صحيفة المثقف

تأريخ الطب الشعبي في مدينة الخالص (دلتاوة)

مثنى كاظم صادق خلاسار هكذا كانت تسمى قبل الميلاد كما يشير العلامة طه باقر، ثم قال عنها ياقوت الحموي في معجمه: (الخالص إسم كورة عظيمة من شرقي بغداد إلى سور بغداد) وجدول الخالص أو نهر المدينة يرجع زمن حفره إلى ما قبل الميلاد كما يرجح الدكتور أحمد سوسة ... وقد سميت المدينة كذلك بـ (دلتاوه) أو(ديلتاوه) وتلفظ محلياً (تيلتاوه) وقد ذهب في تخريجها مذاهب شتى لسنا بصدد تكرارها الآن ... وبعد: فالمدينة إذن آهلة بالسكان منذ زمن قديم جداً، وعلى وفق ذلك يرجح كاتب السطور أنها من المدن التي بقيت تتمتع بالمواصفات التي تمكنها استقطاب الناس للإقامة فيها لا للمناطق الزراعية التي فيها، والأنهر الكثيرة المتفرعة من نهرها فحسب ؛ بل لموقعها الجغرافي المتميز الرابط بين الشمال والوسط .

ولاشك أن هكذا منطقة مخضرة بالحقول والبساتين، وتزينها الأنهار أن يعمل معظم سكانها في الزراعة، ومن الطبيعي أن تشهد المدينة ظهور بوادر العلاج بالطب الشعبي في تاريخها ؛ نظراً لعدم تطور وانتشار الطب الحديث وقتذاك، فالناس تعتمد غالباً على الطب الشعبي الذي يسمى بالطب البديل، فالطب الشعبي يعد مفردة من مفردات تاريخ الأمم، فكثيراً ما يرتبط بالمعتقدات والتقاليد التي كانت سائدة في العصور القديمة، فضلاً عن شيوع التجربة البشرية في استعمال هذه العشبة أو تلك.

لا يمكن بأي حال من الأحوال تحديد الحقبة الزمنية التي نشأ فيها الطب الشعبي في الخالص ؛ نظراً لعدم وجود وثائق تدون ذلك، ولعل السبب يرجع كذلك إلى تفشي الأمية في العهد العثماني ؛ فاعتمد الناس في التعامل مع هذا الطب على الوصفة الشفهية أو الرواية المتواترة من الآباء إلى الأبناء وهكذا، فالناس تجتهد في التصدي للأمراض التي تصاب بها، ولاسيما أمراض الأطفال، أقول تتصدى جهد ما أمكنها ذلك، ومع هذا شهدت الخالص موت أو إعاقة كثير من الناس ؛ نظراً لتفشي الأمراض التي كانت تعصف بالعراق وقتذاك كالطاعون والجدري والرمد وسواها من الأمراض التي لم يستطع الطب الشعبي التصدي لها.

ما يزال الطب الشعبي يلقى الاهتمام من الناس لحد هذه اللحظة على الرغم من التطور الكبير الحاصل في مجال الطب الكيميائي ؛ لإيمان بعض الناس بنتائجه مع وجود من يعترض عليه ... ولسنا هنا بصدد المفاضلة بين الطب الشعبي ونده، إنما نود أن نقول : إن الطب الشعبي ظهر في الخالص عن طريق ما استخلصه الناس من تجاربهم الذاتية من الأعشاب المزروعة في هذه المدينة أو ما جاورها من المدن من الأعشاب التي استعملها الناس لدرء خطر الأمراض التي تصيبهم.

ثمة مقولة لأرسطو تشير إلى أن دواء الإنسان هي الأعشاب التي تنبت في أرضه، وبغض النظر عن صحة هذه المقولة وموضوعيتها أو عدم موضوعيتها إلا أن الإنسان غالباً ما يعمل على الوقاية من الأمراض التي تصيبه، من خلال ما يتوافر من أعشاب في أرضه أو مما يستجلبه من أرض أخرى لها صلة وثيقة مع منطقته وغالباً ما يكون هذا الاستجلاب عن طريق التوصية أو السفر لذوي المريض ؛ لجلب ما مطلوب من عشبة كما فعل جلجامش قديما عندما ذهب للبحث عن عشبة الحياة ...

ثمة حكاية تروى حول الصلة بين الطب الشعبي والطب الأكاديمي وكيف أن الطب الأكاديمي متطور عن الطب الشعبي، وأنهما وإن اختلفا في الآليات والأدوات، لكنهما قد يلتقيان، وهذه الحكاية هي أن (أنه ذات مرة مرض الأمير فيصل، الملك فيصل الثاني) ملك العراق فيما بعد)، ولم يفلح علاج الأطباء له وعلى رأسهم الدكتور سندرسن، وقلقت الملكة عالية زوجة الملك غازي على إبنها شديد القلق ؛ فوصف لها بعض المحيطين بالعائلة المالكة أن تعرض الأمير الصغير على أحد الأطباء المحليين الشعبيين في بغداد آنذاك، وكان هو الطبيب الشعبي المشهور في منطقة الكاظمية الحكيم الشعبي سيد إبراهيم، فأرسل في طلبه فأبى أن يحضر إلى قصر الزهور مقر أقامه العائلة المالكة، مدعيا بكل أنفة وكبرياء (بأن من يحتاجني يأتي إلي وسيد إبراهيم لا يذهب لبيوت مرضاه) ولم يكن أمام الملكة عالية الأم العطوف إلا أن تحمل أبنها فيصل إليه، وبعد إطلاع سيد إبراهيم على حالة الأمير فيصل، فوصف له الدواء المستحضر وكان الشفاء به بأذن الله. ما أن سمع الدكتور سندرسن بذلك، حتى تحرك حب الاستطلاع لدى الطبيب الأكاديمي، وذهب إلى سيد إبراهيم للوقوف على سر العلاج الذي وصفه، وما أن التقى بسيد إبراهيم، حتى توطدت بينهما علاقة رائعة بين طبيب أكاديمي وأول عميد لكلية الطب العراقية وطبيب في الطب الشعبي).

في الروايات المتداولة في الخالص، أن العلاج الشعبي كان سارياً عند الناس، فكثير من الفتيات مثلاً يرثن بعض الوصفات الشعبية عن أمهاتهن، ولاسيما أن هذه الوصفات تأخذ فعاليتها عندما تتزوج الفتاة، وتبدأ بإنجاب الأطفال الذين قد يصابون غالباً ببعض العوارض المرضية، فتبدأ رحلة التداوي بالطب الشعبي، وكذا الحال بالنسبة للفتيان يرثون بعض الوصفات الطبية الشعبية عن آبائهم، ولاسيما أن غالباً ما يمتهنون المهنة ذاتها، فيتعرضون لبعض عوارضها وقد تكون الوصفات عامة يعرفها الجميع من خلال ما يتعرض له الناس أمامهم من عارض .

ويمكننا عمل مسرد لبعض أشهر ما كان شائعاً من عوارض مرضية، وكيف كان الناس يتعالجون منها بالأعشاب وسواها، وقد يتخلص البعض من هذا العارض وقد لا يتخلص الآخر منه بحسب ما يتقبله الجسم ومنها :

1 - الثآليل أو ما يسمى محلياً بـ (الفالول) وهي حبوب صغيرة تنتشر على اليد غالباً، وكانوا يتخلصون منها بغرس أشواك وردة (الكسوب) البرية حولها فتؤدي إلى جعل (الثألولة) يابسة وبالنتيجة ضمورها وذهابها.

2 - الجروح التي كانت تحدث أثناء الزراعة، ولاسيما الديمية نتيجة حصاد السنبل بـ (المسنية) وهي أداة تشبه المنجل بحجم كبير، فيعمد المزارع حينها إلى التبول على الجرح ؛ لتعقيمه والتسريع لقطع جريان الدم الحاصل منه.

3 - الجروح التي كانت تحدث للأطفال أثناء لعبهم في الشارع كانت الأم تعمل لهذا الجروح (عطابة) وهي حرق خرقة من القماش وتكميد الجرح بها.

4 - ألم الأسنان : كان يستعمل له بذور القرنفل التي يستعمل خلاصته اليوم طبيب الأسنان في تخدير اللثة.

5 - آلام اللوزتين : يستعمل لهما الغرغرة بالماء والملح أو تستعمل لهما عملية رفع (البلاعيم) ولا تعني عملية الرفع هنا إزالتهما جراحياً بل رفعهما عن طريق مجموعة من نواة التمر تجمع وترتب واحدة تلو الأخرى، ثم تلف بقطعة (يشماغ) أو (غترة) ثم توضع تحت العنق، ثم ترفع شيئاً فشيئاً ليرتاح المريض نسبياً.

6 - ألم الرأس : ويعالج عن طريق (نفض الرأس) وتتم العملية بأن يبرقع المتألم بعباءة نسائية غالباً، ثم يعصب رأسه بإحكام، ثم بعد ذلك يقوم شخص ما بمسك جانب من العباءة قريب من الرأس، فيسحبه عن طريق (النتل) بسرعة قوية إلى تكتمل عملية (النتل) بشكل مدور حول الرأس ثم بعد ذلك يقوم الشخص المعالج بوضع باطن رجله على رأس المريض، ثم يبدأ بضغط كف الرجل على رأس المتألم، مع التمسك بالعباءة ؛ لكي لا يفقد التوازن.

7 - أبو صفار أو ما يسمى بمرض اليرقان : ومن العوائل التي كانت مشهورة بعلاجه بيت الشلاف وكان آخر من عالجته واشتهرت به المرحومة     (بدرية محمد سعيد الشلاف) إذ كانت طريقة علاجه تتم بحلق جزء من رأس المريض بمساحة مقدارها عملة نقدية معدنية، حتى يظهر بياض الرأس، ثم القيام بخدش المنطقة البيضاء بـ (الموس) ثم القيام بوضع عجينة مكونة من بعض الأعشاب المحلية على هذه المنطقة، ثم لف الرأس بعد ذلك.

8 - الدمار (التشنج) وعرق النسا : ويعالج عن طريق ما يسمى (دگ الدمار) ومن اشتهرت بذلك (الحاجة كريمة عبد حسين المختار) إذ يقوم المعالج بمسك الدبوس أو الإبرة وإظهار الجزء المدبب منها من بين الأصابع، ثم القيام بدق مكان التشنج بصورة متتابعة على ألا يُخرِج الدم، بل لمجرد الوغز فقط مع تلاوة الآيات القرآنية، والأدعية والطلب من الله شفاء المريض فلان بن فلانة، ثم بعد ذلك القيام بعملية القطع، ولاسيما في مرض عرق النسا ؛ إذ يخصص المعالج يوماً في الأسبوع للذهاب إلى عاقولة (نبات شوكي) ثم يبدأ بتلاوة الآيات والأدعية، والطلب من الله شفاء المريض فلان بن فلانة، وفي إثناء ذلك لا يستعمل الدبوس أو الأبرة بل يستعمل حلقة فضية أو خاتم فضة ؛ لكي يقطع بها العاقولة من الأرض وحزها أثناء تلاوة القرآن الكريم والأدعية.

9 - علاج شلع السرة : ويحدث ذلك أثناء رفع الإنسان ثقل ما، فيشعر بألم دائم شديد في بطنه، فيعمد معالجه إلى جلب (شيشة معجون) زجاجية ثم حرق خرقة قماش من الأعلى، ووضعها على بطن المريض، ثم وضع هذه (الشيشة) فوق بطن المريض على هذه الخرقة المشتعلة، فتنطفئ بسرعة ؛ لنفاد الهواء، فتمتص (الشيشة جزءاً من بطن المريض، السرة وما حولها ثم تلتصق (الشيشة) بفعل الضغط حول السرة، ثم يبدأ المعالج بإزالة الشيشة بحركات مخصوصة، يميناً وشمالاً إلى أن تنخلع نهائياً من البطن مصحوبة بصوت عالٍ.

10 - الدمامل (الدِنبلة أو الحدگدگة) ويستعمل لعلاجها ورد الساعة الرابعة أو ما يسمى محلياً بورد (لالة عباس) وهو ورد بوقي الشكل، يوضع فوق الدمامل ؛ ليمتص القيح المتكون فيها.

11 - لإخراج ما دخل في العين من أجسام غريبة يستعمل للعلاج (سميسمة البرية) إذ تمتاز هذه النبتة بصفتها اللزجة، فتلتقط الجسم الغريب من العين بكل سهولة.

12 - لعلاج مرض المونيلا (بكتريا تسبب الإسهال): تستعمل قشور الرمان إذ تُغلى وتشرب ثلاث مرات في اليوم، وهو ما يسمى بـ (الدِباغ).

فضلاً عن أمراض أخرى لها طرق علاجية شعبية متداولة بين الناس، ومنها ما قد بدأ يندثر ؛ نتيجة اعتماد الناس على الطب الأكاديمي، ومن الجدير بالذكر أن من المحلات التي كانت تبيع الأعشاب الطبية محل المرحوم السيد عباس السيد يوسف الموسوي، الذي كان في السوق قرب القيصرية، فضلاً عن المحلات التي تخصص أصحابها في الطب الشعبي، مثل محل ماجد العشاب، نصير العشاب، براء العشاب وسواهم.

 

د. مثنى كاظم صادق

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم