صحيفة المثقف

د. رغيد النحاس في كتابه الجديد "نصوص عادية"

خالد الحلي- مرساتي الحقيقية ليست مغروسة في الماضي

- على العولمة صيانة خصوصية المجتمعات واللغات لا إلغاءها

لعل أول ما يتبادر إلى ذهن القاريء، وهو يشرع بقراءة كتاب "نصوص عادية" للدكتور رغيد النحّاس مفارقة كون عنوانه يتنافي تماماً مع روحية وطبيعة النصوص، التي هي ليست نصوصاً عاديةً بأي شكل من الأشكال، بل نصوصاً إبداعيةً تتألق برؤاها العميقة الصافية والمؤثرة، وبتنوعها عبر سياقات مختلفة، تتوحد بانسجام إبداعي وإنساني عام.

هذا الكتاب الذي صدر بـ 274 صفحة من القطع الوسط، عن منشورات كلمات في سدني مؤخراً، ضم بين دفتيه أربعة وسبعين نصاً، أطلت علينا وهي تتنفس هواءها النقي، من فضاءات تجربة ثرة وعميقة حياتيا وإبداعياً، و جاءت لتعبر عما يعتمل في دواخل المؤلف من رؤى وأفكار ومشاعر وتجارب وتأملات، وليقرأها القاريء فيجد نفسه متجاوباً معها، متمتعاً بها، مستفيداً منها. وبهذا يحقق الإبداع دورته المكتملة بحميمية وتفاعل بين مبدع محلّق ومتلق متذوّق.

وإذا كان الدكتور رغيد قد ذكر في استهلاله للكتاب، إنه يمكن اعتباره من حيث المبدأ، جزءًا يضاف إلى كتابه النثري الأول "طلٌّ وشرر" الذي نشره عام 2013، فإننا نجد بالفعل إنّ الكتاب الجديد، قد تميز مثل سابقه بتألق تجسيدي وشفافية تعبيرية، وتنقّل أيضاً بين موضوعات مختلفة، اجتماعية، وسياسية، وإبداعية، وعاطفية، وتصويرية، وشخصية، وإنسانية، و انتقادية، وغير ذلك من الأمور الحياتية.

نجد ونحن نقرأ النصوص إنّ المؤلف يجسد بشكل ملموس وصيته لهذا العالم بالحب والسلام والسعادة، وتبنيه وانتصاره لكل إيجابيات الحياة، متمسكا بالحقيقة كحلم باسم وعشق دائم، متمتعاً بحس إنساني عميق، وتطلعات إنسانية نبيلة وصافية، ومتشرباً بالتفاؤل وحب قيم الخير والمحبة والعدالة والجمال.

                               وإضافة إلى النصوص الوجدانية الشفافة التي ضمها الكتاب، نجد إنّ المؤلف يتحدث عن هموم الأوطان والإنسان أينما كان، متجاوزاً الأطر الإقليمية أو الشوفينية الضيقة. وهكذا نجده يشير في النص الأول الذي حمل عنوان "البداية"، إلى إنّ كتابه ليس محض سيرة ذاتية، أو أنه يتناول أموراً لا علاقة له بها، كما نجده ينتقل في النص الثاني الذي حمل عنوان "الوطن الأم" إلى الحديث عن أمور أكبر من مكان معين أو زمان ثابت أو انتماء محدد، وهكذا يشير إلى تنقله للإقامة على مدى سنوات طويلة بين دمشق وبيروت واللاذقية وإنكلترا وملبورن والآن في سدني، مؤكداً إنه لا يعتبر نفسه مغترباً أبداً، حيث إنه يخلق لنفسه موطناً حيثما استقر، وإن أدبه ليس أدباً اغترابياً حين يكتب بالعربية، لأنه ابنها ولأنه يعشقها، ويريد أن يساهم في الحفاظ عليها، باعتبارها واحدة من أجمل وأقوى لغات العالم.

أما بالنسبة لتعامله مع اللغة الإنكليزية كتابة وترجمة، فنجده يقول إنّه يكتب بالإنكليزية، لكونها الشق الثاني من ثقافته، وهو يعتبرها أهم لغة للتواصل في العالم، و يجدها لغة جميلة ثاقبة بمصطلحاتها وتعابيرها الأدبية الجزلة. ويشير إلى إنّه يحاول في عمله بين اللغتين، الإسهام في التواصل الحضاري الذي هو أساس للحفاظ على فوائد العولمة التي يجب أن تصون خصوصية المجتمعات واللغات لا أن تلغيها، أي يجب أن تقوى بها، وإلا يكون الانهيار طريقها برأيه.

ومع تنوع اهتمامات وانشغالات نصوص الكتاب، ينقلنا المؤلف في نص تحت عنوان "الأقفاص الذهنية" إلى ممارسات تقمع التفاؤل والفرح في دواخلنا، وتوشح أوقاتنا بالكآبة والرتابة، مبتدئاً بتساؤل مر ومرير هو: " ما بالنا لا تجود بنا قرائحنا أكثر سوى عند الملمات والمخاطر؟".

وانطلاقاً من هنا، يذكّرنا كيف إننا حتى حين تكتب في الحبّ نميل إلى اختيار جوانب العذاب والفرقة والحرقة والهجر واللوعة والحرمان والخصام والبعاد، وكيف أن حال معظم الأغاني العربية التي نعشق هو هكذا، متسائلا مرة ثانية: هل أن هذا هو تعبير عن حالنا وعن اضطراب حياتنا؟

وفي خطٍ موازٍ آخر نجده يؤكد ميله إلى إيجابيات الحياة، وعدم التقليل من تأثير السلبيات، أو تجاهلها، مؤكدا اعتقاده الدائم بوجوب تمييز الإيجابيات حتى نعمل جميعاً على خلق ثقافة جديدة للعلاقات.

ويمكن أن نشير ونحن نختتم هذه القراءة السريعة للكتاب، إلى إن الدكتور النحاس، ضمّن كتابه بعضاً من مشاركاته في مناسبات تتعلّق بأشخاص معيّنين، انطلاقاً من إيمانه بأهميّة الاحتفاء بهم وإبراز أعمالهم، ولرغبته بأنْ يضم الكتاب حديقة للصداقة الفكريّة، سيما وأنّ هذه المشاركات لم تكن مجرّد تعريف بالأشخاص أو أعمالهم، وإنّما تخطّت ذلك إلى نوع من النقد الأدبيّ البنّاء وكذلك احتوت أفكاراً جديدة في بعض الحالات، والأهمّ أنّها كانت مواضيع أدبيّة بالإضافة لكونها نقديّة.

 

خالد الحلِّي - ملبورن

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم