صحيفة المثقف

الموضعة والتجريد في اللغة (1)

علي محمد اليوسفتقديم: (الفلسفة هي فن تشكيل وابداع صناعة المفاهيم ) جيل ديلوز

مامعنى التموضعية Positionnalite عند الانسان وفي اللغة؟ التموضعية هي تعبير اللغة عن المدركات خارج لغة التجريد بمعنى عدم انفصال الدال عن المدلول الشيئي في تموضع تعبير اللغة عن مواضيع وادراكات العقل كما هو في المعنى الدارج فلسفيا، حيث يكون كل مدرك شيئيء هو تجريد لغوي تعبيري عنه. بعبارة ثانية أن تموضع اللغة في مدركات التعبير عن الاشياء والموضوعات خارج الذهن يفقدها هويتها الخصائصية التجريدية وميزتها المؤنسنة بالنوع كنتاج لتفكيرعقلي يحوزه الانسان ويحتكره دون غيره، وبذلك تصبح موضعة اللغة بالاشياء جزءا من تكوينات تلك الاشياء المادية والموضوعات المفهومية التي تموضعت اللغة فيها من خلال تعبيرها التجريدي عنها. وتخرج اللغة بذلك عن قدرها المحتوم أنها مصادرة نوعية يحتكرها العقل الانساني فقط...وليس معنى هذا أن تموضع اللغة غير الانفصالية بالاشياء أن تلك الاشياء التي تموضعت اللغة بها أصبحت تمتلك خاصية التعبير باللغة عن نفسها كما ينفرد الانسان بهذه الخاصية. بل تموضع اللغة بالاشياء تكون خاصيتها اللغوية في الادراك العقلي لها فقط .

وبذلك فالتموضع الموضوعي يفقد اللغة خاصيتها التجريدية الدلالية عن الاشياء  في تعبيرها الادراكي الذي تنفصل اللغة التجريدية فيه عن الاشياء المدركة ماديا بتوصيفها الموجودات بعد التموضع فيها... ويكون تموضع اللغة متطابقا تماما في الموضعة والتجريد في تعبير اللغة عن مواضيع مفهومية لاشيئية لا ندركها حسيا مباشرا مثل الحب، الاخلاق، المعرفة، الضمير، الوجدان، العاطفة، وهكذا.

فاللغة في تعبيرها عن المفاهيم أي المواضيع غير الحسيّة، هنا تكون اللغة تجريدا تموضعيا تماما في معرفة وادراك تلك المفاهيم وليس تجريدا منفصلا تماما عنها كما هي اللغة في انفصالها التجريدي عن مدلولاتها الشيئية الحسيّة. كل تعبير لغوي عن مدرك شيئي أوموضوع تفكيري يكون تموضع اللغة فيه كمدرك وتجريد انفصالي تعبيري عنه كموضوع جرى التفكير به داخل الذهن لا خارجه..

والحقيقة أن تعبير اللغة التجريدي في كلتا الحالتين الموضعة داخل الشيء والتجريد الانفصالي عنه ليس تعبيرا لغويا تجريديا في حقيقته سواء في موضعة اللغة داخل الاشياء في العالم الخارجي كجزء منها أو في تعبيراللغة المنفصل عن تلك الاشياء في التعبيرعنها تجريدا بخاصية العقل الادراكية وليس بخاصية الموضوع كما هو تعبير اللغة عن المفاهيم غير الشيئية..

كل تعبير لغوي عن شيء هو تجريد متموضع غير منفصل عن موضوعه لا يحتكره العقل وحده في التوّحد به وخاصية متفردة له أوفي الانفصال عنه. بل الموضوع المدرك الحسي التي عبرت عنه اللغة تجريدا متموضعا فيه تصبح اللغة ليست خاصية الفكر التجريدي فقط بل خاصية الشيء الذي تموضعت اللغة فيه تكوينا مدركا ايضا.

بهذا المعنى التموضعي بتوسيط عقل الانسان للغة في فهمنا الاشياء والموجودات والمواضيع تجريدا، يصبح كل شيء في عالمنا الخارجي من اشياء مادية وموضوعات هي لغة تموضعية وليست لغة تجريد انفصالية عنها مصدرها العقل فقط.. فنحن لا نستطيع ادراك أي شيء من غير ادراكنا تعبيرات اللغة التموضعية فيه التي بها نفهمه تجريدا تواصليا .. ...وكل موجود او موضوع مدرك يحمل معه قابلية ادراكه باللغة المتموضعة فيه والتي يكتشفها العقل التفكيري به ولا يمنحها العقل له من خارجه .. فلغة العقل الخارجية لا تمنح الشيء المدرك خصائصه الصفاتية والماهوية الموجودة ماديا فيه قبل تعبير اللغة عنها. كون اللغة خاصية تجريدية متموضعة في الاشياء قبل تعبير لغة العقل تجريديا عن ادراكها...موضعة اللغة بالشيء يعني امكانية التعبير عنه وادراكه لغويا تجريديا.

فتفكير العقل اللغوي المجرد ذهنيا بالاشياء لا يمنحها تموضعها الواقعي باللغة بل يمنحها ادراكها التجريدي، اللغة في انفصالها التعبيري المتجرد عن العقل تخرج عن وصايته عليها في موضعتها الاشياء التي لا يدركها العقل من غير موضعة اللغة بالاشياء والموجودات. اللغة تكون في الشيءالمادي والمفهوم الشيئي ولا تكون آتية من خارجهما. ادراك العقل للاشياء لغويا لا يمنحها وجودها الانطولوجي، بل العكس اللغة المتموضعة في الاشياء تمنح العقل قابلية تعبيره اللغوي ادراكيا لها.

العقل ينتج الافكار واللغة ذهنيا عن موضوع اللغة المتموضعة في الاشياء قبل ادراك العقل لموضوع ادراكه ماديا. بمعنى فهم تموضع اللغة بالاشياء هو ادراكها عقليا بتموضعها كخاصية للشيء وليس كخاصية لغوية له وعنه، وتجريد العقل للغة لا يتم عن فراغ وجودي سابق على هذا التجريد...أي لا ادراك عقلي لموضوع بلا تموضع لغوي فيه ...تكون اللغة في الشيء تحولت قرائيا استقباليا كجزء يحتويها ليس تجريديا تواصليا وحسب بل اصبحت في الموضعة جزءا من تكوين شيئي او جزء من موضوع يحمل معه خاصيته اللغوية المتفردة التي يجري قراءتها وتاويلها وفهمها بما لاحصر له من مجموع المتلقين.

فتصبح اللغة المتموضعة بالاشياء جزءا اوليا متقدما مباشرا من تكوينات تلك المواضيع والاشياء التي يدركها العقل، ولا نستطيع ادراك تلك الاشياء من دون قراءتنا الاستدلالية لتموضع اللغة بها. والتموضع اللغوي لا يفقدها أي لا يفقد اللغة خاصيتها التجريدية في ادراكنا الاشياء التي تموضعت فيها.

فاللغة في جوهرها هي تجريد مدرك غير منفصل عن تموضعه بالشيء، وتكون بذات الوقت اللغة تجريدا غير متموضع منفصلا عن الشيء في ادراك العقل له. بمعنى تجريد اللغة في تعبيرها عن الشيء الحسي وفي نفس وقت تجريدها خصائصيا عن الموضوع الخيالي غير الحسي المستمد من الذهن الذي لا وجود خارجي انطولوجي له في عالم الموجودات التي هي موضوعات المفاهيم غير المادية الحسية.. اللغة المتموضعة في الاشياء المادية هي غيرها اللغة التي يدرك العقل بها تلك الاشياء في التعبير التجريدي عنها..

السائد منطقيا فلسفيا ومعرفيا أن لغة الادراك هي لغة معرفتنا في تعبير التجريد اللغوي عن الموجودات والاشياء المادية المدركة حسيا التي يجب أن يكون ذلك في انفصال تجريد اللغة عن موضوعات ادراكها، كون اللغة خصيصة العقل وليس خصيصة الاشياء والموضوعات قبل وبعد ادراكها، وتكون موضعة اللغة تكوينيا مدركا بالاشياء هي خاصية أدراكنا المفاهيم غير الحسية فقط مثل الاخلاق ،الضمير،العاطفة، الالم، السعادة وهكذا. فهذه المفاهيم هي لغة تجريد مفاهيمي غير حسي قبل أن تكون تعبيرا عن دلالات انطولوجية تتموضع فيها اللغة تجريدا انفصاليا عنها تماما.. فاللغة هنا في تموضعها بمفاهيم غير حسية  هو تعبير عن مدرك غير محدود انطولوجيا ولا يمكن التعبير عنه حسيّا لأنه (مفهوم) مطلق وليس موجودا ماديا محدودا تدركه حواس العقل انطولوجيا بابعاد وخواص المادة. كل شيء مادي يدركه العقل تجريدا لغويا، يختلف تماما في تعبير العقل لغويا عن المفاهيم غير الحسية المجردة انطولوجيا.

اين يكون الاختلاف وكيف؟

فنحن لا ندرك قول المخاطب لنا لفظة حزن أو لفظة حب، او كآبة، او سعادة بغير لغة تعبير عنها تجريدية ليس بمعنى الانفصال التام عنها ادراكيا بل تكون اللغة تجريدية ملازمة لكل مفهوم يتصوره العقل خياليا ولا يدركه حسيا بل يدركه مجردا بدلالة  تعبيراللغة عنه. والاختلاف بين الشيء الحسي في تعبير اللغة الادراكية عنه لا يشترط ملازمة اللغة الدائمية له، على العكس من المفهوم غير الحسي الذي يكون لغة تعبير خالصة لا تحتوي مضمونا حسيا مدركا بغير تعبير اللغة عنه.. فتصورنا الادراكي لكلمة كرسي لا يشبه تصورنا الادراكي للفظة حب مثلا أو ألم. اللفظة في احالتها التعبير عن كرسي تكون اللغة اصبحت من تكويناته المدركة في التعبير عنه والاحساس به، اما عندما نقول كلمة حب فهذا يحيلنا الى اننا لا نفهم ماذا تعني كلمة حب بالانفصال التجريدي عنها، فهي مفهوم لدلالة وليس شيئا عن دلالة كما في لفظة كرسي. اللغة تتموضع في المفاهيم العامة المطلقة اكثر من تموضعها التكويني الادراكي في موجودات الحس المادية.

بالحقيقة مفهومنا الراسخ تداوليا في فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات عن تجريد اللغة بأنها التعبير الانفصالي عن الشيء أو الموضوع المدرك في دلالة اللغة عليه، وما يتمّثله العقل هو صورة الموجودات وليس حقيقتها الانطولوجية في عالم الموجودات مقولة خاطئة اساسا من حيث اللغة في تعبيرها عن مدركات العقل تجريدا تصبح جزءا من موضوعات تلك المدركات وليست لغة تجريد تلازم تفكير الانسان فقط لا تنفصل عنه. اللغة الصادرة عن ادراك العقل لا تمنح الموجودات المستقلة في عالم الاشياء الخارجية وجودها الانطولوجي المتعيّن ادراكيا. بل على العكس العقل يستمد منها لغة التعبير عنها. نحن لا نفهم معرفة الشيء بادراكنا الحسي فقط بل بادراكنا اللغوي الصوري له... ولا توجد لغة تجريد أدراكي بغير هذا الفهم بغياب تموضع اللغة بموضوعها عندما ندرك معرفته بلغة التجريد وليس بادراكات الحواس عبر منظومة الجملة العصبية والدماغ.

من المهم في منحى تموضع اللغة تجريديا الانطلاق من أن التجريد اللغوي ليس خاصية انسانية فقط من حيث تعبير اللغة عن محتوى الاشياء والموضوعات وأنما تجريد اللغة هو خاصية تلازم معرفتنا كل موجود في الطبيعة وعالمنا الخارجي لا نستطيع ادراكه بغير لغة التجريد في حالتي تموضع اللغة به وبالاشياء عامة أو في التجريد المعبّر عنه بانفصالية عقلية عن الاشياء التي لا ندركها الا في لغة التجريد اللغوي التي لا يكون مصدرها العقل قبل مصدر وجود موضوع التفكيرالذي يحمل لغته معه..

خاصية الموضعة اللغوية

وبهذا المعنى يكون التجريد تموضعا لغويا جماعيا وليس خاصية انسان فرد بعينه دون غيره في تعبيره انفصال اللغة عن مدلولها الشيئي المراد ادراكه والتعريف به. تجريد اللغة يلازم كل شخص سوي بعينه منفردا في حين يكون استقبال وتلقي دلالة التجريد اللغوي يتم بتعدد قراءات الفهم الجمعي للاشياء بلا حدود وهي متموضعة لغويا في مدركات العقل لها، أو ادراك موضيع الخيال بتجريد لغوي تكون اللغة التجريدية متموضعة فيها بشكل تام بحيث لا يمكننا ادراك دلالة مفهوم مطللق غير متعيّن وجودا بغير لغة تجريد اعلى عن مستوى لغة تجريد ادراك الاشياء المحسوسة. ولا يتم هذا الا من خلال ادماج التجريد المتموضع بالاشياء مع تجريد العقل الانفصالي في التعبيرعنها..

تجريد اللغة لا يمكن أن يكون وعيا موجودا بلا موضوع مدرك أو شيء تكون اللغة متموضعة فيه قبل قراءة العقل للغة الخاصة به. بمعنى صادم غير مألوف أن اللغة وجود متموضع في اشيائه قبل أن تكون تجريدا لغويا في العقل. تموضع اللغة بالشيء تمنح العقل ادراكه تلك الاشياء ولا تمنح اللغة تلك الاشياء خاصيتها الموجودية..

كل شيء بالوجود ندركه لغويا تجريديا لا يكون الا من خلال تموضع اللغة فيه وليس في انفصال التعبير التجريدي عنه. فاللغة وجود انطولوجي في موضعة الشيء قبل تجريدها بالعقل. كل شيء موجود ندركه في عالمنا ويكون موضوعا لتفكيرنا به هو اولا واخيرا ليس لغة تجريد انفصالية بالعقل عن الموضوع أو الشيء، بل هي لغة تموضع في تلك الاشياء لا تنفصل عنها بلغة التجريد الذي في مفهومه المتداول الدارج هو انفصال لغة الدال عن الشيئي الحسي المدلول. بمعنى التموضع بالشيء لا يلغي تجريد اللغة ادراك موضوعها عقليا في كل الاحوال.

اللغة ليست تعبيرا تجريديا لمعان عديدة تسبح في فضاء لا يمتلك السيطرة عليه سوى وعي الانسان، بل اللغة خاصية لكل شيء ندركه بواسطة اللغة التي تكون متموضعة بالشيء كتكوين خاص به وليست كطاريء ادراكي خارجي عليه منفصلة عنه يتحدد وجوده وادراكنا له باللغة فقط.

ادراكنا للاشياء والمواضيع هو ادراكنا لموضعة اللغة فيها وليس فقط ادراكنا تجريد اللغة لها. والتجريد التعبيري باللغة كخاصية عقلية ادراكية لا يلغي أن اللغة تموضع انطولوجي يلازم جميع تلك الاشياء. حتى معرفتنا كينونة الانسان وذواتنا انطولوجيا لا تكون الا من خلال تموضع اللغة في تلك الكينونة وتعبيرها عنها. وكل هذا لا يلغي بديهية اننا ندرك الاشياء بتجريد اللغة في حالتي الموضعة وحالة انفصال اللغة (الوهمي) عن المدركات عقليا...كل موجود في الطبيعة يحمل موضعته اللغوية التي هي ليست اللغة التجريدية التي يبتدعها العقل عن تلك الموجودات في التعبير عنها.

أن تقول ادركت الشيء معنى أنك استطعت قراءة اللغة الكامنة فيه تموضعيا بلغة التجريد المنبعث عن الشيء وليس ادراكك ما يمليه العقل لغويا عليك مسبقا قبل وجود الشيء المستقل عن ادراك العقل له. وينبعث عنه في توصيف اللغة له تجريدا، وتبقى اللغة تجريدا متموضعا بالاشياء في وجودها الخارجي وتجريدا تعبيريا بالذهن داخليا في تفكير العقل بها.

تموضع الانسان الوهمي

يعتبر يورغن هابرماس هلموت بلينسر هو مؤسس انثروبولوجيا الفلسفة الحديثة في اللغة الالمانية انطلاقا من المستوى البيولوجي للحياة العضوية. وحسب هابرماس يحيل مفهوم التموضعية الى مسألة الجهاز العضوي بحدوده الخارجية ومحيطه، وفي الوقت الذي يكون فيه الانسان لا مركزيا بالاساس، أي أنه يعيش ذاته كمركز لتموضعه الجسدي فهو يتجاوزه ويبقى له أن يحدد بنفسه علاقته بمحيط يوجد فيه، لكنه يتباعد بالنسبة اليه في الوقت نفسه عبر موقف ديالكتيكي اساسا بما أن الانسان لا يعيش الا بقدر ما يسّير حياته، ويبقى الحيوان مركزيا بعدم المجانسة البيولوجية مع الانسان. (ص 62 يورغن هابرماس ، بعد ماركس ت:محمد ميلاد).

في محاولتنا توضيح ما مر بنا في مفهوم هابرماس للتموضعية الفلسفية عند الانسان بعيدا عن تموضع اللغة في المدركات العقلية، نجدها تموضعية بيولوجية تتواصل عضويا على صعيد علاقة الجسد بالاشياء وعلاقة الكينونة بالذات وليس في توسيط اللغة كتجريد دلالي معرفي،التموضع البيولوجي العضوي عند الانسان بالنسبة لحدود وجوده الداخلية والخارجية في مركزية الذات.

يكون التموضع الانساني بالاشياء تموضعا مشتتا لوحدة الهوية الذاتية عبر توسيط اللغة كخاصية تلازم الانسان لاغيره ليس على الصعيد البيولوجي وحده وأنما على صعيد الاغتراب النفسي ايضا في محاولة الخلاص من كينونة محدودية الجسد وتحرره الى ماوراءها وصولا الى التفاعل مع موضوعات العالم الخارجي ومحاولة معرفته والجدل الديالكتيكي الذي يداخله.

لا يفقد الانسان هويته الماهوية العضوية البيولوجية في تموضعه في ماوراء وجوده العضوي كذات نوعية مفكرة تمتلك اللغة. ويكون الانسان لا مركزيا في تشتيته ذاتيته المؤنسنة في موضوعات تموضعه الادراكية خارج حدود جسده وهويته البيولوجية غير المتجانسة مع موضوعات تموضعه بيولوجيا الذي لا يكون الا بوسيلة تجريد تموضع اللغة في ادراكه لذاته وفي ادراكه موجودات ومواضيع المحيط ..

الذات الانسانية لا تكون ولا تستطيع موضعتها بالاشياء والعالم من حولها بغير توسيط اللغة القيام بتلك المهمة، واللغة لا تعتبر في تموضعها الاشياء لغة تجريد انفصالي وصفي عن الاشياء في دلالاتها التعبيرية عنها ، بل التموضع هنا يكون بعلاقة جدلية في التاثير المتبادل بين الذات الانسانية وادراكاتها المواضيع والاشياء. اللغة تجريد تفكيري يتم داخل الذهن فقط، وتكون اللغة تموضعا بالاشياء كتجريد يلازم كل مدرك موجود خارجيا انطولوجيا.

التموضعية خارج حدود الجسد تكون لغوية في منحيين اولهما أن اللغة في تعبيرها عن المدركات المادية للعقل أنما تكون في موضعة اللغة لها، وبذا تفقد اللغة خاصية أن تكون ملكة تجريد ملازمة للعقل الانساني فقط لتكون جزءا تكوينيا من الاشياء التي تدخل معها اللغة بعلاقة تموضعية جدلية تفقد اللغة خاصيتها في تجريد العقل لها وتكون جزءا من الدلالة المتموضعة في شيء لا ندركه ولا نتعرف علية بغير دلالة اللغة المتموضعة به كخاصية له وليست خاصية فهم وتعبير العقل الانساني عنه فقط.. وكما يحمل الانسان خاصيته اللغوية معه، كذلك تحمل كل مدركاتنا من الاشياء والمواضيع لغة التموضع الخاصة بها في تعريفها كموجودات وأستكمال تمام ادراكنا لها...بمعنى أن ندرك الشيء هو أن نعرف قراءة اللغة الكامنة تموضعيا تجريديا فيه.

أما المنحى الثاني من الموضعة اللغوية في مواضيع الادراك الخيالية المستمدة من الذاكرة فيكون في فقدان الهوية الذاتية في خاصية اللغة ملازمتها الانسان قد تلاشت نهائيا في مواضيعها التي تموضعت فيها، والمواضيع الخيالية المعبرعنها لغويا تصبح لغة استدلالية معرفية ولا يكون هناك كينونة موضوعية خارج موضعة اللغة لها. كما يفقد الانسان لغة التموضع بالاشياء والمواضيع ولا تعود اللغة بعد الموضعة ملك الانسان بل خاصية الموضوع الذي تموضعت اللغة به.

وجميع موضوعات التفكير الخيالية هي موضعة لغوية بها و فيها وليست تجريدا تعريفيا باللغة عنها فقط...التعبير عن خيالات الانسان وعن المفاهيم المطلقة انما هو تعبير ادراكي لغوي قائم بذاته ،فتلك الخيالات والمفاهيم ليس لها وجود انطولوجي مستقل عن ادراك العقل التعبير عنه. وكل موضوع خيالي وكل مفهوم ميتافيزيقي لا يدرك حسيا لا وجود له بالواقع في عدم تعبير اللغة عنه. بخلافه وعكسه تماما يكون كل موجود مادي محدود انطولوجيا لا يتوقف وجوده من عدمه في ادراك العقل له ولا في تعبير اللغة عنه. فهو موجود باستقلالية تامة عنهما. ربما يتساءل البعض كيف نتاكد من وجود موجود مستقل عن ادراك العقل له وتعبير اللغة عنه؟ والجواب بمنتهى البساطة فما تدركه انت قد لا يدركه غيرك، وكذلك العكس ما لا تدركه انت كفرد فهو متاح ادراكه لالاف من الناس غيرك. اذن حقيقة وجود الشيء لا يتوقف لا على ادراكه عقليا ولا على تعبير اللغة عنه معرفيا. فوجود الشيء سابق على ادراكه وتعبير اللغة عنه.

موضعة الاشياء وادراكها هو لغة تعبير تصوري عنها كامن فيها يعود لها ولا يخلعها العقل عليها من خارجها أي من خارج مدركاته التعبيرية عنها كمحسوسات. اللغة لا يمتلكها الانسان كخاصية احتكارية في تجريدها التعبير عن مدركات العقل خارج تفكير الذهن، بل اللغة خاصية موجودة في كل شيء نحيط بادراكنا له.

تطابق المجانسة بين الذات وهوية الجسد العضوية عند الانسان لا يلغي أهمية أن يكون الانسان لامركزيا ذاتيا بالنسبة لمداخلته في تموضعاته لغويا بالاشياء والمحيط الخارجي. بينما تبقى مركزية الحيوان ممتنعة عن التموضع في الاشياء الاخرى وموجودات المحيط وتبقى محتفظة بعدم التشتيت الهووي الذاتي، فالحيوان لا يدرك عدم المجانسة العضوية بينه وبين موضوعات ادراكه لذا يكون الحيوان مركزيا ذاتيا في الابتعاد عن الموضعة بغيره من كائنات لا اراديا بحكم الطبيعة البيولوجية النوعية له في محدودية تفكيره الادراكي من جهة وفي اختلافه البيولوجي عن غيره من موجودات الطبيعة في النوع من جهة اخرى.. وهو ما لا ينطبق على الانسان الذي يعي جيدا عدم المجانسة العضوية البايولوجية بينه وبين كائنات الطبيعة الاخرى.. فالحيوان يبقى محتفظا بمركزيته غير المتموضعة في اشياء تحيط به كونه لا يجاري الانسان باللغة وهذا عامل نوعي هام جدا في التفريق بين لامركزية الانسان من جهة ومركزية الحيوان من جهة أخرى. فالتفريق يكون على مستوى تباين النوع في امتلاكه اللغة.

يتبع في ج2

 

علي محمد اليوسف /الموصل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم