صحيفة المثقف

وجدي وصحافة الرأي

عصمت نصارظل مفكرنا طيلة حياته يحمل لواء المحافظين ويعتلي منبر الأزهريين ويناظر المستشرقين بمنطق العلماء، ويساجل المجترئين بحجة الفلاسفة والعقلاء ويسطر أبحاثه ومقالاته بقلم أفصح الأدباء هو الأستاذ "محمد فريد مصطفى وجدي علي رشاد، الذي أجمع معاصروه على أنه فريد عصره في قدرته على التأليف بين الأضداد في سياق بديع مبتكر فقد ربط بين الأصالة والمعاصرة، وفض النزاع بين الدين والعلم، وكشف عن عالم الروح وأكد أن للحوار أخلاق وفن وللتناظر والتصاول أداب يجب الالتزام بها ودربة ودراية ينبغي عدم إهمالها.

فقد نشأ مفكرنا بالإسكندرية في كنف أسرة مصرية ترجع أصولها إلى أكابر العائلات الكردية وشبّ في بيت جمع بين رغد العيش وثراء الثقافة وتربية دينية وحس صوفي وحدس روحي، حفظ القرآن صغيرًا ثم ألحقه والده بالعديد من المدارس الابتدائية الخاصة، العربية والأجنبية، ليجمع في صغره بين الثقافتين الشرقية والغربية وأتقن في صباه الفرنسية والتركية والتليد والنفيس من علوم اللغة العربية، وانتقل من الإسكندرية إلى دمياط إلى السويس ثم إلى القاهرة (1892م) ليلتحق بالمدرسة التوفيقية ومنها إلى مدرسة الحقوق ثم رغب عنها وفضل العمل في الصحافة.

وأدرك أن ميوله أقرب إلى الثقافة الموسوعية والدراسات الفلسفية تلك التي كانت ثمرة قراءته في مكتبة والده الزاخرة بمئات المؤلفات في شتى دروب الثقافة العربية والتركية والفرنسية، ذلك فضلًا عن الجلسات الحوارية التي كان يعقدها والده في دمياط لمناقشة قضايا الفكر والدين والسياسة مع أكابر أصحاب المنابر وقادة الرأي وأرباب الأقلام.

الأمر الذي جعله يرغب عن الدروس المتخصصة في حقل معرفي بعينه فشرع يكتب في الفلسفة والعلم والأدب والتاريخ والشريعة ومقارنة الأديان وعالم الروح والسياسة الغربية والمبادئ الشرعية الإسلامية، واشتهر بين معاصريه بالمحاور النابغة وشهد شيوخ عصره بنبوغه، وتنبأ الكثيرون برفعة مكانته في الفكر الإسلامي بعامة وميدان صحافة الرأي بخاصة.

وقد عبر عن ذلك بصرير قلمه الذي رددت أصداؤه العديد من الصحف والمجلات مثل اللواء والمؤيد والأهرام والمقتطف والحديث والهلال والبلاغ.

وفي عام (1899م) أسس "مجلة الحياة"، وقد عبر عن وجهتها ومقصدها منذ العدد الأول إذ جاء فيه أن هدفها الأساسي هو توضيح أن الإسلام هو روح العمران، وتوأم سعادة الإنسان، ويمكن تحقيق ذلك بثلاثة محاور:

أولها: تعريف الأوروبيين بحقيقة الإسلام، وتوعية المسلمين بمحاسن الحضارة الغربية ومساوئها.

ثانيها: الحد من التقليد الجاهل لخبائث ونقائص الثقافة الغربية مثل تبني شبيبة المسلمين للمذاهب الغربية الهدامة حتى أصبح الكثيرون ممن يزعمون المدنية زورا يفتخرون بالتظاهر بالإلحاد على رؤوس الأشهاد ظنا منهم أن ذلك غاية غايات التقدم، قائلا: "إن هذا الدرب من التقليد الكاذب هو الذي هدم ركن الفضائل الشرقية العليا من أفئدة شبان المشرق وانتزع روح الكمالات الإسلامية من قلوبهم ألا إن هذا هو السيل الاجتماعي الذي أخذ يسري في جسم هيئتنا الاجتماعية حتى يخشى أن يتغلب على سائر الأعضاء ولو بعد حين، فيكون سببا رئيسيا في انقراضنا وتلاشينا، وليس تلاشي الأمم الضالة عن الفضائل بالأمر البعيد".

ثالثها: تقديم الأدلة العلمية والبراهين العقلية على أن الديانة الإسلامية هي روح العمران وقوام سعادة الإنسان، وإثبات وجود الله تعالى والروح والآخرة بالأدلة الدامغة المعتمدة على تحقيقات العلماء العصريين جريا مع سنة الزمان مع تأييد أقاويلهم بالأدلة الفلسفية الحسية.

أما مؤلفاته فقد جاءت ثمرة ناضجة لثقافة ذاتية واعية جمعت بين التليد والجديد والفلسفات المادية والنزاعات الروحية والنظريات العلمية والمصنفات الصوفية والمناهج التربوية وتواريخ الأمم وآداب الشعوب الشرقية والغربية، ومن أوائل كتابته كتاب "الفلسفة الحقة في بدائع الأكوان (1896م)، وكتاب (المدنية والإسلام) عام 1898م، وكتاب "الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية (1901م)".

وفي عام (1906م) رشحه "مصطفى كامل (1874م- 1908م)" لتمثيل مصر في مؤتمر مقارنة الأديان الذي دعت إليه الحكومة اليابانية بعد استقلالها عن روسيا غير أنه اعتذر، وذهب الشيخ " على أحمد الجرجاوي (ت نحو 1961م)" عوضا عنه، وذلك على نفقته الخاصة، وحضر أولى جلسات المؤتمر التي عقدت في أول مارس من نفس العام.

أما "محمد فريد وجدي" فقد ألف كتيبًا بالفرنسية بعنوان "رسالة سفير الإسلام" وأرسله إلى إدارة المؤتمر ثم قام بترجمته لقراء العربية.

وفي (عام 1907م) أنشأ جريدة الدستور وهي المدرسة الأولى التي اجتذبت شبيبة الصحفيين، وكان ما يميزها عن غيرها وجهتها الجامعة بين الرؤى المحافظة في الدين والمنهج العقلي في نقد المعارف الوافدة، وكان مفكرنا يحرر معظم أبوابها.

أما وجهة المجلة السياسية؛ فكانت أقرب إلى الحزب الوطني ويبدو ذلك في المعارك التي كانت تخوضها مع الأحزاب الأخرى مثل مجلتي "الأمة"، و"المؤيد"، وفي عام (1909م) أغلقت المجلة.

ويحدثنا عباس محمود العقاد عن أثر مدرسة جريدة الدستور في شبيبة المثقفين المصريين مؤكدا أن محمد فريد وجدي لم يكن أستاذًا لصحافة الرأي فحسب بل معلمًا أصيلا للتفكير الناقد وأدب الاختلاف وفن التحاور وعقلانية التناظر، ولم تكن دروسه في هذا الميدان نظرية أو خطابية، بل كانت ممارسة وتطبيق ويشهد بذلك كل تلاميذه من كتاب وخطباء وسياسيين، ويقول: "وقد كنت يوم اشتغلت بتحرير الدستور كاتبًا ناشئًا، خامل الذكر، ليس لي بحق الشهرة أن يكون لي رأي مستقل مسموع، ولكني كنت أخالفه (أي وجدي) في بعض آرائه، بل في بعض مبادئه السياسية وبعض معتقداته عما وراء المادة وتحضير الأرواح، وأشهر ما كان من ذلك حول موقف الحزب الوطني من «سعد زغلول»، فلم يمنعني ذلك أن أنشر في الدستور ما يخالف هذا الموقف، وأن أحادث «سعد زغلول» حديثًا ينفي كل ما يعزوه إليه كُتاب اللواء. وقد صارحته غاية الصراحة فيما كان يعتقده من تحضير الأرواح، وصارحني غاية الصراحة في أمر المتشابهات من العقائد والأحكام، فلا أذكر أنني لمحت منه عند أشد المخالفة نظرة غير نظرته حيث تقترب الأفكار والآراء".

أما عن أهداف جريدة الدستور فيحدثنا د. غريب جمعة مبينا أن رسالة مجلة الدستور لم تكن بوقا من أبواق الصحف الحزبية أو منبرا يروج لأيدولوجية بعينها وإنما هي صحيفة ثقافة وعلم، ولم تكن مقالات مؤسسها تعطي صورة السياسي المحترف بقدر ما تعطي صورته الأصلية :

أي صورة الفيلسوف والمصلح الاجتماعي الذي يشغله بناء فكر الأمة على نحو جديد يقوم على : العلم والدين والوطنية، لذلك كان موقف الرجل وصحيفته عجيبا وغريبا بين الجرائد والصحف في ذلك الوقت، وتحمل في سبيل مبادئه من الأثقال ما تنوء بحمله الجبال. وربما لم يعرف تاريخ الصحافة في مصر كاتبا يؤثر الحق على المنفعة الذاتية مهما كلفه ذلك من تضحيات حتى في أيام العسرة التي مرت بها الجريدة.

ومن الواقعات التي تؤكد نزاهة المفكر الصحفي والمعلم صاحب القلم العفيف الجريء أن حدث ذات يوم أن وجدي كتب في جريدته مؤيدا لرأي للسيد محمد توفيق البكري نقيب الأشراف خالف فيه الخديوي عباس حلمي، فقد عبر الأول عن سروره بهذا التأييد وأرسل لوجدي وجريدته مساعدة مالية ضخمه حيث كانت تعاني الجريدة آن ذاك من ضائقة مالية، فقام وجدي بردها ولم يقبلها شاكرًا لصنيع صاحبها وموضحا أن قلمه ليس له ثمن وأن رأيه لا يقصد من وراءه إلا الحق غير طامعًا في مكافأة أو ساكتا عن أمر أو رأي يرفضه أو ينقده.

وخلال هذه الفترة أرسل إليه حزب تركيا الفتاة عارضا عليه تغيير شعار جريدته (لسان حالة الجامعة الإسلامية) إلى لسان حال حزب تركيا الفتاة وذلك مقابل إنقاذه من الديون التي كادت تكبل جريدته وتعرضها للإغلاق، فرفض مؤكدًا أن شعار مجلته يعبر عن الرسالة التي تحملها أقلام محرريها وأنها ليست بطبيعة الحالة خاضعة للمساومة، فكانت أزمة الأستاذ وجدي في مجال الصحافة أثرا من آثار "المبدأ" الذي لا ينحرف الرجل عنه قيد شعرة وهو الجهر بالرأي ولو خالف القوة والكثرة وخالف أحب الناس إليه، ولقد كان خلافه مع الحزب الوطني سببا رئيسا في كساد صحيفته فعجز عن النهوض بتكاليفها ولم يقبل أن يعوض الخسارة بمعونة مفروضة من جهات لا تتفق مع عقيدته فأوقفها.

الشك درب الاستقلال والحرية ومنهج الوصول للحقيقة واليقين

لم تكن صحافة الرأي هي الدافع الأول لانتهاج "محمد فريد وجدي" أسلوب التحاور والتناظر لتنبيه الأذهان وتقويم المفاهيم والدفاع عن قناعاته وإثبات صحة معارفه. وعلى الرغم من عشقه للعمل الصحفي وتفضيله مهنة تثقيف العقول على غيرها؛ فإنّ المحرك الأول لشغفه للتحاور والتناظر هو تلك الأباليس الذهنية والشياطين الفكرية التي راحت تشككه وهو في سن الشباب في كل ما حصله من معارف على يد أساتذته بالمدارس أو ما حفظه من شيوخه وأقاربه من نصائح وحكم وذلك عقب التحاقه بالمدارس النظامية التي رغب عن مناهجها التلقينية؛ ففي الثالثة عشرة من عمره انتابته بعض الأفكار التي أدت به إلى الشك في العقيدة، وقد اهتدى إلى أن معالجة مثل هذه الجراثيم الإدراكية التي تلحق بالذهن المتطلع لإدراك اليقين يجب أن يكون ذاتيًا عن طريق الاطلاع والتوسع في معرفة كل ما يحيط بالمسألة التي تسلل إليها شكه وارتيابه بعين الناقد المحلل؛ فوجد في كتب الفلسفة والتاريخ والدين والعلم والاجتماع ضالته فتعافى من مرضه؛ فذهب إلى الإيمان وهو مسلح بالبرهان العقلي اليقيني الذي عصمه بعد ذلك من الجنوح والشطط والإلحاد والتبعية.

ويقول في ذلك "وقد أفادني هذا الشك استقلالًا في الفكر، واعتمادًا على النفس ورغبة في استيعاب ما يقع بيدي من الكتب، على اختلاف أنواعها بصبر وجلد، كما أفادني في البحث، حتى أزال الشك عني، وارتاحت نفسي إلى عقيدة ثابتة".

وقد مارس وجدي في شبابه التفكير الناقد والتعليم الذاتي ويبدو ذلك في اعتماده على نفسه لمعالجة شكوكه كما بينا؛ خوفًا من وقوعه في مستنقع التحزب والتقليد والتطرف وكان مؤمنًا أن الحق والصواب يجب أن يقصدهما العقل بإرادة حرة واعية دون أدنى اعتماد على تحريض الأغيار أو نصح الموجهين "لا يعرف الحق بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق"؛ وكأنه ديكارت يضع كفه على فوهة سلته حريصًا ألا يدخل بها إلا السليم والناضج من التفاح، وقد مكنه هذا النهج من التحاور مع الأغيار من أهل الدربة والدراية فيختبر علمهم وينتفع بما يفتقر إليه منه، ويجادل كذلك المتعالمين ومدعي الثقافة فيتعرف على أضاليلهم وأكاذيبهم وتلفيقاتهم، وكان لا يخجل من التصاول معهم ومواجهتهم متخذًا من عدته المعرفية وأسلحته المنطقية آليات للدفاع عن قناعاته، وذلك مع التزامه الشديد بآداب الجدل وأخلاقيات التناظر، ويحدثنا عن ذلك تلميذه محمد طه الحاجري "وإذا هو في مجلس حافل بالشيوخ من علماء هذه المدينة (أي مدينة دمياط) يتحدثون.

 وتعرض بعض مسائل الدين فيتناقشون فيها ويتناظرون، وإذا هو يسمع أشياء لا يسيغها، وإذا بأسلوب في التفكير والتقرير ينكره عقله، ويأباه العلم الذي تمثل له فيما قرأ من دراسات في "الكون والخلق" انطبع بها تفكيره، وإذا هو يرى نفسه مدفوعًا إلى مناقشاتهم والإدلاء برأيه في هذه المسائل التي تتعلق بالكون والخلق، ولكنه لا يكاد يهم بالمناقشة حتى يحس أبوه بالحرج فيصرفه عنها. ويأمره ألا يخوض في المسائل الدينية التي لا شأن له بها، ولا قدرة له عليها. ويكبر هذا الموقف من الأب في نفس الفتى المعتز برأيه وتفكيره، ويرى فيه "حجرًا على العقل بلا مسوغ".. وتمثل أمامه أقوال هؤلاء الشيوخ وآراؤهم في الدين فإذا هو يردد بينه وبين نفسه : إذا كان الدين هو ما تعرضه أقوالهم فهو باطل. وإذا لم يكن ذلك هو الدين، فما هو إذن؟ وبذلك يرى الشاب نفسه مدفوعًا إلى التماس الدين في كتبه ومصادره، وقد تبين له عقم الكتب التي صدر عنها هؤلاء الشيوخ في تمثيلهم للدين، وفي تفكيرهم الديني. ويدفعه ذلك إلى عدم الوقوف عندها والاكتفاء بها، وإنما يتجاوزها إلى غيرها. فيمضي بقراءاته الدينية في كل مجال، ويلتمس الحقيقة الدينية في كل سبيل".

ولم تقف رغبة وجدي في محاورة بني جلدته حول قضايا العقل والنقل والدين والعلم والإسلام والمدنية بل امتد بصره إلى أبعد من ذلك. وقد وجد أن معظم الكتابات المغرضة الرامية إلى تيئيس شبيبة المسلمين من إحياء تراثهم التليد وتجديد مذاهبه واللحاق بركب الحضارة الأوربية هو كتابات غلاة المستشرقين وتجار الكلمة من الدوائر البحثية التي يٌجيشها المحتلين للبلدان الإسلامية لتضليل أهلها وإحباط مساعيهم النهضوية، وقد شرع في محاورة هؤلاء جميعًا والتساجل معهم بلغتهم بمنأى عن التهوين والتهويل من شر كتاباتهم.

ويحدثنا "محمد رشيد رضا" فيروى لنا أنه قد التقى بمحمد فريد وجدي أثناء زيارته لدمياط عقب مجيئه من بلاد الشام للإقامة في مصر فروى أنه قد التقى بمثقف بحَاثة واعي غيور على الإسلام غيرته على وطنه مصر وأنه قد ألف كتابًا يزود فيه عن حقائق الإسلام التي أراد المحتلون تضليلها وذلك في كتاب بعنوان "الفلسفة الحقة في بدائع الأكوان"، وأن وجدي قد عدَ العُدة لمخاطبة المفكرين الفرنسيين لتبصيرهم بحقيقة الإسلام وذلك بأسلوب جدلي يذهب فيه بذكر الأغاليط والأخطاء والجهالات التي ذاعت في الفكر الأوربي ثم يقوم بتفنيدها والرد عليها بمنحى عقلي تحليلي وذلك عقب نقد المسائل المختلف عليها بمنحى ديكارتي يهدف لهداية الذهن إلى الحقائق مستبعدًا كل غامض وكاذب ومضلل.

ومما جاء في رسالة وجدي إلى رشيد رضا هذا التصريح الذي يؤكد أصالة فلسفة الحوار في مشروعه التجديدي فيقول "إنني ألفت قبل بضعة أشهر كتابًا باللغة الفرنساوية، أثبت فيه بالبراهين العصرية، وبالاستناد إلى أقاويل أساطين فلسفة زماننا الحاضر أن المدنية الحقة والإسلام هما أخوان توأمان لا يفترقان، وبعثت بالكتاب ليطبع في باريس"؛ أما كتابه "الفلسفة الحقة في بدائع الكون" الذي أهداه لرشيد رضا وحكى لعبد القادر المغربي عنه؛ فكان دربًا آخر من دروب فلسفة الحوار ويمثل حوار الأنا مع الذات (الأنا المتأمل للكون من حولها) يتحاور مع الذات العارفة المتطلعة لإدراك الحقيقة سائلًا إياها عن الأصل والعلة الفاعلة والعلة الغائية؛ ثم ينتقل إلى التهكم على أولئك المعنيين من علماء الدين بدراسة علاقة الله بالكون والإبداع الذي في خلق الموجودات وقدرة الباري التي لا حد لها في الفن والتصوير والإيجاد من عدم شاكيًا تقاعسهم وقعودهم عن التفكير في مخلوقات الله على الرغم من أن هذا الأمر قد حث عليه الشرع وأضحى واجبًا عليهم في غير موضع من كتابه الشريف؛ ليتدبر المؤمنون عظمة الباري في خلقه ويقول في ذلك : "فهؤلاء العلماء هم أكثر الناس لذة، وأوفرهم حظًا، وأغزرهم عقلًا، وأفضلهم نبلًا. يرى الواحد منهم النملة سائرة على أديم الأرض، فيكون نظره إليها، وهي دائبة لتصل إلى وكرها، حاملة لغنيمتها، ألذ له من اجتلاء خطرات الغادات في الخمائل النضرات، وإن سمع زمجرة الرعد وقواصف الرياح يهتز لحكمتها طربًا، ولا طربة من سماع رنات العيدان، بين الكاسات والندمان. فإنّ خيرت أحدهم بين نواله ملء الأرض ذهبًا مع صيرورته من ذوي العقول الساذجة، وبين بقائه على حالته مع الفقر المدقع، لرضي بالثاني رضى لا يشوبه ندم ولا يصحبه سدم مع هربه من الأول ولا هربه من المصاب بالتيفوس .. فهو في حالة لا يعلم قدرها إلا هو ومن على شكله وشاكلته "يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وما يذكر إلا أولوا الألباب".

(وللحديث بقية)

 

بقلم: د. عصمت نصار 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم