صحيفة المثقف

الإمام الحسين ومدرسة الخلود المُطلق

اكرم جلالإنّ التحرّر المُطلق والخروج من كلّ محدود والسّير نحو فضاء اللامحدودية يستدعي إستنهاضاً كبيراً للنّفس والفكر والمشروع، لكي يتمكّن من إختراق الوجود اللّامتناهي وسبر أغوار المجهول، متخطياً حدود الزّمان والمكان.

والخلود مفهوم حدّدت إتجاهاته وأوضحت معالمه العديد من الرؤى الفلسفيّة من خلال تفسيرها لمفهوم الزمان، فالبعض رأى أنّ الزّمان حقيقته متواجدة خارج الذّات الإنسانية (الزمان الموضوعي)، ومنهم من رأى أنّه داخل الذّات الإنسانية وأنّه، كما أشرنا في البحوث السابقة، يَسير بشكلٍ دائري أو خط واحد، وأنه، بوصف أَرِسْطُوطَالِيس المقياس العددي في الحركة والتغيّر.  وأما فلاسفة العصر الحديث فقد ذهبوا إلى أنّ الزّمان والمكان هما القالب الذي فيه قد صُبّ هذا الكون وأنّ المادة في هذا الكون المترامي الأطراف تتحرك ضمن حدود الزمان والمكان.

فجاء مفهوم الخلودَ في جميع الشرائع السماوية متطابقاً مع بعض الآراء الفلسفية كونه الأساس والمنطلق في إعادة الاعتبار للإنسان من خلال حثّه على الارتقاء والوصول إلى مقامات معرفة الحقائق الوجودية واستنهاض قواه الفكريّة واستخدام الثروة المعرفية وإطلاق العنان للطّاقات الروحية الكامنة في أعماق ذاته والخروج من حالة الجمود المُتحجّر والحذر من الإنزلاق نحو حضيض الشهوات الحيوانية، وأنّ التحليق نحو فضاء القرب الإلهي هو السبيل الوحيد للخروج من دائرة التناقض بين محدوديّة الوجود الإنساني واللامتناهية في الوجود الكوني.

إنّ الروح الإنسانية مخلوق شرّفه الله تعالى حينما قَرَنه بذاته المُقدّسة، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، وأنّ له أفقاً غير محدود، على عكس البَدَن الذي وإنْ طال به الزّمن فلا بدّ له من حدود يتوقف عندها ويختفي من الوجود، بينما الروح تبقى حيّه، وأنّها تتعاطى مع الغرائز الحسيّة كالسّمع والبصر والحبّ والبغض بلُغة عالية، فقال الله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ *  ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 7-9 ]، وأنَّ هذه الأرواح عندما تبلغ درجة من الكّمال والرقيّ فإنّ الجوارح سترتبط بالله تعالىٰ وَتَتّحد مع الأسماء والصّفات الإلهيّة، وتتحول عندها إلى تَجَلٍ لكلّ ما يُحبّه الله تعالى، فقد ورد عن رسول الله عليه و آله و سلم أنّه قال: (إنَّ لقتل الحسين حرارة فى قلوب المؤمنين لا تبرد ابداً 1).

والخلود يتجسّد عندما يكون لبعض الأرواح القدرة على البقاء حية في عقول وقلوب الناس، تبعث فيهم روح الحياة وتلك الروح حَيّة في طبيعتها التّكوينية، وحيّة في الفكر والمنهج والأطروحة التي قَدَّمَتْها لتتحوّل بذلك إلى وهج تستنير بنورها البشرية من عتمة الجّهل والظلم، ولتخرجهم من ذلّ عبادة الطاغوت إلى عزّ عبادة الله تعالى، وهي أرواح خالدة حيّة تبعث الحياة فيمن تعلّق بها، وعليه فالذي يبلغ مراتب معرفة الإمام الحسين (عليه السلام) ويسير بسيرته وينتهج منهجه، فإنّه يطلب بذلك الحياة الحرّة ويرفض حياة العبيد، وإنّه بذلك يطرق أبواب الخلود ليشرب كأس العزّ وليتنفّس هواء الحياة الكريمة الأبديّة.

الإمام سلام الله عليه هو مدرسة الحياة الحرّة، والعُلا الذي يطلبه الأحرار، إنّه منهل للفكر والرّوح وليس رجل غيّبته الأزمنه أو مصيبة دامية عفى عليها الدّهر، ولقد خطّ بفكره ومنهجه طريقاً استبشرت به الأنبياء وجاءه التّسديد من السّماء، واعتلى منبر التأريخ ليتجاوز حدود الزمان، فلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل يقف حائلاً أمام مسيرته وهو القائل: (وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، أسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (ع) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين 2)، فكان الزمان مدركاً أنّ الذي يحمل هذا الأمر الجليل ليس كباقي البشر، إنّه مصباح الهدى وسفينة النجاة، ومنبع الرحمة الإنسانية، ومنهج الصلاح، ولأنّ الله تعالى قد شاء لهذا المشروع أن لا يتمّ إلا بدمه الطاهر لينال أعلى مراتب الشهادة، فلبّى الأمام ذلك وأطلق كلمته لتبقى مدويّة ما بقي الليل والنهار: (ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر 3)، سار متدرعاً بالصبر والتوكل والثبات وهو يردد: (صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين4)، قد آثر القتل له ولأهل بيته وأصحابه بدلاً من طاعة اللئام، فجاد بما يملك طاعة وقُربة لوجه الباري عزّ اسمه، فكان جزاءه أن أعطاه الله تعالى لسان صدق في الآخرين؛ ليبلغ بذلك أعلى مدارج الخلود.

 

 د. أكرم جلال

.................................

المراجع

1- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 12، ص556.

2-  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج44، ص329.

3- تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر - ح 670 ، وتهذيبه ج 2 ص 334. والمقتل –للخوارزمي - ج 2 ص 7 .

4- مقتل الحسين (ع) – المقرم - ص297.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم