تقديم نموذج بائس للانظمة والادارة السياسية الفاشلة في الحكم، التي تعتبر ان النظرية الميكافيلية هي الاسلوب الامثل، والتجربة الناجحة الوحيدة في التاريخ، للاحتفاظ بالسلطة وتوريثها للابناء او لبقية الزعامات، اي وضع الناس بين حالة الدولة واللادولة،

فمن جهة هناك مؤسسات ودوائر ووزارات حكومية، وسلطة قضائية وتنفيذية وامنية ظاهرة للشعب والمجتمع الدولي، لكنها تعمل بنظرية التمييز والتفرقة والتهميش والاقصاء والمحسوبية والمحاصصة، وكذلك بالرشوة وشراء الذمم والولاءات،

وبين حالة اللادولة التي تفتقد الى ابسط التشريعات والقوانين والانظمة المعتمدة لادارة شؤون المواطنين، لترتيب اليات عملها وامنها واستقرارها المعاشي والاقتصادي وحتى النفسي، هذه النماذج هي الاكثر فوضوية بين الانظمة السياسية المعروفة في العالم، الا انها ايضا هي الاكثر فسادا بينها، لان المنطقة الواقعة بين حالة الدولة واللادولة، هي منطقة الفراغ الحكومي والامني والقضائي الاحمر،

وكأنها منطقة معزولة يمنع الاقتراب منها، كتلك المسماة بالارض الحرام في المعارك والحروب بين الدول، هي بيت ومستنقع ومستودع الاسرار والنهب والسرقات المنظمة، والتهريب والتهرب الضريبي(وعمليات غسيل الاموال، وبيع القطاع العام للخاص التابع لهم، وبيئة صناعة عصابات الجريمة المنظمة، ومرتزقة الاغتيالات والتصفيات، والابتزاز والتهديد، وانتشار الرشوة والعمولات، وتجارة السلاح والمخدرات،  ومليشيات ومافيات تحت الطلب المحلي والاقليمي والدولي، الخ.)، يصبح العيش داخل تلك الحالة اشبه بالدخول الى دوائر متسلسلة من حقول الالغام، يستهدف الانسان المسالم فيها بشراسة،

ففي الانظمة الشمولية المتوحشة، يطلب من هذه الشرائح الواسعة ان تقدم يد الطاعة والولاء العملي، بغض النظر عن الوظيفة او المهنة او الموقع الاجتماعي او العلمي، بالانخراط فيما يسمى بالحقوق والواجبات الوطنية للدولة على المواطن، وليس العكس، اضافة الى فتح نوافذ الاتهامات الجاهزة (بالخيانة والعمالة والتجسس للاجنبي، على غرار ماكان يعرف بالطابور الخامس، لكل من يحاول ان ينتفض على الواقع المؤلم من التوريط الجماعي بدوامة حياة الجحيم)) بالتالي يصبح الناس رهن قرارات وقوانين واوامر النظام السياسي بلا حقوق مطلقا، الا ماتتصدق به السلطة الشمولية من مكرمات ومنح لهم، الخ.

الغريب ان بلداننا لاتملك اية مراجعات اكاديمية او بحثية لتحديد او تشخص اسباب هذا التوحش من قبل تلك المؤسسات السياسية المصطنعة، وهل للدين او الطائفة من علاقة بهذه الظاهرة؟

او هل ان الموروث والطبيعة البدوية والقبلية للمجتمع (ثقافة السيد والعبد، الاقطاعي والفلاح، ..الخ.)هي وحدها البيئة المنتجة لتلك الانحرافات؟

اما ان اقتباس واستنساخ التجارب الثورية العالمية (الشيوعية على سبيل المثال، وصراع المعسكر الاشتراكي والرأسمالي، واجواء التوحش العالمي قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث ان بعض هذه الدول كانت تشرف على بناء المؤسسات الامنية الدموية العربية والاسلامية، وتزودها بأحدث الادوات واساليب التعذيب والتصفيات الجسدية)،

هي من دفع بشعوب تلك الدول الى كل هذا العنف السياسي والاجتماعي المفرط وغير المبرر، هناك بالفعل حلقات مفقودة وغير مشخصة مسبقا حول تلك الحالة، التي انفجرت بقوة توحش غير مسبوقة بعد 2003، عبر انتشار الحركات الاسلامية الارهابية الدموية في البلاد العربية والاسلامية،

بينما نرى من جهة ثانية، احتجاج العديد من المؤسسات الدينية ورجالها حول اطروحة اوالرأي القائل "ان الاسلام انتشر بالسيف "وانه دين للعنف، لكن الحقيقة تؤكد على توارث هذا المفهوم او النهج، ليس لان الاسلام يدعوا الناس لاستخدم العنف كوسيلة وغاية لنشره، انما بسبب الفهم الخاطئ للدين، والتأويلات اللا انسانية وغير العلمية او اللاعقلية للعديد من الايات القرانية، سمحت بهذه الفوضى والعشوائية في الافتاء، والانتقائية المشوهة في لي واقعية النصوص واسباب نزولها ومرحلية تأثيراتها لتحريفها، خدمة للاغراض الشخصية او الفئوية المادية او تبعا للنهج السياسي للانظمة الحاكمة....

المجتمعات العربية ورثت قصص المعاناة والحرمان ابا عن جد، وعند دخولها مرحلة البناء الوطني للدولة، واجهت معاناة من نوع اخر، الانشغال والانجرار خلف المؤامرات والانقلابات والصراعات الدموية على السلطة، فقد كانت مادة التحولات الفكرية والثقافية والسياسية، لعبت بعقليتها وثقافتها ثلاث اتجاهات ايديولوجية متشددة، تؤمن بالعنف والانقلاب والثورة كوسيلة شرعية للتغير واستلام السلطة، وبقيت مسألة كسب التأييد الشعبي لها، متفاوتة وفقا لحجم ماتحصل عليه من المكتسبات الاجتماعية، او مايوفره النظام السياسي لها من سبل العيش الكريم، ولكن كيف يمكن ان تميز طعم الدم في لقمة العيش الرخيصة الثمن، هكذا كانت تدار الدول العربية، الخبزمقابل السكوت والقبول بما تجود به يد الدولة على الفقراء، وبالوظيفة والخدمات العامة والمدنية الشكلية للطبقة المتوسطة، الخ.

اما مايحدث بعد الربيع العربي فهي مراحل متطورة من التوريط الشعبي للمجتمعات العربية في النزاعات والحروب الداخلية والخارجية، سخرمن اجلها في مجال غسيل العقل الجمعي، كل الامكانات المادية والاعلامية والثقافية وحتى الدينية المأجورة، مما جعلها تبدوا ثقافة معتادة متداخلة مع الحياة اليومية لبعض المجتمعات في الدول العربية، استعدادا للقبول بصفقة القرن، عبر الترويج الى مشروع التطبيع مع اسرائيل دون شروط، لحل القضية الفلسطينية (او على الاقل وضع شرط الاعلان بأن حلم اسرائيل الكبرى خطأ تأريخي لايمكن تحقيقه مطلقا)، التي ستؤدي بالنتيجة الى استكمال مشروع الشرق الاوسط الجديد، بتقسيم الدول العربية الكبرى(العراق سوريا اليمن وليبيا ومن المحتمل لبنان وغيرها، واحتمالية الابقاء على مصر والسعودية كقوى كبيرة مهمة للتوازن والردع الاقليمي امام ايران وتركيا)،

كل هذه الاجندات والمحاولات لقلب المعادلات التاريخية في المنطقة، لم تعر اية اهمية للرأي النخبوي او الشعبي العام، عبرت فوق رؤوسهم كسحابة صيف جاف، بل لم تشرح تلك الانظمة المتبنية لهذا النهج، ابعاد ومنافع تلك الصفقات، او ضرورات محاولات التطبيع المندفعة، والفوائد او المصالح الوطنية والقومية المرجوة منها، وهي لاتختلف كثيرا عن العديد من الانتكاسات العربية في الخليج او في معظم مراحل الصراع العربي الاسرائيلي او الايراني (وحتى الانقسام الخليجي مع قطر وتركيا، يعد واحدة من المراهقة السياسية غير المسؤولة)، حتى باتت اطروحة المملكة العربية السعودية بالحاجة الى الكونفيدرالية العربية اقرب للواقع، بعد ان عبدت لهم ادارة ترامب، وفايروس كورونا، والاغلاق او الازمات الاقتصادية، وهبوط اسعار النفط، والاحتجاجات الشعبية التي تعصف ببعض الدول العربية، بأستحضار واستلهام فكرة الترويج لمناعة القطيع الشعبي تجاه هذه الانكسارات والهزائم التاريخية...

اسوء واعقد المناطق الاجتماعية هي منطقة الحياد في القضايا الوطنية العامة، تلك التي يجب ان يغادرها كل من لازال يقف فيها، خوفا من تبعات الانعتاق الشخصي والنفسي منها، ليختار بعدها احدى الطرق، اما الذهاب والاستمرار مع اللادولة، حتى وان كان النظام فيها حديديا او ديمقراطيا فاشلا، او مع حلم الدولة الكاملة، التي لاتهمل حقوقه وامنه ومستقبل بلده وابناء شعبه، كالخيار الازلي الصعب بين الخير او الشر،

الخير هي ارادة الله عزوجل بمنح الانسان مطلق الحرية في التفكير والعمل والايمان والاعتقاد والرفض والقبول الصالح له وللانسانية جمعاء،

وبين الشر الذي تستمد قوة النفاق والانتهازية فيه من منطقة الفراغ السلبي، ليشمل كل انواع العنف والانحراف والتوحش والعبثية والفساد والانحطاط الاجتماعي المادي....

تجنب هذه الظروف المؤلمة ليست خيارا متاحا للجميع (عدا الهجرة والهرب من هذه المستنقعات الى الدول الامنة)، مع كثرة وحجم التضليل والتعتيم والتجهيل الثقافي والاعلامي والسياسي الواسع، مع حجب الحقائق، وتزوير الوقائع والتلاعب بالاحداث، التي قد تصل الى عمق التاريخ الحضاري والديني او التراثي للمجتمعات، كما يحصل من عمليات الشراء المتواصلة للذمم من قبل المؤسسات الاعلامية والاقلام الثقافية المهزومة، اذ بات من الصعب عند العديد من النخب ورجال الدين مغادرة حالة الرفاهية المدفوعة الثمن، بعد ان سحقت الارض رجال النضال والجهاد والثورات الانسانية العالمية، وجعلتهم كالعراة في جزيرة نائية مهملة، معتبرة انهم احد اسباب الجهل والفقر والبؤس، والتخلف عن الركب الحضاري التكنولوجي، الذي يلاحق الطبقات المسحوقة في كل مكان، على اعتبار انهم الارض الخصبة الدائمة لوقود الثورات، بينما قادة الامبريالية الرأسمالية المتوحشة ابرياء ببدلاتهم واياديهم البيضاء، هذه هي لعبة الشيطان الحضاري، بتبادل الادوار، وتغيير الاوجه!..

السكوت الشعبي لايعني القبول والتأييد بما تفعله انظمتهم السياسية، هي ليست خطبة امرأة، مع ان المثل الشعبي الدارج بحد ذاته يعد كارثة، فالامر سيان، من قال ان السكوت من علامة الرضا...قد تكون تحت هذا السكون عاصفة بركان الثورة القادمة ...

اكثر مايراه المراقب لهذا التوريط المتجسد في الحياة العامة، هي لقمة السياسة السائغة منذ عقود، والحاضرة على موائد الفقراء قبل الاغنياء، في البيت والشارع والاماكن العامة، في الدوائر والمؤسسات الحكومية، في كل مكان تجد بصمة السياسة حاضرة بقوة، متى تنتهي تلك الماساة، لا شيء يلوح في الافق، الا بأزالة التراث المصطنع، والتاريخ المشوه بالدسائس والحشو والاكاذيب احيانا، بأعطاء مجالا كافيا للنخب المفكرة والمثقفة، والطاقات الابداعية والاكاديمية، بأخذ دورها الوسطي بقوة، بين الدولة والمجتمع، لردم الهوة سلميا، بالتفاعل الايجابي المؤسساتي المستقل مع الطرفين، حتى لاتبقى ازمة الاهمال والانعزال والابتعاد من قبل المجتمع تجاه نخبه قائمة وبالعكس...

ليس من المنطق ان تبقى الشعوب العربية والاجيال القادمة تعيش حياتها العادية مع السياسة كل يوم، هذه حالة مرضية اجتماعية متقدمة، تساهم بتعطيل العقول، وتغلق فضاءات الابداع والابتكار، وتحد من الطموحات العلمية المستقبلية، مما تجعل من مهمة التحرر والانطلاق نحو عالمية التفكير، اساس البداية الجديدة للمجتمعات العربية، بوضع الخطط والبرامج التنموية الاستراتيجية، التي يمكنها ان تحدث نقلة نوعية شاملة، وهي غاية كل الافراد والمجتمعات الامنة، بعيدا عن الاحزاب والافكار والايديولوجيات المتطرفة، والانظمة السياسية او الطائفية او الاثنية الفاشلة....

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم