صحيفة المثقف

التأريخ الظالم.. واقعة الطف حقائق وأوهام

جاء محرم شهر الفرح بميلاد التاريخ الهجري، وجاءت معه ذكرى واقعة (الطف) ذات الوقع المؤلم على قلوب المسلمين جميعا، بأسبابها، وعوامل وجغرافية أحداثها، وما انتهت إليه من نتائج ومعطيات، وهي خير مثال على تشويه التأريخ في كثير من صفحاته عمدا، ومع سبق الإصرار من جانب، ومن ثم اجترار هذا الكذب والافتراء من جانب آخر؛ ومن شتى الطبقات الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، بما فيها التأريخ عبر عصوره، فضلا على اهل الدين،  فقد كان هناك من حاول إلصاق الواقعة بشكل أو بآخر بأهل العراق، وكأن ما حدث ما كان ليقع لولا دعوتهم (الحسين بن علي) للخروج إليهم لدفع الظلم الواقع على جميع المسلمين، نتيجة النعرة القومية، والقبلية التي حكم بها الأمويون العالم الاسلامي من مشرقه إلى مغربه، وبقسوة مفرطة، فيها من خشونة البداوة، وقساوة الأعراب أكثر بكثير مما فيها من روح الإسلام وتسامحه، ومثله، وهو سلوك ستنطبع به السياسة العربية والإسلامية إلى اليوم، وهم بذلك الادعاء أو الالصاق بأهل العراق والكوفة بالتحديد، أرادوا التغطية على كثير من القضايا الشائكة، وتزييف الحقائق التي تدينهم، وتربك محيطهم، وبالتالي سياستهم، وتأريخهم، ومنهجهم، وطبائعهم، وأولها شق عصا الطاعة لخليفة المسلمين الراشد الرابع الإمام علي بن أبي طالب، وما جرّت إليه من حروب، وفتن، مثل حروب الجمل، وصفين، والنهروان وغيرها، وما خلفت من صدور موغرة، وثارات، وزرع الفتنة التي لم تنطفأ، ولن تنطفأ مادامت هناك سياسة ومصالح ومقاصد تريد توظيفها من جديد لهذا السبب، أو ذاك، وقد تم على إثرها الصلح بين (الحسن بن علي) خليفة المسلمين -بعد استشهاد الإمام علي وخوض عدة معارك- ومعاوية بن أبي سفيان الطامح للملك الذي خاض من أجله في دماء المسلمين بالحق القليل، والباطل الكثير، وانتهت بتنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية حقنا لدماء المسلمين، ولعوامل أخرى يطول ذكرها، بشرط أن تعود الخلافة بعده للمسلمين يصرفوها كيف شاءت إرادتهم، ويثبت رأيهم، بيد أن ذلك التنازل كان بوابة الملك العضوض للأمويين، ومن بعدهم، وخير ما يمثله مقولة مروان بن الحكم المتناقلة بعد اعلان التنازل: (تلقفوها بني أمية، فلا جنة، ولا نار)، وما كان من معاوية-بعد عشرين عجاف من الإيالة- الا العودة لروح الاستئثار، والأنانية هذه، وحب الذات الطاغي الذي عرف به وقومه حين أحس بدنو أجله، فأمر أصحابه بتهيئة الأجواء لابنه (يزيد) ليكون خليفة من بعده، وكان هذا القرار، وهذه الرغبة عاملا آخر وسببا رئيسا من أسباب وقوع جريمة الطف، إذ امتنع الإمام الحسين عن مبايعة يزيد، وخير ما يجسدها، عللا وأسبابا المقولة الشهيرة للإمام:( مثلي لا يبايع مثله)، فضلا على نقض العهد، وغمط الإمام حقه في الخلافة حسب معطيات الأمور ورغبة المسلمين، وأملهم حينها في تولية الخلافة بعد معاوية للحسين بن علي، بيد أن الأمر جرى على ما لا تشتهي سفن الناس، فخضع من خضع لإرادة معاوية وابنه، واستكان من استكان، وكان هذا الخضوع،  وهذه الاستكانة، الخطوة الرديفة لمسافة الألف ميل من العنجهية، والدكتاتورية، ورحلة السيف في رقاب العرب والمسلمين، فقد شرع حز رقاب المناوئ، والمعادي بالسيف، وإن كان هذا الآخر على حق ظاهر، فمن يناويء السلطة له السيف، والقتل، وجريان الدم، فيه، وفي أهله، وصحبه، وربما قريته بأكملها، أو مدينته، كما فعل أسلاف لهم، ومأتمون. مما حدى بالإمام إلى إعلان العصيان وإشهار السيف، حين آلت الأمور إلى الإسفاف بتولية يزيد فعلا، وذلك انصياعا من الحسين للمبادىء لا لمنطق العدة والعدد.

ولعل مما يؤسف له، وله الأثر الهام في ميل كفة معركة الطف قبل بدئها، هو خذلان الإمام في عقر دار جده في المدينة من قبل الغالبية العظمى من المهاجرين والانصار، ومعهم أهل مكة وما حولها، بل أهل الحجاز كله، إذ يبدو أن حياة الترف والغنى بعد ما باتوا العاصمة الآمنة المطمئنة لدولة مترامية الأطراف تجبى إليها أنعم ربها، والخيرات من كل مكان، وفي كل حين، إذ أخذ يدب فيهم حب السلامة والهوينى والوداعة؛ فلم يخرج منهم معه أحد، بل اعترضوا خروجه كما فعل الصحاببان عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر الذي هم أن يمسك بتلابيب شعره ليمنعه من الخروج، فاقتصرت مرافقته على أهل بيته، ونفر من أصحابه يعدون بالأصابع، فالاستكانة للظلم، والجور، وعدم مناصرة الحق، وخذلانه وخذلان المطالبين به بدأ من هذا الموقف، فلا لوم، ولا تثريب على الناس بعدها إن لم يقفوا الموقف المطلوب، إن رأوا أئمتهم وسادتهم على هذه الشاكلة، فضلا على مواقف أخر سنتطرق لها فيما بعد.

ليبدأ الخذلان واللوم من الأهل والصحب والخلان الحجازيين، والشاميين بشكل أعنف، وأشد، وأدمى ما أن يصل الإمام ومن معه-72نفرا فحسب- مشارف الكوفة وعلى رأس هذا الفريق الحجازيان عبيدالله بن زياد بن أبيه، وعمر بن سعد، وربيبهما الشمر بن الجوشن، متكئين على جيش قوامه 4000 مقاتل جلهم من الشام والحجاز ارسلهم يزيد بن معاوية إلى الكوفة لنصرة ابن رياد، وزبانيته، والمتلمظين حوله.

إذن لم يثصل الإمام الحسين بأي من أنصاره حين وصوله مشارف الكوفة فقد كانت كفة السلطان أكثر تدبيرا، وعيونه أوسع عددا، ويقظته على أشدها؛ فأعترضوا موكبه، ومنعوه الوصول إلى مدينة الكوفة حيث الأنصار والاتباع، الظاهرون منهم والمتخفون، والذين شتتهم الوشاية التي أوقعت برسول الحسين (مسلم بن عقيل) فلقى حتفه على يد ابن زياد وزبانيته، ومن ثم ملاحقة اتباعه، والتمثيل بالمخلصين للحسين منهم لإخافة الناس، وردعهم وهذا أدى إلى تقهقر كبير لم تتح فرصة للملمته، فلو تمكن الإمام من لقاء الناس والخطبة بهم لكان للواقعة طريق آخر، وشأن آخر، وتأريخ آخر.

هذا في المكان القريب (مدينة الكوفة) المهيأ للوثوب، والرفض، ورغبة الدخول في المعركة لم يتمكن من أن يشارك، أو يناصر، أو حتى يدعو لذلك بسبب فقدان القائد المحفز، والمنظم، والمخطط، بعد الإجهاز على رسول الإمام؛ فما بالك بالمناطق النائية مدنا كانت، أو قرى، أو أفرادا، ولا وسائل اتصال، ولا مبعوثين؛ حيث أحيط بالمدينة من كل جوانبها، فلا دخول أو خروج منها فضلا على أن أدوات التنقل لم تكن أكثر من: قدم، جمل، وفي أفضلها يأتي الرجل فارسا. فكم يحناج الذي يعزم على الخروج من البادية، أو أي مكان آخر للالتحاق بركب المعركة  في الكوفة -هذا إذا تناهى إليهم أخبار خروج الحسين في زمن لا يصل الخبر فيه الا بعد شهور-؟!، وما يؤيد هذه القراءة هو قصر المدة بين وصول الامام واستشهاده فلا تتجاوز أيام عدة، لا يتسنى فيها إرسال أي مدد، أو معونة، أو التحاق، فقد وصل ع في يوم الخميس الثاني من محرم سنة61ه، واستشهد في العاشر من محرم الحرام.

ونعود لنقول إن تلك المعوقات، أو ذلك المدد لو حصل لا يعدل كفة معركة معد لها من جانب اعدادا كاملا، وكأنها معركة كبرى بين جيشين، يقابلها نفر معدودين من المقاتلين، ليس لهم عمق جغرافي، أو  اجتماعي، أو عسكري في هذا المكان وفي هذه اللحظة الحاضرة.

إذا لم يتسن لأهل الكوفة-الذين هم في جلهم من الحجاز حينئذ -ولنتذكر تاريخ تخطيط الكوفة، ومن سكنها أولا؛ الجيوش القادمة من الحجاز صوب العراق وشرقه؛ للتحرير، ونشر الرسالة، وعوائلهم، تبعهم مهاجرون آخرون ينشدون تحقيق مصالح ما، فضلا على نفر قليل ممن كانوا يسكنون هذه الأرض وما حولها- إذن هي معركة حجازية-حجازية، وشامية-قوادا،وجنودا، وحقدا- جرت على أرض العراق، ، فالعراق جغرافيا/أرض معركة فحسب، لم يشارك من أبنائه في المعركة الا أقل من القليل، فلم هذا السب، والشتم، والطعن لأهل العراق؟!، وهم بريئون مما اقترفتم على أرضهم من جناية تأريخية كبرى براءة الذئب من دم يوسف، إنه التدليس، وتشويه الحقائق، والتأريخ الظالم الذي كثيرا ما يكرر الكذبة الأولى آلاف المرات، والمفارقة أن الكاذب الأول مغرض، ومبغض، وصاحب أهداف ما شائنة، بيد أن من بعده يكررون، ويلوكون دون وعي، أو هدف، إنما هو ما اعتدنا عليه من الانكباب على الماضي وكأنه كتاب مقدس، والتصديق الساذج لكل ما يقال، فكثيرا ما نغيب العقل، والمنطق لحظة شبوب العواطف، والانفعالات التي هي مصدر هيامنا في كل واد، وان كان فيه سبنا، وشتمنا، والإقلال من شأننا، بل الحقد علينا، وتشويه تأريخنا حد جعله تأريخا ظالما كظلمهم إمامنا..!!.

 

د. رياض الناصري

‏الثلاثاء‏، 25‏ آب‏، 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم