صحيفة المثقف

المداخلات.. هل هي لخدمة النص أم لخدمة مَنْ؟!

للنقد دور ملهم يصاحب الإبداع الأدبي، ويلقي الضوء على الأعمال المهمة البارزة فيه، ويقدمها للقراء بلغة تكشف عن ملامحه الخاصة، وتعالج سلبياته. والمداخلات التي تأتي الى الموضوعات الفكرية والنصوص الشعرية ينبغي ان تكون في خدمة الموضوع وخدمة النص الشعري، وليس لخدمة الكاتب او الشاعر في صيغة مديح وإطناب في التمجيد او مبالغة فاضحة في اضفاء الصفات على الكاتب او الشاعر اكثر مما يستحق شعره، وحتى احياناً يرقى ذلك الى مستوى الاستهانة بأصول الشعر وقوانينه وبحوره وموسيقاه وصوره بحيث يتحول الموضوع الى إشكالية تحملها لغة خاصة دون ان تعالج سلبياته ومستعصياته. ليس الامر مرتبط بثقافة المتلقي وعمق ثقافته او اتقانة صناعة اللغة وصياغة مفردات النص الى مستوى الإبداع الأدبي فحسب، بل له علاقة صميمية بروابط اخرى تؤكد الشخصنة الذاتية التي لا علاقة لها بروح النص ابداً .. قد يكون النص فاجراً او يسبح ضد التيار او بعيداً عن الواثع المعاش، ولكن المداخلات في بعض منها وهي كثيرة تأتي وهي مأخوذة بالشخصنة الذاتية ودوافعها التي قد تكون سياسية او دينية او آيديولوجية تفرض احكامها محابات وتمجيدات وتفخيمات ومباركات ومديح مبالغ فيه لحد القرف على حساب الموضوع او النص الشعري، الأمر الذي يضع الأدب والشعر على وجه الخصوص في أزمة بين الشاعر وبين المتداخل على النص الشعري او الفكري .. وليس كل الذين يمارسون المداخلات نقاداً او يمارسون احتراف النقد الأدبي، إنما شعراء او ذواقون وقصاصون وأدباء وروائيون ومحللون سياسيون، إلخ .

لا يجب ان تكون الشخصنة بشكلها وقامتها متسلطة على النص بفعل التقارب مع الكاتب او الشاعر .. النص هو الأساس الذي يجذب المداخلات وليس صاحب النص إذا اردنا الموضوعية من جهة، والإسهام في كشف خبايا الإبداع في النص وجمالية صوره الإبداعية وإيقاع موسيقاه ومدى محاكاته لواقعية الجمال فيه، وجمال الواقعية التي يفرزها النص . وعلى هذا تتنوع مسارات النقد وتتعدد، من أجل استجلاء جماليات النص وتكشف عن جوهره الثري، والوصول إلى محاولة تلمس دواخله بحيث تصبح المداخلة النقدية ذاتها إبداعاً موازياً من جهة، ورؤية للعالم من جهة ثانية . فالنقد الأدبي لن يخرج من أزمته إلا إذا تخلى الناقد أو المتداخل عن سلبيته تجاه المبدعين، ووضع نصب عينه أن يكون في خدمة العمل الأدبي، وليس صاحبه.

وظيفة الناقد تفكيك المفردة المثارة في البناء الفكري او الأدبي للنص ولا علاقة له في ذلك مع الكاتب او الشاعر.. والوظيفة هذه هي شغف الفن وقوته وسحره حيث يتجلى سحر النص الشعري ووهج النقد من خلال اعتماده المعرفة والخبرة وتراكماتها الفكرية والجمالية، حيث يكون كل شيء صالحاً للحضور، لكن تظل الشروط خاضعة للتوظيف الجمالي والتخيل والابتكار. من هذا يكون النص الشعري مفتوحاً على الذات ومفتوحاً على الحياة في عالم يتسع للتراكم والتجديد والإبداع .

ثمة سؤالاً مركزياً يجب أن يقف أمامه الناقد، وهو النقد الذي يجعل من الشمول معياراً حيوياً للأدب الواقعي حين يتلازم مع أطروحات الحداثة وما بعدها، ويتجدد عبر مفاهيم أكثر ابتكاراً وأفقاً مختلفاً دون أن يتوقف كثيراً أمام الوعي الجمالي الذي يبقى مزيجاً بين الأصيل والرصانة في توصيف مدلول النص نفسه.

من هنا ينفتح أمام النص مخزون هائل من الخبرات الحياتية، والهواجس، لتتخذ صيغاً متعددة، وأشكالاً مختلفة، ومن ثم فلا يمكن حصرها في سياق، ولا تقييدها بمسار. فهي فقط تحتفي بالجمال والحرية، وهو ما يبرز من خلال روح النص، وجوهر النقد وقلب الناقد، كما تنفتح أيضاً على جملة من المداخلات السردية المختلفة، التي لا تبقيها على حالها، بل إنها تبرز بوصفها مجمع لعشرات التصورات عن الموضوعات والهواجس والصيغ الجمالية . فالنص ينبغي ان يكون وليد التنوع والاختلاف، وربما يشكل انفتاح النص الشعري على مجمل خبرات الحياة، كالأحلام، والانكسارات، والهواجس، والإخفاقات وهاجس الثورة على واقع راكد يعمل ضد تيار الحياة، فهو يشكل ملمحاً مهماً للحاضر والمستقبل . وإذا كان النص، بوصفه استحضاراً لوجود الجمال في فناء متخم بالقبح، فهو في جوهره يعد بحثاً أصيلاً عن هذا الوجود. وعلى هذا تتنوع مسارات النقد من أجل استجلاء جماليات النص والكشف عن جوهره الثري، بحيث تصبح المداخلات والنقد ذاته إبداعاً موازياً من جهة، ورؤية للعالم من جهة ثانية، ولكن عبر التحليل ونزوعه العلمي\والجمالي.

النقد والناقد هما مسؤولان عن التغيرات التي طرأت في بنية الأدب، سواء الكلاسيكية أوالواقعية أوالرومانسية أوالطبيعية، والحداثة وما بعد الحداثة، والبنيوية، فهل استطاع الناقد أن يغير أدوات النقد، ويضيف إليه التجديد؟ هناك علاقة جدلية بينهما، تتصارعان من أجل حرية النص وحرية النقد وإلتزامات الناقد

فالسياق العام الذي يسيطر على العلاقة بين الناقد والشاعر، رغم أن الأدب يعتبر المنتج الرئيسي، حيث يقف الناقد في منصة الحكم المبدع، لكنه يجب أن يلعب النقد دور المحلل، ويتتبع ملامح النص، ويظهر ما فيه من جوانب جمالية ابداعية ذات مدلولات ثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية.

 

د. جودت صالح

26/08/2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم