صحيفة المثقف

الخطاب الروائي في الحدود المتغيرة في الشخصية الروائية

1724  الخلة والجيران صدرت رواية "النخلة والجيران" * عام 1966 في صيدا . وهي بمثابة المسودة لما ستكون عليه رواياته اللاحقة من حيث النضوج والبناء الفني المتكامل والسرد المتعدد والأساليب الحديثة، والثيمة الرئيسة للرواية هي العراق المحتل من قبل الاستعمار في زمن الحرب العالمية الثانية، العراق البعيد عن موقع الحرب فعلياً وعينياً والداخل فيها ضمنياً وعملياً (حرب أحنا هم دنحارب ... يعني إلا تنفجر قنبلة) – ص194 – وانعكاساتها على طبقة اجتماعية معينة في ويلات فضيعة تعاني منها هذه الطبقة من فقر وغلاء فاحش وبطالة مع تردي الأوضاع السياسية والعلاقات الاجتماعية وانحلالها وتفاوت وتعدد الوعي للشخصيات واختلاف الرؤية تجاه الأحداث، وأغلب النقاد الذين كتبوا عنها باعتبارها أول رواية عراقية متكاملة فنياً مثل:

(إن رواية "النخلة والجيران" أول رواية عراقية بالمعنى الكامل للكلمة) (1) .. الناقد الروسي ستيبانوف

(إن البداية الحقيقية للرواية الفنية، بمنظورها الحداثي .. تمثلت في أعمال غائب طعمة فرمان، ابتداءً من "النخلة والجيران" (2)..).. فاضل ثامر

(لانبالغ إذا قلنا إن تاريخ الرواية العراقية – تقريبا هو تاريخ روايات غائب طعمة فرمان) (3)... الناقد العربي صلاح حزين

(النخلة والجيران .. بناء فني شامخ لا عهد للرواية العراقية بمثله)(4)... شجاع مسلم العاني

(بصدور (النخلة والجيران) عام 1966 كأول تجربة فنية ناضجة خرج فرمان بالرواية العراقية من صيغتها "كحدوتة" طويلة الى بنية متكاملة فنياً)(5)... باسم عبد الحميد حمودي

(ولدت رواية "النخلة والجيران" وسط عقم وفراغ فكان الميلاد المعافى، بشارة اختزلت شوطاً واسعاً قطعته الرواية العربية)(6)... عبد الجبار عباس

الدار الطولة الخان

صاحب الطولة

مرهون السايس ثلاث عوانس

نشمية القوادة

صاحب البايسكلجي

حسين سليمة الخبازة

تماضر محمود ابن الحولة

علاوي

ابو حسين

وزوج سليمة

حمادي العربنجي رزوقي

فراش خيرية زوجة الفراش فتحية بائعة البلاقلاء مصطفى الدلال

رديفة زوجة حمادي

(مخطط بياني للشخصيات والأماكن الرئيسة في رواية النخلة والجيران)

1725 غائب طعمه فرمان

نسي النقاد – أكثرهم تقريباً – انها قبل ان تكون رواية متكاملة المواصفات الفنية تتضمن سيرة ذاتية لكاتبها، أي، رواية كاتبها يشترك في بطولتها مع بقية أبطال الرواية ولكنه غائب فيها، وأنها لا تؤرخ للعراق بقدر ما تؤرخ لكاتبها في مرحلة معينة من حياته .

وأن الإنسان في أدبه هو السيد المطلق، ولم يقم بعزله عن التأثيرات الإقتصادية – الاجتماعية – الفكرية، أي جعله إنساناً تاريخياً يحوم في فضاء التاريخ وفي فضاء (النفس) وجعله يحس بعلاقة قوية متينة تربطه بالعالم، وهو البؤرة التي لا يحيد عنها، فيقول في ذلك: (إن سيد الرواية هو الانسان لا الإنسان بمظهره الخارجي وإنما بارتباطاته المكانية والزمانية وعلاقته مع الأشياء المحيطة به)(7) .

لذا جاءت (النخلة والجيران) مفعمة بالصدق في وصف المرحلة وتاثرها ليس انفعالياً ولا رد فعل انطباعي، ولم تظل على القشرة الخارجية للحياة الاجتماعية بل نفذت إلى صميم هذه الحياة والقيام بإبراز النقاء للإنسان الحقيقي – وهو واقع تحت ظروف قاهرة – الملتصق بالعلائق الواقعية التي يتحكم فيها وعي طبقي محدود، هش غير متبلور، متناقض مع ذاته ومع الآخرين، ولكنه تمكن أن يصطاد معنى الحياة وأن يخلق شخصيات حقيقية شبيهة بالناس الحقيقيين ذلك المعنى المتخفي والذائب في أعمق أعماق الحياة، لكن يبقى الإنسان أيضاً السيد الذي يحصل على إمكانية إعادة ترتيب العالم يما ينسجم ومساعيه في خلق العالم بصورة حقيقية و (الكتاب الذين تأثروا بويلات الحرب الاستعمارية تأثراً بالغاً قد أدركوا بقوة خارقة كم كانت بالغة الأهمية صيانة العواطف البشرية من الازدواجية البرجوازية المتناقضة الملعونة ثلاثاً وبالرغم من الفوارق الكامنة بين روايات تشجب الروح العسكرية كروايات باربوس وهمنجواي وريمارك أو الدنغتون فإن قاسماً مشتركاً بين هذه الروايات جميعاً ألا وهو الإنسان بحاجة ملحة لوجود يد صديقة ولصداقة مخلصة ولحب شامل)(8) .

إن (النخلة والجيران) واحدة من الروايات العربية القليلة التي تحتل فيها الشخصيات الثانية مساحة شاسعة من البنية الروائية، رغم أنها رواية عراقية صميمية نعثر في داخلها على الصراع والتناقض الاجتماعي وعلاقته بالتطور الاقتصادي وتفاوت البنى الأيديولوجية وتصويرها لمدينة بغداد بشخصياتها وشوارعها وأزقتها – التي هي الفضاء المكاني للرواية – وهذا يقودنا الى ضرورة القيام بتحليل جمالي لها والذي بدوره ينطلق من الواقعة التاريخية المانحة لنا متعة جمالية أدبية مع تحقيق رؤية طبقية من خلال زاوية جمالية ونمذج الواقع العيني وأن الرواية التاريخية تحول الرواية الاجتماعية إلى تاريخ حقيقي للحاضر .

وليس من الممكن تناول (النخلة والجيران) بالدراسة – مهما كان المنهج الذي تخضع له الدراسة – دون القيام بتناول شخصياتها وإلا كانت دراسة فقيرة سطحية، موسومة برؤية الوعي الفردي الغامض الذي يعمل على تنحية الحقيقة الموضوعية للشخصيات من مدى الرؤية الجماعية، لذا يبقى البطل في (النخلة والجيران) هو شخصية المجتمع العراقي و (ان الربط بين الشخصية والمجتمع شكل دائماً ارضية ولدت وتطورت عليها الرواية)(9) الواقعية والمعبرة عن الوجدان الفردي المتفتح في العالم الثالث- عالم الروائي- على المأساة الجماعية الملتفة عليه من كل الجهات وما يميز الرواية الغربية – البرجوازية عن رواية العالم الثالث هو ان الاولى تمثل (الانا الذاتية) تمثل ربنسون كروز – السيد، والثانية تمثل (الانا الجماعية) تمثل جمعة – العبد.

والرؤية الواقعية لغائب تمنح الرواية حيوية ضمن جدلية متصاعدة ذات ثوابت متلاحقة من هو الشاهد على احداث الرواية؟ النخلة، ومن هي النخلة؟!.

اعتبر غائب النخلة بمثابة شخصية من شخصيات روايته وخلع عليها اوصاف وتشبيهات بشرية – أي أنسنة الموجودات اللاانسانية والتعامل معها ككينونة – تصل الى حد تجعله يعقد مقارنة بينها وبين سليمة: (نخلة مهجورة، عاقر تعيش معها في هذا البيت الكبير، خرساء صماء) ص7، وأحياناً أخرى تراها سليمة نداً لها: (قابلتها النخلة القميئة وكأنها في انتظارها) ص28، وحين يهم حسين بمحاولة سرقة صندوق سليمة الاسود، لم يكن أحداً شاهداً على فعلته هذه غير النخلة هي المتصدية له: (كانت النخلة القميئة هناك) ص133.

وايضاً حين يحاول حسين القيام بسرقة غرفة مصطفى الدلال المليئة بالسكائر والويسكي والسكر والشاي، يختزل العالم كله في نظر حسين اختزالاً مطلقاً في النخلة: (لاشيء غير النخلة) ص169، وفي موضوع آخر من الرواية نعلم بان النخلة كانت مصدر خوف ووحشة وقلق لسليمة وفي ليلة زواجها ينتهي كل هذا: (هذا آخر يوم لوحدتها لن تخاف النخلة بعد الان) ص192.

آن لنا ان نستخلص من هذه المقتطفات مغزى اخيراً.

يقول غائب عند كتابته مقدمة لرواية عبد الرحمن منيف (الاشجار واغتيال مرزوق) التي صدرت بالروسية في موسكو عن الاشجار (تحمل معنى رمزياً عميقاً- فهي تعني الخضرة والنماء، والخير والعطاء، التقاليد الجيدة الانسانية الممتدة جذورها عمقياً في الارض)(10).

إذاً النخلة تمثل عنده الديمومة بدلالة رمزية مبطنة للصمود والتحدي والروح الثورية التي لاتهتز، الضاربة جذورها في طبقة العمال، فتخضع لتأويلين الاول النخلة = الحزب او النخلة = طبقة الفقراء والثاني النخلة = الروح الثورية لدى العراقيين وهذا مجازاً، فايهما يقصد ؟ ذلك هو السؤال ..... وتلك الإجابة لتبقى على القراءة، ومدى اتساع رؤية ومدارك القارئ، ومما يؤكد نظرتنا فيما ذهبنا إليه قوله:

[نحن لا نعرف عن النخلة شيئاً كثيراً رغم أننا نعيش في بستانها العراق ... إنها سمراء بلون الأرض العراقية، وهي كالإنسان... تمد جذورها عميقاً في الأرض] ص264 خمسة أصوات .

آه من النخلة.. كم هي صبورة.. عنيدة – اصيلة. نقية .. ففي جميع رواياته يتحرش بها كأي طبقة (صلدة) المتحملة شتى صنوف الاضطهاد والعذاب ... وها هو يشبهها بزنوبة إحدى بطلات رواية القربان:

[ جاءت النخلة المحروقة بمشيتها المنكفئة وقالت: (هريسة؟)] ص60 القربان لنتساءل مرة أخيرة وحاسمة .. هل هي طبقة الكادحين

وأخيراً فإن هذا العنوان كان من الممكن للرواية ان تتقبله غير أن ذلك يتطلب سلسلة كاملة من التحفظات والتوضيحات ونحن نستطيع أن نمتلك الرؤية الواضحة من خلال صرخته: (الانكليز ونخلة سليمة الخبازة جو للدنيا بيوم واحد) ص177 فحين دخول الانكليز العراق أنشأوا الصناعات الخفيفة بمعنى ولدت طبقة من العمال فقبل الاستعمار كانت البلد إقطاعية – زراعية فدخول الانكليز غيّر المعادلة الاجتماعية وخلق الصناعات الصغيرة – كصناعة السكائر والسكر . والانسجة ..الخ – وحينما خرج الإنكليز عملت البرجوازية على سحق فئة اجتماعية اللاصناعيين – الهامشيين – (النخلة راح تنكص) ص231 أي قامت بابتلاع الحرفيين الصغار .

ففي (النخلة والجيران) قسم من الشخصيات أصابها التطور أفقياً والبعض الاخر بقي محافظاً على أوصافه فمثلاً حسين وتماضر وسليمة الخبازة تعتبر شخصيات رئيسية في الرواية تطورت نحو (...) أما مصطفى الدلال وصاحب البايسكلجي وحمادي العربنجي ومرهون السايس نراها في مكانها تراوح لم تتجاوز القشرة الخارجية الموضوعة فيها بل بقيت ضمنها محتفظة بأوصافها .

والتطور الذي أصاب الشخصيات تطور سلبي أحياناً هكذا يكون خط مسارها الروائي التي لا تحيد عنه . وليس تطوراً مستديراً وإلا كان يدور في حلقة مفرغة فاقداً لملامحه، بل سلبية تصاعدية .

وخير من يمثل ذلك النموذج شخصية سليمة بمنظورها الطبيعي والفني، فالعالم لديها ليس كعالم سعيد أو عالم كريم غزال إنه عالم نسائي بحت مغرق بالسواد والسذاجة بل لا يتعدى التنور و(تقضي النهار واقفة على التنور وتسهر الليل في تحضير العجين) ص8.

وعلاقتها معه علاقة محدودة مجهولة (كانت تحسب كل بيت مهيب جامعاً وكل حشد من الناس سوق هرج) ص63، محصورة في الحوش ما بين النخلة – هي وغرف الدار يحتويها دائماً (الليل والسكون والوحدة) ص7 .

وغائب في هذا يقذفنا الى عالم المرأة العراقية في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ العراق الحديث .. فسليمة أمية، جاهلة، ساذجة، تمتلك وعياً فطرياً تستهدي به، ليس هي فقط تتسم بهذه الصفات بل نساء الرواية، خيرية زوجة رزوقي الفراش (الحكومة الله يسلمها) و رديفة و فتحية بائعة الباقلاء و (العوانس الثلاث) جميعهن فقيرات، بائسات، ووعيهن بذاتهن وبالعالم مفقود تقريباً . هذه هي مشكلتهن . وهكذا أراد غائب رسمهن، وتفترق سليمة عن الند عن النخلة بأنها سوف تخصب ويحتويها حضن رجل (تستشعر بدفئه، في الليل) ص 192 .

أما النخلة فستبقى وحيدة .. وحيدة شاهدة على نفسها وعلى عصرها ..... وشخصية (حسين) تنفرد عن بقية شخصيات الرواية بأنها في ذروة السلبية وحين يحاول الخروج منها يلتصق بها أكثر التصاقاً لا فكاك منه وذلك حين يقوم بقتل محمود الشقي، ومشكلة سلبيته تأتي في أنه لا يعرف ماذا يريد ؟ فهو (باحثاً عن شيء غير محدد) ص372، وليس عنده وعي للحدث او لصيرورة الزمن (ما أريد هاالمستقبل) ص44، فالمال يأتيه عن طريقين، سليمة تمنحه درهماً كل يوم، وربع دينار يأخذ من صاحب البايسكلجي من الثروة الشحيحة الباقية التي تركها له والده المرحوم – علاوي – وهو لا مبالٍ، غارق في تفاهة الحياة اليومية، ولكن خط الرواية يبين لنا أن له علاقتين بعقدتين ويكون هو على رأس كل منهما كالآتي:

حسين حسين

سليمة مصطفى تماضر نشمية

العقدة الأوديبية العقدة الايروسية

لكنه كالملك ميداس يحول كل ما يلمسه إلى خراب متناغم وإلى فشل متتالٍ مع خيبة أمل فهو بطل مأساوي داخل مأساة عصره الملعون بالاستعمار وبالحكومات الرجعية وغياب الوعي .

أما تماضر التجربة المبتورة، فهي (ذات خصر نحيل وصدر ناهد) ص 105 و (الشفتان الممتلئتان المتحركتان في حذر) ص49 ضاعت بين تمردها وسلبيتها بين رفضها لواقعها ورضوخها لهذا الواقع فكانت بطلة سلبية، فالخط البياني لها يتدرج نحو الأسفل نحو احترافها للدعارة بكل دلالات السقوط والجنون والسقوط الاجتماعي بعكس بطلة جورج أمادو (تريزا) التي تتحول من السلبية إلى الإيجابية عندما تقود المظاهرات .

فهي الرمز الفردي الذي يحاول الخلاص بمفرده دون وعي ودون تنظيم فيسقط في متاهات الهاوية الجحيم (= الدعارة)، فالعودة بالنسبة إليها أصبحت بعيدة جداً فموتها الروحي وسقوطها الحقيقي بدأ حينما أجلستها نشمية القوادة على التخت الخشبي (جلست على نفس التخت الذي جلست عليه مع حسين لأول مرة في الليوان، خطر ذلك على بالها، والآن هي مع شخص آخر) ص206 . هنا يصل وعيها إلى قمته بسقوطها وبالموت المجازي، فهي حين هربت من بيت أبيها كانت تنوي الانتحار (ناوية أذب نفسي بالشط) ص122 ولكن انتحارها الجسدي تحول إلى انتحار روحي لأنها (بالليل نمت بحضنه) ص 122 ولأنها (أرادت ان تنتقم من نفسها ومن أهلها) ص 123، فمن تكون تماضر الثابتة والمتقلبة، المخلصة والخائنة .

البريئة والماجنة ...؟

فتماضر تمر بازدواجية الفعل، الفعل الداخلي (السايكولوجي) غير الفعل الخارجي (الواقعي) وبعدم اكتمال الفعل والبطل(12)، وهذه أيضاً أزمة حسين وصاحب البايسكلجي رغم أنه يمتلك حساً طبقياً حاداً لكنه لا يمتلك رؤية طبقية، فرد الفعل تجاه الواقع يخلق شكلاً من الوعي التاريخي .

إن الحرب العالمية الثانية أحدثت تغيراً جذرياً في العراق، وذلك لنشوء صناعات خفيفة شكلت تجمعات طبقية ومواقف طبقية من جميع مسائل الحياة الهامة وللعلم فأن نشوء أحزاب ثورية في الثلاثينيات قد ساعد التجمعات الطبقية هذه على بلورة رؤية طبقية وبتبنيها نهجاً علمياً . لكن غائب لم ينظر للحالة الاجتماعية من هذه الزاوية الواقعية ذات الوجهين بل نظر إليها من وجهة نظر أدبية بحتة قاتمة مظلمة وترك الجانب المشرق لحياة الكادحين الذين يمتلكون وعياً ورؤية طبقية عالية لأسباب فنية وفكرية .

إن أبطال غائب ليسوا على صلة بعصرهم وظروفهم فحسب بل بحياة العالم كله من هذا الجانب في ذلك يقول (عندما أكتب عملاً لا أحدد هويته بل هو الذي يتكون بين يدي.. الكاتب عندما يتحدث عن شخصية فيجب أن يضعها ضمن بيئتها وعلاقتها الاجتماعية ومرحليتها التاريخية)(13).

حسيبة بطلة رواية (ظلال على النافذة) تشترك مع تماضر بطلة رواية (النخلة والجيران) بقاسم مشترك ألا وهو الانتقام من أهل زوجها ومن جسدها الذي أصبح لعنة بتعهيره في البداية يكون العامل النفسي لهن هو المنزلق ثم يتحول بالتدريج إلى العامل الأقتصادي بعدما تتضح الرؤية لهن و (ليست الخرافات الطبقية والعقبات الخارجية وحدها هي التي قضت على سعادة المحبين والأسباب الداخلية أيضاً، والذي يهم لا صراع الخير مع الشر بل اندماجهما الذي لا يمكن إدراكه)(14)، حتى العلاقة الجنسية تحولت من علاقة بين إنسان وإنسان بين ذات وذات إلى علاقة بين إنسان وشيء، بين إنسان وسلعة لها ثمنها – علاقة تماضر والفلاح .

والجنس عند غائب لم يتخذ بعداً جسدياً شبقياً بل أخذ بعداً سوسيولوجياً كما عند تماضر وبعداً نفسياً كما عند سليمة .

إذن تبقى تماضر بلا بيت ولا زوج ولا أصدقاء مخلصين بل إحساسها القاهر بالضياع – ضياع روحها وجسدها (حب؟! وهو أكو حب بالدنيا!) ص121 وراية ترفرف برياح شتوية عاصفة متهرية مثقوبة ونشمية – الشيطان، القوادة، التي رفضت أهلها ووضعها الاجتماعي كله لأنهم (يريدون صخول حتى اشوكت ميريدون يذبحوها) ص101 (إمرأة ناء جلدها بما يحمل من لحم وشحم) ص53، ونشمية تمتلك قذارة العالم كله وعلى إيصال هذه القذارة للحياة والإحساس بتفاهتها ولا توقعاتها ومفاجأتها . وعقدة الديكية تلبسها ويتهدل لغدها وتنتشي عند سماعها باسم الديك .

أما (مصطفى الدلال)، ذو الطموحات الذليلة، فهو بطل لا بطولي منافق معقد ضد كل ما هو وطني (الانكليز مو أعداء ... ماكو عدو ينفع) (كل ما هو أجنبي أصيل) ص111 وإيمانه بالاستعمار، لا متناهٍ (يبقون ليوم القيامة) ص110 هذا الرجل ذو الرقبة الهزلية (والانف الصغير) ص109 (قفص من العظام الطويلة) ص109 والرأس العاري ص112 احتال على سليمة وأخذ منها كل ما تملك من النقود ثلاثين ديناراً فهو يعتقد بأنه عندما يحتال سيصبح غنياً .

لكنه على من احتال ؟ احتال على الفقراء ومنهم الضحية سليمة الخبازة لكنه نسي أن رفسة الحصان كرفسة الأنكليز وأقوى .

أما من الشخصيات المتألقة في الرواية فهي شخصية (صاحب البايسكلجي) الذي يذكرني بقول أنجلس (صيانة طابعها الإنساني إلا بالحقد على البرجوازية والثورة عليها) ولكنه للأسف الشديد لم نره يثور ... ولكن شاهدناه يحقد .. ثم يحقد بلا نتيجة ويقتل على يد شقي نكرة . وبعض النقاد اعتبره الرمز الواعي للطبقة العاملة (15) فهل الرمز الثوري لا يستدل طريقه ؟ ولا يمثل إلا نفسه ؟ فكيف إذن يصبح الرمز الواعي للطبقة العاملة ...؟ .

إنه نقي .. كالبلور .. نقي كالثلج .. نقي كالحب .. يهوذا الاسخريوطي باع السيد المسيح بـ ثلاثين قطعة من الفضة ومصطفى باع سليمة للوهم بـ ثلاثين دينار مالفرق بين يهوذا ومصطفى ؟ كلاهما باعا نفسيهما للشيطان .

صاحب البايسكلجي قتل وكلماته تطير عالياً (بيع الخبر ما يوكل خبز) ص43 والسيد المسيح قتل وهو مطوق بـ (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان) صاحب يموت مقابل لا شيء تحقق بينما يموت بطل رواية (الأم) لغوركي مقابل ما حققه من إنجازات .

هل صاحب البايسكلجي يمتلك السر كما يمتلكه بروميثوس؟ وهل باح به كما باح بروميثوس..؟

أكانت تجربته كاملة أم كانت ناقصة ..؟ هل كافح الظلم والظلام ؟ هل استطاع أن يحتمل التجربة ...؟ .

ولكن يبقى صاحب البايسكلجي يحمل صليب .. البطولة .. كما قال رومان رولان (البطولة هي رؤية العالم كما هو وحبه كما هو)(16).

ويبقى مصطفى – الدلال وصمة العار في عيون التاريخ القديم والمعاصر للإنسان والعملة المزورة.

أما شخصية (مرهون السايس) فشخصية ضعيفة مهتزة ضعيفة قانعة بذلة العيش لا تفكر إلا كيف تعيش في الطاولة ؟.

وعندما يسمع مرهون خبر بيع الطولة يتشظ من الخوف واليأس ويخاطب حمادي العربنجي (أنت عربنجي وصنعتك بيدك، بلاكت آني وين رايح ؟) ص33 فقد قام بسد أبواب العمل جميعها الواحدة تلو الأخرى ... ولكن حمادي يجيبه بعظمة متناهية: (لتثخنها .. ماكو واحد مات من الجوع) ص33، لكنه لا يؤمن بهذه الحكمة فهو ملكي أكثر من الملك (كانت الطولة قطعة من عمره كانت بيته وماؤه ومملكته) ص34 .

وشخصية (حمادي العربنجي) شخصية ملونة، زاهية كقوس قزح ألوان حقيقية، مشعة، متلألئة، تطغى على كل ما حولها وتضفي نكهة طيبة، ومفارقته العديدة في استخدام اللغة بصيغة السخرية مع نبرة هازئة:

- يلة ابن الحجية، خل نكمل الجاي ص83 .

أو عندما يخاطب زوجته حين تلح عليه مشتكية من خيرية:(تغركين بالجهنم .. لتخوفين الخيل) ص37 وتصل سخريته للذروة في حواره مع زوجته وهو راجع سكران:

- حمادي .. أشكك هدومي ؟

- أسكتي لج .. تره أطلكج.

- وي، يوم أبيض .

- مروكي جوه كالتي ..

- ونظل عمرنا بيد مروكي؟

ولنقرأ سوياً هذا الحوار المقتطع من (في انتظار جودو) وكيف تعمل اللغة والمفارقة عملها ..

بوزو: لقد فقدت غليوني .

استراجون: (يهتز بعنف من جراء الضحك) سوف يقتلني .

(حمادي) كأبطال بيكت في عز المحنة يسخرون، سخرية لاذعة، رغم أنهم معدومون لكن روحهم الطيبة لم يفقدوها، كذلك (حمادي) يمثل التناقض في حواره مع رديفة موقفاً درامياً بشكل مؤثر، مع سخرية مبطنة، ويكون النص ساخراً على أساس الحد الذي يلقى فيه بالشك سواء بشكل ظاهر ام مبطن ويركز (غائب) على أداء النص لوظيفته على مستوى الدال والسخرية هي الميزة في النظرة الحديثة للعالم .

أحاسيس (نشمية) اللاحسية مع ديكها يحولها غائب إلى نوع من السخرية، وهي تنتشي وتتباهى ويتهدل لغدها عندما يعود ديكها من غزواته لدجاجات الجيران، فهي تحس بهذا الشعور إحساساً عميقاً بأنها هي .. الدجاجات .. وفحلها ..(....) لكن غائب يضمّن ذلك سخرية منها ومن أحلامها الشبقية، الديكية وخاصة عندما تصفه:

- هذا اشلون ديج ! .. أشقياء يهز الكاع هز ! ص56 .

أو عندما ترد نشمية على جارها:

- عود كصوا .. ص56 .

تكون هنا خصائص اللغة فاضحة عن خصائص في الطبع و (نشمية) أصلاً شخصية خليعة، مومس، قوادة وهذا (الطبع) ينعكس على اللغة التي تستخدمها وتؤدي إلى آثار مضحكة وفقاً للتخيلات عندنا، فهي لغة – ساخرة غير مجمدة، لغة واقعية ساخرة .

وشخوصه جاءت قوية، حقيقية، معبرة باستخدامها الحوار العامي (اللهجة البغدادية) ولو لم يفعل ذلك لظهرت مزورة فكيف لإنسان لم يعرف القراءة والكتابة يتكلم باللهجة الفصحى ؟وكيف تكون الصورة في أذهاننا عندما تتكلم سليمة أو حمادي بالفصحى..؟ واتفق مع الناقدين شجاع مسلم(17) وعمر الطالب(18) بأن الحوار العامي نجح في إضفاء الجو العراقي الصميمي على الرواية ولم يجعلها رواية – إقليمية بل شرعت كل الجسور للعالمية ومما يلفت النظر لدى غائب أن أحادية المعنى تجاوزها إلى تعددية المعنى وهذا ما منح القراءة فضاءات متعددة لتشكيل الصور الروائية، لم يجبر (غائب) القارئ على المكوث في خانة واحدة للمعنى بل فسح المجال للتجوال في خانات كثيرة للعثور على معانٍ متعددة ...

أما الشكل، فقد تحدثت عنه في الفصل السابق ولايسعني إلا أن أضيف بأن أروع من أسس جدلية – الشكل في الواقعية الحديثة هو (غائب) وخلق نمطاً عربياً حديثاً، وذلك لهضمه التجارب الروائية العالمية والعربية وهذا مما أتاح له التمكن من صياغته الروائية.

وتبقى رواية (النخلة والجيران) القلب النابض للشعب العراقي .. الذي تعيش فيه .

 

اسامة غانم

......................

الهوامش والإحالات

* النخلة والجيران – منشورات المكتبة العصرية، صيدا/ لبنان،1966 .

1- ستيبانوف – خمسة أصوات – ت د. ضياء نافع ص 59 مجلة الأقلام العدد 4-5-6/1995 .

2- فاضل ثامر – الصوت الآخر – ص65 دار الشؤون الثقافية، بغداد 1993 .

3- صلاح حزين – المرتجى والمؤجل ص104 مجلة العربي الكويتية، العدد 360 نوفمبر 1988 .

4- شجاع مسلم – النخلة والجيران – ص 58 مجلة الكلمة العدد 1 ك2 1972 .

5- باسم عبد الحميد حمودي – تجربة غائب طعمة فرمان – ص56 مجلة الاقلام ع 4-5-6 / 1995 .

6- عبد الجبار عباس – الحبكة المنغمة ص292 إعداد علي جواد الطاهر وعائد خصباك، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1994.

7- المصدر السابق – ص295 .

8- فلاديمير دنيبروف وجورج واطسون – دراسات ماركسية في الشعر والرواية ميشال سليمان ص 170 دار القلم، بيروت، ط1، 1974 .

9- عدد من الباحثين السوفييت – نظرية الأدب ت د. جميل نصيف التكريتي ص 379 المركز العربي للطباعة والنشر، بيروت – دار الرشيد للنشر بغداد 1980 .

10- غائب طعمة فرمان – البحث عن الحرية ص63 مجلة الاقلام ع 4-5-6/ 1995 .

11- د. عمر الطالب – الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث والرواية العربية في العراق، ص341 ج1 منشورات مكتبة الأندلس – بغداد يقول د. عمر الطالب [ معظم شخصياته شخصيات مستديرة بمعنى أنه يستطيع أن يعطينا كل جوانب هذه الشخصيات ] ص341 .

12- عدد من الباحثين السوفييت – نظرية الأدب، ص247 .

13- عبد الجبار عباس – الحبكة المنغمة، ص296 .

14- عدد من الباحثين السوفييت – نظرية الأدب – ص253 .

15- مؤيد الطلال – الواقعية الاجتماعية النقدية في القصة العراقية، ص105، دار الرشيد 1982 بغداد .

16- د. سعاد محمد خضر – الواقعية اشتراكية ص85، مطبعة النجوم بغداد 1968 .

17- شجاع مسلم – النخلة والجيران – ص53 المصدر السابق .

18- د. عمر الطالب – الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث والرواية العربية في العراق – ص 347، ج1 منشورات مكتبة الأندلس، بغداد .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم