صحيفة المثقف

رائيَّةُ العرب أو قصيدةُ وطن (2)

وليد العرفي في فنيّة النَّصّ: لا بدَّ في الحقيقة التأسيس على أسئلة أرى أنها ضرورة توجبها المقاربة النقدية الموضوعيّة بعيداً عن المجاملة، والثناءات على النوايا وتوجه الفعل الذي لا شكَّ أنه نبيل وسام ٍ، ولكنَّ الشعر في  النهاية فنٌّ، والفنُّ له ضروراته واشتراطاته الجماليّة مثلما له مساراته الفكرية، واتجاهاته الجماليّة أخلص من هذا لطرح الأسئلة الآتية:

ما ضرورة أن نكتب قصيدة مطوّلة في عصر يعتمد الإيجاز والسرعة في التعبير، والقول، وقديماً قالت العرب البلاغة في الإيجاز؟

ما معنى الاستطراد في الفكرة التي يُمكن أن يُعبّر عنها في بيت عندما نجد أن الفكرة قد صيغت في ستة أبيات أو أكثر؟

رغبة الإطالة والشرح والإسهاب أوقع القصيدة في تكرار الفكرة لكن بألفاظ مختلفة؟

ثمَّة سيطرة واضحة على القصيدة التي جاءت في معظمها نظماً لا شعراً، وهنا لا بدَّ من النظر إلى جماليّة النص بوصفه فناً بمعزل عن الموضوع الذي يتحدَّث عنه؟

السؤال الأهم ما الجديد الذي قدَّمته القصيدة في طروحاتها الفكريّة في تجاوز مساقات عصر النهضة الذي يمكننا فيه أن نجد مثل هذه القصيدة مئات القصائد التي قيلت في موضوعها، وأسلوبها، وليس عليَّ أن أشير في هذاا الصدد إلى شعراء مثل: خير الدين الزركلي وخليل مردم بك والزهاوي والرصافي  حافظ إبراهيم والبارودي وغيرهم ....

وهذا يتفتق عنه سؤال آخر هل استطاعت قصيدة (وطن) أن تتجاوز ما قيل في عصر النهضة مثلاً، وهو أقرب العصور إليها من حيث الزمان، ولن أقارن القصيدة بعصور أكثر قدماً من ذلك؟

أمر آخر يلفت الانتباه، وهو أنَّ الوحدة البنائية التي اشتغل عليها كثيراً فيما يبدو بهدف إلباس القصيدة وحدو أسلوبيّة، وروحاً متجانسة بقيت تشكو من عرج ما في كثير من مظانها !

أخيراً في هذا السياق التساؤلي أشير إلى أنَّ القصيدة أوغلت في لغتها المعجمية في بعض أبياتها التي جاءت فيها القوافي ملوية الأعناق، وإنما هو القالب الجاهز الذي يعرفه نظامو الشعر لا شعراء القصيدة البيتية !

ولعلّي لست في معرض إظهار العيوب والنواقص غير أنَّ ما أشرت إليه كان من باب الحرص الذي يتوجب أن تظهر فيه مثل هكذا قصيدة خاصّة أنها تطرقت إلى موضوعي كبير ومرتبط بعراقة بلد كبير مثل العراق وأورد بعض الأبيات كي لا يبقى كلامي مجرداً من الأدلة، وحسب القارىء أن يتأمل ويحكم:

ألمْ ينبئْكَ مَنْ بالنّصحِ أسدى       بأنّ الحِرْزَ في الأضدادِ زُورُ

استهلال بأسلوب إنشائي مباشر اعتمد تنبيه المخاطب بطريقة تقليدية خالية من الشعرية، وكأنَّ الشاعر صاحب هذا البيت لم يخرج من ذاكرته قول  الرصافي في المعنى نفسه  مع جماليّة تصبُّ لصالح البيت الذي أدوّنه للشاعر إبراهيم اليازجي:

تنبَّهوا واستفيقوا أيُّها العربُ      فقدْ طمى الخطبُ حتَّى غاصتِ الرُّكبُ

ويتابع في البيت التالي على المنوال ذاته في إعادة معان مطروقة وشائعة الاستعمال:

سيُطلِعُ  أنجُمًا غَرقى وصُبحاً                  عراقيًّا بهِ الدُّنيا تغورُ

وفي هذا البيت يبدو الاتكاء على العجز واضحا في محاولة الشاعر أن ينهض بما جاء في الصدر الذي بدا غير منسجم معنى وصياغة وأسلوباً فكيف تكون الأنجم غرقى ويطلع الصبح عراقيا به الدنيا تغور؟؟؟؟ !!!!! كلام ليس فيه من الشعر إلا الوزن

فَلَيْلُ الظُّلْمِ يَعْقُبُهُ صَبَاحٌ                 وَفَجْرٌ، حِينَ تَجْتَمِعُ البُدُورُ

وحرُّ الشّمسِ للأفعى معينٌ             فَتلفظُها منَ الأرضِ الجحورُ

وتلدغُ كلَّ حيٍّ لا تُبالي                 فبئسَ الظُّلْمُ مطلعُهُ الغُدُورُ

وهذه الأبيات تبدو محاولة لتتخذ من لباس الحكمة عباءة، ولكنها جاءت تقريرية ومستهلكة إلى حدذ تذكرنا بكلام شاعرنا ابن أبي سُلمى :

ما أرانا نقولُ إلا رَجِيعًا                       ومُعادًا من قولِنا مكْرُورا

وعُوذُ الأمسِ سوفَ يعيدُ فينا                صباحاً لا تُفارقُهُ الطيورُ

وينبلجُ الصباحُ على وجوهٍ                     كما الأقمارُ في وَهَجٍ تُنيرُ

ليحملَ في ثنايا الروحِ طوداً                   مِنَ الآمالِ يملؤهُ العبيرُ

فألفُ حذارِ مِنْ شعبٍ تفانى                تغنّت في مواجعهِ العصورُ

وكذلك الأمر في بقية الأبيات التي حاولت أن تلجأ إلى تقنية البلاغة في التصوير ؛ فجاءت عادية في تشابيهها، ولم ترتقِ إلى مستوى فنّي يشفع لها بأية جماليّة يُمكن أن تدخلها حيز الشعر ؛ فبقيت في إطار النظم، وشتان ما بين نظّام يُقولّب الألفاظ وفق المعاني وحروف الروي فيقدّم قوالب مبنية جاهزة، وبين الشاعر الذي يمنح الشعر الروح والقدرة على التأثير في المتلقي، وهو ما عبّر عنه الشاعر الزهاوي في قوله قديماً:

إذا الشّعرُ لمْ يهززْكَ عندَ سماعِهِ            فليسَ خليقاً أنْ يُقالَ لهُ شعرُ

وهذ الهزّة الجماليّة، وذاك التأثير الجمالي يتجلّى في هذه الأبيات للشاعر: د.  قصي عسكر كما ورد في موقع الناقد العراقي:

يُطالعُني، وقد ضاقت، منافٍ            وينسى صورتي الوطن الكبير

بلادي لمْ تزلْ تدمى ولمّا                 تُدنّسها الخطايا والشُّرورُ

لتبقى في دمي بركانَ عزّ                أراقبُ لحظةً فيها يثورُ

إذا قالَ العراقُ فقولُ حقّ               وغير حديثهِ كذبٌ وزورُ

هنا نجد الشعريّة، وجماليّة الصوغ، والقدرة على تطويع الكلمات للسياق النصيّ ؛ فلا نجد لي عنق لقافية، ولا كلمة تحتاج إلى معجم ليوضّح معناها، وإنما ثمة يسر وسهولة، وتدفّق ألفاظ، وإذ بالشاعر يعجن الشعر في أجمل شكلٍ، وألذّ نكهة .

 

د. وليد العرفي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم