صحيفة المثقف

تأملات في مشهدية الهايكو.. باشو أنموذجا

حسني التهاميالهايكو لقطةٌ يعتمدُ الشاعرُ فيها على حواسِه بعيداً عن الوصفِ التجريديِ الغامض . وهذا النقلُ الحسيُ يتيحُ للقارئ إمكانيةَ التخيل والتأمل والتعمق فيما وراءَ المشهد،  ذلك لأن نصَ الهايكو ذو أبعادٍ فلسفية تأمليةٍ عميقة،  يبتعدُ عن المجاز الصريح الذي يذهب ببساطة النص وجمالِ مشهديته . لا أهمية للموسيقى الخارجيةَ في الهايكو،  ربما لأنها تصرفُ القارئَ عن مكامنِ الدهشة الحقيقيةِ في النصِ،  ومنها سحرُ الموسيقى الداخلية . يتكونُ الهايكو من مشهدين، أحدهما أماميٌ والآخرُ خلفيٌ،  ولا يكونُ المشهد ُالأماميُ - كما يقولُ بعضُ الباحثين- ديكوراً لزخرفةِ المشهدِ الأساسي ( الخلفي/ الحدث) بل يأتي لإكمال صورة البهاء في مشهدية القصيدة. لا مجال للحشو والزخرفة في نص غاية في الاختزال والتكثيف؛كل كلمة لها دلالة ومغزى حتى إشارات القطع (الكيرجي) لها دور فاعل ومؤثر في بنية المشهد وتمثل وقفة تأملية قبل الإنتقال إلى المشهد الآخر. تأتي الصورة الكاملة في اللقطة من تفاعل المشهدين معا. من أمثلة ذلك هذان النصانِ لباشو :

بحيرة قديمة ( مشهد أمامي)

"ضفدعة تقفز إلى

صوت الماء". (مشهد خلف)

...

خريف مبكر: ( كيغو / مشهد أمامي)

حقل الرز وماء المحيط

كلاها أصبحا

بلون أخضر. ( مشهد خلفي)

ليس بالضرورةِ أن يكونَ المشهدُ الخلفيُ تالياً للأمامي،  مع أن غالبيةَ النصوصِ التي كتبها شعراءُ الهايكو اليابانيون الأوائل الذين أرسوا قواعدَ هذا الفن،  كان المشهدُ الأمامي يتصدرُ اللقطة،  والخلفيُ قفلةً تُحدث نوعاً من الدهشةُ المنبثقةُ عن المفارقة،  وإحداثُ فجوة توترٍ شعري قادرة على التأثير في المتلقي، وهذه الفجوة هي سمةٌ شعريةٌ لا نكادُ نجدُها إلا في النصوصِ المبدعةِ القادرة على التحليق. لكنْ هناكَ نصوصٌ يكونُ المشهدُ الأمامي قفلة ً انسيابيةً سلسة:

"فتى معدم

يغادر رؤية القمر" (مشهد خلفي)

إلى مطحنة الرز ( مشهد أمامي)

...

"الشعراء مع أقداحهم

ينتظرون: الثلج" مشهد خلفي

لكي يروا لألأة الضوء ( مشهد أمامي)

...

وربما يحتضنُ (المشهد الخلفي/ الأساسٌ ) المشهدَ (الأماميَ/ الثانويَ) المكمل للمشهدِ الخلفي ويأخذه بين ثناياه،  فمثلاً يبدأُ النصُ بجزءٍ من المشهدِ الخلفي،  ثم يجعلُ الهايكست المشهدَ الأماميَ المكملَ في ثنايا المشهدِ الخلفي،  ثم يعودُ ثانية ليكملَ مشهديةَ النصِ الخلفية،  مثلُ هذه النصوصِ تحتاجُ إلى قارئٍ واعٍ يستطيعُ ربط َ خيوطِ المشهدين:

...

تنطلق من قلب عود الصليب

الحلو

نحلة ثملة.

في النصِ يبدأُ المشهدُ الخلفي بالفعلِ المضارع " تنطلق" الذي ينقلُ آنيةَ المشهدِ المباشر ويبعثُ فيه الحيويةَ والحركة،  ثم يأتى الشاعر بالجملة الاعتراضية " من قلب عود الصليب الحلو" التي تعد مشهدا أماميا،  بعدها يستأنفُ المشهدَ الخلفيَ بقفلةَ مدهشةٍ " نحلة ثملة" . وكان بإمكان الشاعر أن يصوغ المشهدَ الخلفي هكذا " تنطلق نحلة ثملة " والمشهدُ الأمامي " من قلب عود الصليب الحلو" لكنه آثرَ أن يُحركَ ذهنيةَ القارئ بهذه الحيلةِ الذكية. فيبعث الحيوية ويسكب بعضا من الجمال الشعري في النص.

...

هناك أيضا نصوصٌ أحادية المشهد،  وهو "الخلفي" بالضرورة،  لأنه يصورُ( اللقطةَ/ الحدث) دون زخرفة أو خلفيات مساعدة ودون تضمينٍ "للكيغو /الموسمية"،  أو ذكرِ مكانِ الحدث أو تعليلِ حدوثه،  وبذلك يضعُ الهايكست قارِئَه في تفاعل مباشرٍ مع الحدث:

الأصدقاء الأبديون

هم إوز بري

ضائع في سحابه

...

شعر طويل

ووجه رقيق وأبيض

هو مطر حزيران. ( مشهد خلفي)

...

أعشاب الصيف

هي كل ما يتبقى

من أحلام الجندي.

(النص بأكمله مشهد خلفي)

...

ولنتأمل النصَ التالي لباشو الذي أرادَ أن تتماهى ظلال اللوحة بتكثيفِ ألوانِ فرشاتِه الإبداعيةِ فيزدادُ النصُ وهجاً وجمالاً من خلالِ مشهد أمامي " في هذا الصباح الجديد " و آخر خلفي ممتد في السطر الثاني والثالث؛ الإحساس بالتغير في الشخصية من خلال قفلة النص "داخل ردائي الجديد" :

فى هذا الصباح

أحسست أن هناك شخصا آخر جديدا

داخل ردائي الجديد ( مشهد أمامي)

***

حسني التهامي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم