صحيفة المثقف

القطار الذي فات (4)

سوف عبيدعندما اِخترتُ شُعبة الآداب في المرحلة الثانية من التّعليم الثّانوي اِنتقلت من معهد الصّادقية إلى معهد اِبن شرف فدرّسني الأستاذ الشيخ سيّدي محمد سلاّم المعلّقات وشِعرَ جميل بثينة وبشّار وأبي نواس .

كان شيخنا يجلس على كرسيّ مكتبه فيُسَوّي من هيئته ويُخرج حُقّة النّشُوق ثم ينطلق في الدّرس كالمحاضرة فيشرح الكلمات بالعودة إلى أصلها واشتقاقِها ويُبيّن مختلف معانيها مُستشهدا بالشّعر والقرآن فأطلعنا على ثراء اللغة العربية ودقائقها، وصادف أن درّسنا أبا نواس في شهر رمضان فكان يُبدي تبرّمه من شرح قصائده وكثيًرا ما يستغفر اللّه عند بداية قراءتها لكنّه عند آخر الدّرس يدعو له بالمغفرة

صادف أيضا أن جاءت إلى تونس في تلك السنة الفنانة ـ هُيام يونس ـ التي غنّت قصيدة – رَمَت الفؤاد مليحة عذراء –وقد بثّها التلفزيون التونسيّ فجاء شيخنا من الغد وهو يَلهج بالقصيدة المغنّاة ويُثني على صاحبتها بالفصاحة فقال شيخنا إنها أحسنت نُطق الحروف من مخارجها الصّحيحة وأبلغت معاني القصيدة البديعة، وعندما لاحظنا شدّة إعجابه بالأغنية سألناه في مَكر عن رأيه في تلك المغنية ؟

تنهّد شيخُنا ودَقّ من نَشُوقه في أنفه وقال :

– هي الغادةُ حقّا وكأنّ القصيدة قيلت في وصفها !

كان شيخُنا كثير الاِستشهاد بالزّمخشري والأصفهاني وهو لا يعترف بالأدباء والشّعراء المعاصرين ويعتبر لغتهم غير فصيحة حتّى طه حسين يرى في أسلوبه تكرارا ثقيلا …أمّا أبو القاسم الشّابي فيعتبر شعره الرّومنطيقيَّ لا يرقى إلى وصف الطبيعة وغيرها في شعر اِبن الرّومي واِبن خَفاجة !.

رحمَ الله شيخي ! كان مُخلصا لثقافته التقليدية المتينة ووفيّا لذوقه القديم وكان مُحافظا على الزَيّ التونسيّ الأصيل صيفا وشتاءً مثل أستاذي الشّيخ سيّدي محمد علي السّهيلي وأستاذي الشّيخ سيّدي محمد الأخوة الذي درّسَنا مادّة التّربية الإسلامية بروح الرّفقة والمحبّة فغرس في نفوسنا القِيم الإسلامية السّمحةَ وقد زاد إجلالا وإكبارًا لدينا عندما كان يَهُمُّ يومًا بدخول القاعة إذْ أصابت وجهَهُ فَردةُ حذاءِ أحدِ التّلاميذ وقد رمى بها زميلا له فلم يغضبْ شيخُنا وإنّما أخذها وقال له بلطف :

ـ لا تَمش حافيًا يا ولدي !

ودرَسْنا الجغرافيا لدى الأستاذ سيّدي عبد الحميد الجربي ومازلت أذكر كيف كان يُبدي اِستغرابه من سياسة الدّولة الاِقتصادية القائمة على الاِشتراكية بالاِعتماد على القروض الرأسمالية ودرّسنا الأستاذ سيدي أحمد قاسم التاريخ المعاصر بداية من الثورة الفرنسية إلى حرب فلسطين سنة 1948 فكانت دروسه تفتح في أذهاننا مجال الوعي بالقضايا العربية، والأستاذان عبد الحميد الجربي وأحمد قاسم قد أتمّا دراستهما العالية في المشرق العربي مثل سيّدي عبد الكريم المرّاق أستاذ الفلسفة.

لذلك أعتبر أنّه من حُسن حظّي أنّني تتلمذت في تعليمي الثانوي إلى أساتذة جهابذة في اللغة العربية وأدبها إذ أنّ أغلبهم من خرّيجي جامع الزيتونة المتضّلعين، أما في اللغة الفرنسية فقد درّسني أساتذة فرنسيون كانوا حريصين ـ والحق يُقال ـ على تعليمنا بإخلاص ونزاهة بعيدا عن كل الشّوائب الاِستعمارية بل كانوا يصرّحون لنا بحبهم لتونس ولحضارتها العريقة ومساندتهم للقضية الفلسطينية ،ودرّسني اللغة الإنقليزية أساتذة شُبّان من الولايات المتّحدة الأمريكية وقد عبّروا لنا مرّاتٍ عديدةً عن رفضهم لحرب بلادهم في الفتنام، ودرّسني الموسيقى الأستاذ سيّدي العنّابي الذي كان يعزف لنا على كمنجته ونغنّي معه بعض الموشّحات والأناشيد ، وفي الرسم درّسني الأستاذ ـ مَسيُو سَرفَاتي ـ وهو من أشهر الرسّامين التونسيين في الأكَوَرال ، فأنا من جيل تلقّى تكوينا ثقافيّا عميقا ومتنوّعا لذلك نشأنا على الاِعتزاز بتجذّرنا في وطننا وحضارتنا وعلى الاِنفتاح على بقيّة الحضارات والأمم ضمن القيم الإنسانيّة الخالدة .

كيف أنسى السيّد ـ أحمد ـ بوّابَ المعهد الذي كثيرا ما أنشدَنا قصائد المتنبّي والمعرّي والشّابي وغيرهم فكنا نَعجَب من قوّة ذاكرته ومن عدم تناسُب مستواه الثقافيّ مع مهنته فكنّا نُجلّه ونُفاخر به تلاميذ المعاهد الأخرى الذين نلتقي بهم في ـ مقهى سيدي بوسعيد ـ عند باب العُلوج حيث كنا نجلس فيه كلما سمح لنا جدول أوقات الدّراسة فالمقهى لدى البعض قاعة للمراجعة والمطالعة وهو للعب الورق لدى البعض الآخر وهو لدى آخرين مكان اِستراتيجيّ حيث يراقبون منه الرائحات والغاديات من آنسات معهد نهج الباشا وقد عُرف ذلك المقهى أيضا ببثّه لأغاني أمّ كلثوم من المُسجّل القديم صباحا مساءً…

هيهاتَ… قد غزا التلفزيون والفضائيات الدّيار والمقاهي فما عُدت أسمع عندما أمرّ من ذلك المقهى ـ رباعيات الخيام ـ أو ـ أنا في اِنتظارك ـ أو ـ سيرة الحبّ ـ

إنّ الاِستماع إلى أمّ كلثوم في ذلك المقهى له رونقٌ باذخ ومُتعةٌ عجيبة .

ولكن…هيهات…هيهات…!!

ـ الرّصاصةُ الطائشة

بعدما تخرّجتُ من كلية الآداب بتونس في جوان 1976 تقدّمتُ مع بعض الأصدقاء إلى الخدمة العسكرية بثكنة التّجنيد قرب باب سَعدون ومنها اِنتقلنا في عَربة الجيش إلى الأكاديمية العسكرية بجهة ـ فندق الجديد ـ حيث تدرّبنا مدّة أربعة أشهر وتخرّجنا ضباطا برتبة مُلازم… لقد اِنسجمتُ بسهولة مع ضرورات الحياة العسكرية باِعتبارها فترة لن تستمّر طويلا .

كانت تجربة مفيدة وثريّة من خلال تدريبنا على مختلف الأسلحة وتعرّفنا على فنيّات القيادة وبفضل الدّروس النظرية والتطبيقية التي قدّمها لنا المختصّون فقد كنّا محلّ رعاية مركّزة، ومن حفظ الله ولطفه بي أنّني نجوت من رصاصة طائشة كادت تصيبني في صدري عندما كنّا واقفين في الصفّ أمام الأهداف نتدرّب على الرّمي بالمسدّس إذ بصديقي الواقف إلى جانبي يُوجّه مسدّسه نحوي بَدل أن يُنزله عموديّا في اِتجاه الهدف وليس يدري كيف اِنطلقت الرصاصة فأصابت ـ والحمد لله ـ مُقدّمَةَ حذائي فحسب، حينها قال لي الضّابط المباشر :لا تَخفْ فالرّصاصة التي تقتُل تُصيب قبل أن تُسمع!

في أوائل سنة 1977 وبعد التّدريب المُركّز والسّريع نِلت نجمة ضابطٍ ملازم وتوجّهتُ إلى القاعدة الجويّة ببنزرت حيث اِستقبلني آمرُ جيش الطيران بترحاب لم أكن أتوقّعه فقد تقدّم نحوي من مكتبه بعد ما حيّيته تحية اِنضباط واِحترام ودعاني إلى الجلوس في الصالون مُبديا اِستبشاره بتعزيز سلك ضبّاطه بمتخرّج من كلية الآداب ليكلفه بتدريس المواد الثقافيّة في المدارس العسكريّة المختصّة في جيش الطيران وبمساعدة بقيّة الضبّاط عند الحاجة .

في مساء ذلك اليوم الشتائيّ خرجتُ من القاعدة الجويّة بزيّ الضبّاط الرسميّ والنّجمتان تلمعان على كتفيّ وقَصدت وسط مدينة بنزرت التي زرتُها من قبلُ برفقة والدي بمناسبة الاِحتفال بذكرى الجلاء الأولى لعل ذلك سنة 1963 فجالت في خاطري بعض ذكريات ذلك اليوم المشهود عندما رفعني أبي على كتفيه بين الحشود لأشاهد من قريب موكب الزعماء بورقيبة وعبد الناصر وأحمد بن بَلّة ومعهم وليّ العهد حسن الرضا الليبيّ، إنّها مناسبة فريدة عبّرت عن الوشائج العميقة بين بلدان المغرب من ناحية وبينها وبين بلدان المشرق من ناحية أخرى ولكنّها مناسبة تاريخية سُرعان ما جرفتها الِاختلافات التي ظلت متواصلة حتّى إن هدأت حينا سُرعان ما تَشُبّ من جديد لتُهدَرَ الطاقاتُ العربية الكبيرة وتُداسَ الشّعوب تحت أحذية المستبدّين بالحكم الفرديّ في هذا البلد العربيّ أو ذاك .

كانت فترةُ الجنديّة التي قضيتها في بنزرت مُهمّة وثريّة بالتجارب خاصة من الناحية الإنسانية فقد وقفتُ على كثير من النماذج النفسية والسلوكية التي شاءت الأقدار أن تجتمع في تلك القاعدة وقد ضمّت عسكريين من مختلف الرّتب والاِختصاصات والأعمار والمستويات الاِجتماعية ومن شتّى المدن والأرياف والجهات التونسية .

من طرائف الوقائع التي عشتُها أنّه بمناسبة ذكرى الجلاء عن بنزرت اِنتظمتْ مسابقات رياضية بين مختلف الجيوش وبما أنّي كنتُ أصغر الضبّاط فقد أجمعُوا على أن أتقدّم إلى مباراة الملاكمة على أن يشارك مَن يريد مِن الضبّاط الآخرين في بقية الألعاب فما كان من ذلك الملازم إلا الموافقةُ رغم علمه بما ينتظره من منافسه القدير ولكنْ ـ مُكرهٌ أخاك ولا بطل ـ فلا تَسل عمّا ناله من خصمه الذي كان من مفتولي عضلات جيش البحر إذِ اِنهال عليه بلكمات كأنّها المطارق عازمًا على إسقاطه بالضّربة القاضية من الجولة الأولى لكنّ ملازمنا عَرف كيف يتصدّى له ويصمد ، مرّة بمراوغة رأسه يمنةً ويسرة ومرّة بسرعة تنقّله ممّا جعل خصمه يَفقُد تركيزه في تسديد لكماته فبدَا عليه الغضبُ خاصّة عندما يُحالف الحظُّ الملازمَ في النّيل منهُ، وكان الاِنتصار من نصيب الملاكم البحريّ طبعا 

المهمُّ… أنّ الملازمَ نجا بأخفّ الأضرار ومن الضّربة القاضية على كل حال !

ـ مجالسُ الأنس

سلامًا على تلك المجالس

سلاما على تلك المقاهي

سلاما سلامًا

عديدةٌ هي المقاهي التي جلستُ فيها للقراءة والكتابة حينا ولمحادثة الأصدقاء حينا آخر من بينها مقهى -المغرب- الذي كان بشارع فرنسا فقد كان يرتاده كثير من الأدباء الذين أدركتهم من بينهم ـ البشير خريف ـ وأبو زيّان السّعدي ـ حسن نصر ـ والتّابعي الأخضر ـ وقد جلست فيه لأوّل مرة مع الأديب -علي دَبْ- سنة 1972 فصرت أستأنس بالجلوس فيه كلما وجدت الوقت المناسب خاصّة عندما أقتني الصّحف والمجلات من الكُشك المقابل له على الرصيف فأسارع بتصفحّها وقراءة بعض الصفحات منها حيث يطيب الاِنزواء هناك في عشيّات الصّيف على زقزقات أسراب عصافير أشجار باب البحر ، لكنّ مقهى المغرب تحوّل منذ سنوات عديدة إلى دُكانيْن لبيع الملابس الجاهزة فكم جلس الأدباء هناك وكم وقفوا أمامه في أحاديث لا تنتهي وكم من كتاب وكم من مجلّة وصحيفة تبادلوها وكم من قصيدة وقصّة ومقالة قرؤوها وكم من فكرة تطارحوها !

سلاما على ذلك المجلس

سلاما على ذلك المقهى

سلاما سلاما على مقهى – الكون- بشارع الحبيب بورقيبة فقد جلستُ فيه سنوات عديدة مع أصدقائي الشّعراء محمد رضا الكافي وعبد الحميد خريف وخالد النجار ومختار اللغماني وعزوز الجملي ومحمد أحمد القابسي والتهامي الهاني ومع عديد الشّعراء والأدباء الآخرين بالإضافة إلى بعض أصدقائي من طلبة كلية الآداب بتونس من بينهم علي عبيد ومحمد علي بالعابد وأحمد الدبّابي والبزّازي العيّاري الذين كانوا من رفقاء الجنديّة أيضا، كنت أجلس في مقهى ـ الكون ـ عند الصّباح فبعد الظهر يمتلئ بفئة أخرى من الروّاد الذين يتحلّقون صاخبين وشاءت الظروف أن أغيب عن ذلك المقهى سنوات متوالية بعد أن تفرّق الشّمل ثم جلستُ فيه مرة بعد ذلك فإذا النادل قد عرفني وتذكّرني ولم يشأ أن يقبل مني ثمن القهوة حتّى بعد إلحاحي، أحسست حينذاك بعمق المشاعر الإنسانية التي تُفاجئنا من لَدُن أشخاص بسطاء نلتقيهم في خضمّ الحياة اليومية فيشحذون نفوسنا بقيم المروءة والشهامة .

وتعودُ

خُطايَ إلى المقهَى القديمِ

كان المَشربُ على اليسارِ

ذكرى لأصحابِي

فصارتِ الكأسُ اليمينَ مَجراهَا

والجالسونَ على اِنتظارِ

قد وقفُوا

ثمّ رحلوا بالأعوامِ على عَجلٍ

أرى…لاأرى

وحدَها المَرايا

لمّاعةٌ

هُنّ سبعٌ وسبعونَ من بياضِ الثّلج

على هامتِي

غير أنّ الشّمسَ في الشّارع

زقزقاتٌ و لوحاتٌ

فتونسُ العصافيرُ ما بَرِحتْ

وما بَحّتْ

وإن قطعُوا شجرَ باب البحر قالت

سأبني أعشاشِي في السُّطوح

وفي زوايا الجُدْران

وعلى الأسلاك قالتْ

وإن هدّمُوا… وإن ردَمُوا قالتْ

أجيءُ بين الحُلم و الحُلم

أسرابًا أسرابًا… فوقَ الجُفون

مُزقزقةً في طيّاتِ المعاطفِ

وإن طال الشّتاءُ

سأنسابُ

وأبني أعشاشِي في القلوبِ

قالت

الخضراءُ خضراءُ

في كل الفُصول

كلُّ نافذةٍ… نافذتِي

كلُّ بابٍ… مَفتوحٌ

لأحبابِي

عندما أدخلتُ يدي في جيبِي

مُنصرفًا

كدتُ ألامِسُ ريشَها

فأسرعَ النّادلُ وتَلقّانِي

ثمّ هَشَّ وبَشَّ وقال

هو أنتَ…وبالأحضان

قهوتُكَ يا سيّدِي

على حسابِي

سلاما سلاما

سلاما على مقهى ـ الرّوتوندة ـ ببناية الكُوليزي بشارع بورقيبة فقد جلستُ فيه سنواتٍ عديدةً خاصة عند صُبحيات أيّام الأحد حيث تلتئم في رُكن من الطابق العلويّ منه جماعةُ ـ نادي القصّة ـ ومن بين المواظبين على ذلك المجلس الأدباء: رضوان الكوني وأحمد مَمُّو ومحمد الهادي بن صالح والتّابعي الأخضر ويوسف عبد العاطي والناصر التّومي ومصباح بوحبيل وغيرهم ويِحُلُّ بينهم من حين إلى آخر أدباء وصحفيّون آخرون فهذا المجلس الأدبيّ ظل سنوات مستمرّا حتّى أضحى مُلتقًى وعنوانا معروفا بين الأدباء التونسيين وحّتى لدى كثير من الأدباء المشارقة وهو أقرب إلى أحاديث الأنس وتبادل الأخبار والكتب والتعارف منه إلى الخوض في المسائل الجديّة العميقة وقد جلستُ في هذا المقهى عند الصباح في غير أيام الأحد أيضا فأنتحِي طاولة جانبا وأنكبّ على القراءة أو الكتابة ساعة أو ساعتين ثمّ أنصرف وقد جلستُ في رحاب ذلك المقهى مع أصدقاء كثيرين من الأدباء والشّعراء والصحفيين من بينهم محمد المَيْ ومحمد بالرجب ونور الدين بالطيّب وسالم اللبّان وغيرهم… فساحتُه الداخليّة هادئة وقليلة الروّاد في الصّباح لكنها بعد الظهر تُمسي حلقات حلقات تعُجّ بالدخان و القوارير الأخرى .

سلاما على ذلك المجلس

سلاما على ذلك المقهى

سلاما سلاما على مقهى – فلُورنس – في أوّل شارع قرطاج فقد عرفت فيه عن قُرب صديقي الشاعر محمد بن صالح الذي بادرني بالتحيّة بعدما تملّى ملامحي فصرنا نتواعد فيه كلما أتى إلى العاصمة من المنستير وقد ضمّ هذا المقهى مجلسا صباحيا يوميّا متنوع الروّاد وكنت أجلس فيه من حين إلى آخر لمعرفة آخر أخبار الأنشطة الثقافية وقد كان من روّاده المواظبين المُمثّل محمد بن علي والسينمائي عُمَار الخليفي والموسيقي محمد القرفي والفنّان الفوتوغرافي محمد العايب والأدباء محمود بلعيد وسمير العيادي ومحمد بن رجب ومحمد الفريقي وعبد الحميد خريف ونور الدين بالطيّب وآخرون يجلسون قليلا أو يمرّون وقد ألقوا التحيّة عابرين من بينهم الرسّام بوعبانة الذي كان يجلس وحده.

ولا أنسى السيّد حسن بوزريبة المسؤول عن مهرجان قرطاج في بعض دوراته والذي اِستجاب لاِقتراحي في تنظيم سهرة الشّعر بمسرح قرطاج سنة 1992 .

كانت سهرة ممتعة متنوّعة الأصوات وبإخراج مسرحي للبشير الدّريسي الذي اِقترح أن يسير الشّاعر في ممشى بين الشّموع ثم ينزل إلى الركح على مدارج فُرشت بساطا أحمرَ إلى أن يقفَ أمام المنصّة فيُلقي ما أراد من شعره ـ بدون رقابة مُسبقة ـ في مُدة عشرين دقيقة

تسلّم كل شاعر في تلك السّهرة مكافأة مالية لعلّها كانت أكبر مكافأة في تونس بالنّسبة للشّعر !

وقد أقام الشّعراء الوافدون من خارج العاصمة في فندق أربعة نجوم وقدّم هؤلاء الشّعراءَ تِباعا في السّهرة الأديبان محمد البدوي وعلياء رحيم…

سلامًا على تلك السهرة

سلاما على تلك المقاهي

سلاما على ذلك الزّمن…

سلاما على شارع الرشيد ببغداد هو قلبها النابض إذْ تنطلق منه الحياة بطيئة هادئة وتعود إليه صاخبة هادرة على ضفّتيْ نهر دجلة…

من شارع الرشيد يمكن أن ترى الحضارة التي اِنبثقت في بلاد الرّافدين قبل آلاف الأعوام وذلك عندما تلاحظ البناء بقوالب الطوب ومن خلال خطوط المباني وزواياها، ويتسنّى لك أن تُلامس بصمات الحضارة العربيّة عندما تشاهد خشب النّوافذ والشّرفات وقد نُقشت بدقّة وفنّ ضمن ثنائية الأنوار والظلال طبقا لمتطلبات المناخ ولعادات الشّرق في حُرمة البيت، وما أروع المآذن الأسطوانية المُسَجّات بالخَزف الأخضر والأزرق والأصفر في هندسة تُثير التأمّل وتُشيع الجلال وتبعث الجمال نحو عوالم المحبّة والصّفاء !

تلك هي بغداد: أخذتْ من كل الحضارات وصهرتها وبتوالي العصور اِستطاعت أن تجعل لنفسها طابعا خاصّا يلوح في شاعريّة الحياة وفي الذّوق المرهَف وفي حركة الناس وهم يَسْعَوْنَ بجدّ رغم المِحن ورغم تحديّات الزّمن.

بالقُرب من شارع المتنبّي الذي يبدأ من شارع الرّشيد ثمّة مقهى أمّ كلثوم…إنّه مقهى طريف أوصلني إليه صديقي الشّاعر إبراهيم زيدان الذي تعرفت إليه سنة 1984 أثناء زيارتي الأولى لبغداد ومن تلك المناسبة صرنا أصدقاء…

كل شيء عتيق في هذا المقهى : من البلاط إلى الأرائك إلى المراوح المتدليّة من السّقف ومن الأغاني المسجّلة على الأسطوانات إلى الأغاني الأخيرة في السّبعينات لأمّ كلثوم، تلك الأغاني التي تستمرّ من السّاعة السابعة صباحا إلى الحادية عشرة ليلا دون اِنقطاع.

أنشِئ هذا المقهى في سنوات الستّينات من القرن العشرين وظلّ محافظا على نمطه وعلى تقاليده من أب إلى اِبن بدون أي تغيير لأن صاحبه الأوّل كان من عشّاق أم كلثوم وثمّة روّاد محافظون على اِرتيادهم هذا المقهى سنوات طويلة للاِستماع وتراهم ينتظرون أغنيتهم المفضّلة السّاعات الطوال حتى أنّهم صاروا يُعرَفُون لدى عريف المقهى بأغنية من أغاني كوكب الشرق فتراهم وهُم منصتون شاردين بين صَوتها وصُورها في مختلف المناسبات عبر السّنوات وهي تُزيّن جُدران المقهى التي ما كادت تلوح بينها… إنّهم روّاد أوفياء لأمّ كلثوم ـ السِتّ ـ ولأمّ كلثوم المقهى… إنّهم من أعمار متفاوتة ومن فئات متنوّعة تراهم يترشّفون الشّايَ وكأنّي بهم يترشّفون الفنّ الأصيل والذّوق الرّفيع، فما أروعها من ساعةٍ في ذلك المقهى !

 ـ الهوى الأوّل

في العاشرة من عُمري اِصطحبتُ سِي الحبيب، وكان شابا من أبناء عمّ الوالد، إلى المكتبة العمومية بنهج يوغسلافيا، نهج راضية الحدّاد اليوم، وسِي الحبيب كان على قدر كبير من اللطف والأدب وله بعض الرسائل مع ميخائيل نعيمة فقد اِلتقى به في تونس بمناسبة زيارته ويَعتبر تلك الرسائل أثمن ما لديه وينبغي أن أصرح أنه صاحب الفضل الكبير عليّ فقد بذر في مُهجتي محبّة الأدب ومطالعة الكتب وأذكر أن سِي الحبيب عبيد كان يراسل برنامج هواة الأدب بالإذاعة التونسية الذي كان يشرف عليه وقتذاك الشّاعر أحمد اللغماني وقد نال جائزة على إحدى قصصه، الجائزة كانت كتاب أحمد أمين – فيض الخاطر – بأجزائه العشرة ولكن سي الحبيب اِنقطع عن الدّراسة والكتابة مع الأسف فقد أقعده المرض المزمن وفَلّ من عزيمته لكنه ظل متابعا للحركة الأدبية والثقافية ومشّجعا لي دائما وهو الذي أهداني ديوان الشّابي فكان أوّل ديوان شعري في مكتبتي.

عندما دلفتُ إلى تلك المكتبة العمومية الكائنة في قلب تونس العاصمة غمرني شعور البهجة والاِنشراح والوَجل أيضا فلأوّل مرة أرى ذلك العدد الهائل من الكتب على الرفوف في نظام وانسجام وأرى القُرّاء منكبّين جالسين حول المناضد كأنّ على رؤوسهم الطّير فأحسست أنّ هذا المكان هو المقام الأليف الذي وقع هواه في مهجتي من أول نطرة ومن أول خطوة فلم أغادر المكتبة إلا بعد أن أتممت قصة –جزيرة الكنز – من سلسلة – أولادنا – ومازلت إلى اليوم بعد أكثر من نصف قرن أجلس في رحاب تلك المكتبة من حين إلى آخر فينتابني نفس ذلك الشعور الممتع كيف لا ! وبعض مؤلفاتي تصادفني أحيانا عند أحد الرفوف فأتذكر ذلك الفتى اليافع الذي تمنّى ذات يوم أن يكون له كتاب بين الكتب في تلك المكتبة التي طالع فيها جبران ونعيمة والمنفلوطي وطه حسين وغيرهم والتي قرأ فيها كثيرا من الروايات الفرنسية المنشورة في سلسلة– كتاب الجيب – ومن الكتب التونسية الأولى التي طالعها كتاب – معركة الجلاز – للأديبين محمد المرزوقي و الجيلاني بالحاج يحي الذي صار من أصدقائه وأهداه بعض كتبه التي ساهم بقصيدة قصيرة في أحدها فكم كان سعيدا عندما رأى اِسمه منشورا في كتاب ألّفه أحد الأدباء الذين قرأ لهم وهو فتى.

المكتبة الثانية التي أحببتها وأَلِفتُها سنواتٍ طِوالا من عمري هي المكتبة الوطنية بسوق العطارين وقد دخلتها أول مرّة عند دراستي في معهد الصادقية فقد لمحتها في طريقي جيئة وذهابا فتهيّبت الدخول إليها إذ كنت في السنة الأولى من التعليم الثانوي لكني لا أذكر كيف تشجّعت ودخلت فإذا بي أجد نفسي في عالم لا حدود له ولا أبعاد خاصة وأن القواميس والموسوعات ألفيتها في متناول يدي مباشرة على الرفوف فأبحرت فيها وما أمتعه من إبحار !…مازلت أذكر كيف أنّي وجدت صعوبة كبيرة لدى القراءة في قاموس ـ لسان العرب ـ فالطبعة الأصليّة الأولى التي وجدتها وقتذاك كانت الكلمات فيها مرتّبة بحسب أصل حروفها الأخيرة ولم أتفطن إلى ذلك إلا بعد عناء!

مكتبة العطارين

ما أروع سنوات العمر التي قضيتها بين رفوفكِ وعلى كراسيك الخشبيّة يا مكتبة العطارين !…

تحيّةُ شكر خاصّةٌ إلى عَمْ سالم الذي كان رفيقا بنا وحريصا على إحضار ما نطلبه من الكتب في لمح البصر ونَعجب من ذاكرته الدّقيقة التي تعرف الرّفوف والخزائن كتابا كتابا من دون الرجوع إلى الفهارس…وتحيّةُ شكر أيضا إلى سِي أحمد جليد الذي كان مسؤولا عن الدّوريات من صُحف ومجلات فكان لا يدّخر جُهدا في إحضارها إلينا…

أوّل ما طالعتُ في مكتبة العطارين روايات جُرجي زيدان و كتاب البخلاء وكتاب ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة والفضل يعود إلى أستاذي سيّدي البشير العريبي الذي كان يحدثنا عن تلك الكتب فكنت أسعى إليها بلهفة وأقضي العطل في فضاء تلك المكتبة ذات الهندسة العتيقة فهي دافئةٌ شتاءً باردةٌ صيفا ثم قرأت فيها كتاب الأغاني وروايات نجيب محفوظ وكتب العقاد في السنة الثانية وتوالت سنوات الشبيبة بين قاعاتها وردهاتها أستنشق شذى الكتب والمخطوطات حتى اِنتقلت المكتبة الوطنية إلى بنايتها الجديدة في شارع 9 أفريل.

كانت المكتبة الوطنية في سوق العطارين مُحاطة بعديد الكُتبيّات الخاصة التي تبيع الكتب العربية القادمة من القاهرة وبيروت ،من بين تلك المكتبات مكتبة علي المطوي القريبة من جامع الزيتونة وقد اِشتريت منها كتاب السدّ للمسعدي سنة1967 وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة من عمري واِشتريت منها أيضا دواوين نزار قباني وكتاب البيان والتبيين وغيرها من الكتب ومازالت هذه الكتبيّة موجودة ـ سنة 2016 ـ يقوم على أمرها ابنُه وإلى اليوم مازلت عندما أمرّ أمامها وأرى الكتب منضّدة أعودُ ذلك الفتى الذي كان يقف طويلا يتصفحّها ويقرأ الكثير من صفحاتها دون أن ينهره صاحبُها رحمه الله .

بالقرب من تلك المكتبة الخاصّة ـ مكتبة السيّد علي الطرابلسي ـ حيث كان يجلس فيها ثلّة من الأدباء والأساتذة تشرفت بمعرفتهم بعد سنوات عديدة من بينهم الجيلاني بن الحاج يحي ومحمد المرزوقي ومحمد اليعلاوي الذي درسني في كلية الآداب

للمكتبة الوطنية بسوق العطارين ذكريات في وجداني عبقة بما كان فيها من شوق عارم للكتب في سنوات الدراسة والطلب…كنت في كثير من المرات أوّل الداخلين وآخر المُغادرين…

اليومَ… عندما أمرّ أمامها أدرك معنى الوقوف على الأطلال.

لقد اِندثرت أغلب الكتبيات التي كانت محيطة بجامع الزيتونة وتلك التي كانت في شوارع تونس وتحوّلت إلى محلات للأكلات السّريعة أو دكاكين للملابس الجاهزة…فشتّان بين هذا العهد وذاك الزمن…ذاك زمنٌ نشأنا فيه على المطالعة فنهلنا من شتّى الأفكار المختلفة التي أخذناها من مصادرها الأصلية ومن معلّمين وأساتذة أفذاذ كانوا مخلصين لرسالة العلم والمعرفة وحضرنا في مختلف نوادي الثقافة ودُورها تلك التي كانت مثل خلايا النّحل تعُجّ بالروّاد والأفكار ومختلف الفنون مثل دار الثقافة اِبن خلدون ودار الثقافة اِبن رشيق والنادي الثقافي أبو القاسم الشّابي والنادي الثقافي الطاهر الحداد وجمعية قدماء الصادقية وغيرها… حيث أنصتنا إلى عديد الأدباء والشعراء والمثقفين تونسيين وعرب وغيرهم…ثمّ تراجعت الحياة الثقافية عامة في أواخر القرن العشرين حتى تدهورت خلال هذه السّنوات من – الربيع العربي– فأمست إلى السّطحية وإلى ضيق الأفق المعرفي تميل….وَاحسرتاه…! فقد صار حالنا كقول الشّاعر القديم

رُبَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلمّا * صرتُ في غيره بكيتُ عليه

ـ الهوى الثّاني

ما أجملُ من الهوى الأوّل إلا الهوى الثّاني !

فقد نشأ عن الهوى الأول وظل ملازما له دائما فسكن معه مهجتي بلا بغضاء ولا منافسة ولا حسد بل تعاشرا بالألفة والمعروف إلى اليوم حتى لكأن الواحد منهما أصبح توأما للآخر أو كجذع الشّجرة الذي تفرّع إلى فرعين .

عندما كنت أتردّد على مكتبة العطارين كنتُ أمرّ أمام مقهى الأندلس القريب من جامع الزيتونة أيضا وهو مقهى من الطراز العتيق بطاولاته الرخامية الصقيلة وبكراسيه الخشبية الظريفة والمتناسقة مع اللوح الجميل المُخرّم الذي يغطي الجدران وصاحب هذا المقهى حريص عليه كحرصه على أناقة لباسه التونسي بالجبّة والبرنس والشاشية وكحرصه على ضبط وقته وهو يُخرج ساعةَ جيبه ذات السلسلة الذهبية من حين إلى آخر فكنت أراه جالسا على يمين مدخل المقهى وهو المركز الاِستراتيجي الذي يراقب منه الداخل والخارج ويرى منه جمبع الطاولات ومن حولها وما عليها فكنت أتهيب الدخول إليه فالمقهى كان يُعتبر في تربيتي مكانا للكبار فقط وهو فضاء مريب لأن الجلوس فيه مضيعة للوقت في الكلام ولعب الورق والقمار …غير أنّي علمتُ أن الشّاعر أبا القاسم الشابي كان يجلس مع أصدقائه في هذا المقهى فوجدت الذريعة لنفسي وتقدّمت إلى إحدى الطاولات وطلبت فنجان شكلاطة بالحليب كما فعل الذي كان جالسا بجانب الطاولة المجاورة وظل ذلك طلبي دائما.

يومها كان اللقاء الأول مع الهوى الثاني…هوى المقاهي

في مقهى الأندلس كنت أجلس أقرأ الجرائد والمجلات وبعض الصفحات من الكتب التي كنت أشتريها فأجلس في ناحية على عجل أكتشف سطورها بنهم على رشفات فنجان الشكلاطة بالحليب الذي من النادر جدا أن تجد نكهة مذاقه في المقاهي الأخرى.

في مقهى الأندلس جلست مع كثير من أصدقائي الأدباء والشعراء مثل خالد النجار وعبد الحميد خريف ومصطفى المدائني ومختار اللغماني ومحمد الطاهر الضيفاوي والحبيب السالمي ومحمد أحمد القابسي ومحمد البدوي وعزوز الجملي وغيرهم من زملاء كلية الآداب بتونس فقد كان ذلك المقهى ملتقى لرواد المكتبة الوطنية وقتذاك من طلبة وأساتذة وباحثين…

ومن رواد المقهى المواظبين الذين لا يجب أن أنسى ذِكرَهم – أستاذ التعاسة – هكذا عُرف بين الأدباء فقد كان يجلس بينهم من مقهى إلى مقهى ومن نادي إلى نادي، هو رجلٌ لطيفٌ فصيحُ العبارة يلبس السّواد دائما ويخُوض في المسائل الفكرية والأدبية والسياسية ويُفيد ببعض التفاصيل أحيانا ومن خلال سياق أحاديثه يعلمك أنه اِنقطع عن تعليمه العالي بسبب دخوله السّجن ضمن بعض المحاكمات السياسية ثم بعدما غادره سافر إلى القاهرة وبغداد وبيروت فتعرف على كثير من الأدباء والشعراء والصحافيين والسياسيين، وهم أصدقاؤه جميعا وقد اِستنبط – حسب زعمه – نظرية خاصة به من خلال مسيرته وقراءاته أطلق عليها نظرية التعاسة وتقوم على أساس العيش الهامشي إن – أستاذ التعاسة – شخصية عرفها أغلب أدباء سنوات السّبعين والثمانين في تونس وكانوا يلاطفونه ويحسنون إليه بما يتيسّر لهم غير أن بعض الشعراء الشباب الذين وفدوا على العاصمة وقتذاك اِنبهروا به فجعلوه مثالا لسلوكهم حتى جنحوا إلى الحياة الهامشية فظلوا مع الأسف على هامش الحركة الأدبية ولم يعمّقوا تجربتهم الإبداعية ثمّ حَدث ما لم يخطر على بال أحد فقد تحوّل المقهى في منتصف سنوات الثمانين إلى مقرّ بنك وقد اِنبرى حينذاك عديد الأدباء والصحفيين داعين للمحافظة على المقهى لأنه يرمز إلى الذاكرة الثقافية فهو مَعلم من معالمها النابضة ولكن خاب المسعى فقد اِنتصر الدّينار والدولار على الأدب والأشعار وقد تحولت أيضا الكُتبيّة التي كانت بجانب مقهى الأندلس إلى دكان بضائع سياحية ولم يَبق من هاتيك المعالم إلا مطعم –المهداوي –المختصّ في الأكلات التونسية التي كان يطهيها على الفحم وفي قُدور من نحاس كبيرة .

منذ سنوات تبدّل كل شيء… فلا مكتبة عطارين ولا مقهى ولا شذى هاتيك العطور التي تنفحك وردا وياسمينا ومسكا وعنبرا وأنت تمرّ أمام الدكاكين الصغيرة المنضّدةِ قواريرُها بحُسن تنسيق وكثيرا ما يدعُوك أربابُها بلطف وظرافة إلى طيبهم و قَرنفلهم بل ويرشّونك بماء الورد والزّهر أحيانا .

ـ السّردين والشّكلاطة

بينما نحن في درس العربية مع الأستاذ سيدي البشير العريبي بمعهد الصّادقية إذ تناهت إلى سَمعنا أصوات جَلبة فأغلق الأستاذ الباب ولكن سرعان ما اِقتحمت جماعة من التلاميذ مع شّبان آخرين القسم صارخين ـ فلسطين !! فلسطين !! ـ وطلبوا منّا المغادرة والخروج معهم للتّنديد بإسرائيل ، كان ذلك يوم 5 أو 6 جوان سنة 1967عندما اِنطلقت الهَبّةُ مع تلاميذ المعاهد المجاورة بقيادة طلبة كلية الآداب فسلكنا مُستنفِرين الناس أسواقَ المدينة العتيقة المحيطة بجامع الزيتونة حتى اِلتقت الجموع عند باب البحر حيث ـ وقتذاك ـ مقرّات بعض السّفارات الأوروبية والمركز الثقافي الأمريكي فهشّمت الجموع ما هشّمت وأحرقت ما أحرقت ولم يصدّها في آخر المساء إلا نفر قليل من الحرس الوطني المعزّز ببعض عمّال الميناء والشركات العامة حاملين هراوات يهشّون به علينا في الهواء ولكن نلنا منها بعد ذلك في التحرّكات الجامعية المختلفة ما ناله طبل العيد ، ثم بعد يوم أو يومين من تلك الأحداث كنتُ مع الواقفين على جنبات الطرقات نُودّع فِرق الجيش التونسي بالهتافات وبعُلب الأجبان والسّردين والشكلاطة أيضا وكان في ظننا أنه سيشارك في الحرب لتحرير فلسطين غير أنه ما كاد يصل إلى الحدود حتى قُضي الأمر وحلّت الهزيمة النكراء فلم يصدّقها حينذاك أغلب الناس الذين كانوا يستمعون إلى بعض الإذاعات ذات الحماسة الجوفاء والبلاغات الكاذبة.

في ظروف تلك الأحداث العربية الأليمة وفي خضمّ اِحتجاجات الشباب في العالم ضدّ حرب الفتنام وضدّ الميز العنصري في جنوب إفريقيا ومع بروز الحركات التحررية في شتّى أنحاء العالم تنامى لديّ الاِقتناع بضرورة تجاوز السائد من الأنظمة والأحزاب والنظريات الجاهزة فقد أثبت الواقع فشلها وخواءها من خلال عديد التجارب التي لم تخلّف في بلدانها شرقا وغربا إلا الاِستبداد والقهر والفقر وراح ضحيتها عديد الشعوب فاِنبريتُ أبحث عن الجديد المنشود وقد طلبته في الشّعر لذلك كنت من الفاعلين في ظهور جماعة ـ شعراء الرّيح الإبداعية ـ التي خالفت جماعة شعراء القيروان ذات الأبعاد التراثية والقومية العربية وجماعة المنحى الواقعي ذات المنطلقات الاِشتراكية وذلك بمناسبة ملتقى الشعر التونسي الذي اِنعقد بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 وقد عبّر شعراء ـ الرّيح الإبداعية ـ عن رفضهم للقوالب الإديولوجية في تلك السنوات التي شهدت بعدئذ اِنهيار الأنظمة القائمة فيها على الأحزاب المستبدّة…لقد كان اِستشرافنا صحيحا…

لم تمض إلا سنوات قليلة بعد ملتقى الحمامات للشّعر حتّى تمّ إبعاد بورقيبة عن الحكم وتولّي بن على مقاليد البلاد فعشنا على إثر ذلك فترة وردية من حرية التعبير والتنظيم إذ اِزدهرت الحركة الثقافية في مختلف الجمعيات ودور الثقافة والمهرجانات وفي شتّى الجهات حتى النائية منها وفي تلك الطفرة من الأنشطة ترشّحتُ لعضوية الهيئة المديرة لاتحاد الكتّاب التونسيين باِقتراح من الأديب محمد العروسي المطوي فتحصّلت على أكثر الأصوات ونلت بالانتخاب أيضا مسؤولية الأمين العام وكانت تلك الهيئة تضمّ الأدباء محمد العروسي المطوي رئيسا والميداني بن صالح نائبا له والهاشمي بلوزة أمين المال وضمّت أيضا الأدباء أبا زيان السعدي وجلول عزونة وسمير العيادي وعبد الحميد خريف ونور الدين بن بلقاسم والتابعي الأخضر والطيب الفقيه وقد عملت تلك الهيئة خاصة على تنشيط النوادي في مقر الاِتحاد وعلى اِنتظام إصدار مجلة ـ المسار ـ وعلى فتح الفروع في الجهات التي يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من الأعضاء وعلى المشاركة في اللجان الخاصة بالكتاب والسّينما والمسرح ضمن وزارة الثقافة وقد جعلنا هدفنا الأكبر هو اِستضافة مؤتمر الاِتحاد العام للأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس وقد ضمّ اِتحاد الكتّاب التونسيين وقتذاك أغلبية الأدباء والشعراء على اِختلاف مراجعهم الفكرية والأدبية وعلى تنوّع ألوانهم السياسية وتوالي أجيالهم ممّا أتاح لي التعرّف على الأدباء التونسيين وربط صداقات مع الكثير منهم وفي ذلك السّياق من النّشاط الزّاخر ومن بينه اِنعقاد مؤتمر الأدباء العرب ونيل تونس رئاسته في شخص الأديب محمد العروسي المطوي ثمّ تنظيم الملتقى الأوّل للشعراء العرب جاءتني دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور موكب اليوم الوطني للثقافة الذي اِعتبرناه حينذاك مكسبا للثقافة والمثقّفين ونحن نعيش غمرة حركة النشر واللقاءات الأدبية بعد سنوات عديدة من الكبت والتهميش التي لم يستفد منها إلا الأدباء والمثقّفون المُوالون للنّظام ولكن لم أكن أدري وأنا أدخل قصر قرطاج ثمّ وأنا أغادره بعد أن صافح بن علي الجميع ـ أنّ حليمة ستعود بعد سنوات إلى عادتها القديمة فقد أضحى حول نظام ـ العهد الجديد ـ زمرةٌ كبيرة من المثقفين والأدباء والفنانين الموالين هي التي اِستفادت من مجالات وزارة الثقافة ودعمها واِحتكرت مواردها وأنشطتها فلم تُبق لنا إلا النّزر القليل الذي لا يفي بتحقيق برامجنا ضمن بعض الجمعيات والنوادي الثقافية تلك التي سَنة بعد سنة بدأت تنغلق على عدد قليل من المنتسبين والروّاد وصارت برامجها تسير على إيقاع الجوقة الرّسمية شأن جميع الأنشطة الثقافية وغيرها في بقية البلدان العربية التي زرت الكثير منها فاِستنتجتُ أن مسألة اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة هي أمر نسبيّ جدا وحتى بعض المثقفين والأدباء الذين تمكنوا من الإقامة في البلدان الغربية نجدهم موالين لهذه الجهة أو تلك سواء كانت منظمات وجمعيات أو لوبيّات وغيرها فليس من باب الخير المحض والمحبّة الصّافية للثقافة تحتضنهم تلك الدول وتدعمهم وتمنحهم الاِمتيازات والجوائز.

كانت مرحلة اِنتسابي إلى الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين في مناسبتين الأولى في فترة رئاسة الأديب محمد العروسي المطوي والثانية في فترة رئاسة الشاعر الميداني بن صالح قد أتاحت لي الفرصة لمعرفة أحوال الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب من غير نصوصهم أيضا فوقفتُ على أمزجتهم وعلى بعض تفاصيل سلوكياتهم لذلك اِستنتجتُ أنّه من الأحسن بالنسبة للكثير منهم أن نقرأ لهم ولا نعرفهم عن كثب فعدد هائل من الأدباء والشّعراء والمثقّفين يكتبون ويصرّحون بعكس ما يفعلون لأن غايتهم تتمثّل في كسب المال و الشّهرة أونيل الحظوة والمنافع أمّا القِيمُ والمبادئ فإنهّا لا تبدو لديهم إلا في نصوصهم …كلام…..كلام !…

الزّمن كفيل وحده بوضع كل أديب و شاعر في مقامه الجدير به .

 ـ البحر سماء

مازلتُ أتذكّر موكب الزعيم الحبيب بورقيبة مع زوجته الفرنسية ـ ماتلد ـ في شارع باب الجديد بتونس العاصمة ، كان ذلك في السنة الأولى أو الثانية بعد الاِستقلال ورأيته مباشرة مرّات عديدة عند ذهابي أو عودتي من معهد الصادقية حيث كنت أمرّ أمام قصر الحكومة بالقصبة فأصادفه صباحا أو عند منتصف النهار داخلا أو خارجا…

مهما اِختلفت الآراء حول بورقيبة فإنّي أعتبره مرحلة مهمة من تاريخ تونس المعاصر يجب أخذ العبرة منها فنُطوّر مكتسباتها ونتجنّب سلبياتها فلا النظر إليه نظرة التقديس ولا النظر إليه نظرة الاِزدراء بمفيد .

نشأتْ هوايتي للشّعر في سنوات أوج شخصية بورقيبة التي اِنخرط كثير من الشعراء التونسيين وغيرهم من الشّعراء العرب في مدحها تحت عنوان الشّعر الوطني لكني كنت مع بعض شعراء جيلي رافضين لذلك النوع من القصائد التي اِعتبرناها أقرب إلى التزلّف والمدح الرّخيص منها إلى الوجدان الصّادق فكانت قصائدنا تعبيرا عن هموم الناس وطموحاتهم ورصد لتفاصيل الحياة الصغيرة مع اِنحياز واضح لقيم الحريّة والعدل ولعل ذلك ما جعل السلطة تمنع ديواني – نوارة الملح – وغيره من الكتب من التوزيع في تلك السّنوات التي شهدت وقائع دامية مثل واقعة إضراب جانفي1978 وواقعة الخبز في جانفي 1984 إذْ نشرتُ بعض القصائد والمقالات الثقافية في المجلات والجرائد التي كانت محسوبة على ـ المعارضة ـ التي حضرتُ بعض اِجتماعاتها

لم أكن أنتمي لأي حزب منها فأنا أحبّذ أن أكون مستقلا عن الأحزاب التي لئن نشرتُ في بعض صحفها ومجلاتها أو حضرت بعض ندواتها فذلك من خلال اِنخراطي في العمل الثقافي الذي أعتبره عطاء بلا حدود بينما الاِلتزام الحزبيّ اِنضباط في المواقف وحدٌّ من الآفاق الفكرية وتقييد للحركة وقد أدركت ذلك باكرا فعندما اِنتقلت إلى التعليم الثانوي بمعهد الصّادقية سنة 1964 كانت منظمة – الشبيبة المدرسية – القريبة من الحزب السائد وقتها تحاول جلب التلاميذ إلى أنشطتها التي ولئن كانت تبدو ثقافية فإنها تَستغلّ المناسبات الرسمية لحشد التلاميذ إلى الاِجتماعات في الساحة أو في قاعة الرياضة كي يستمعوا إلى الخطب وكنت من التلاميذ الذين حضروا بعض تلك المناسبات فوجدت فيها كثيرا من المبالغة عند الحديث عن بورقيبة في سياق تاريخ الحركة الوطنية وذلك ما جعلني أشعر أن تلك المناسبات هي أقرب إلى التزلف والوصولية منها إلى محاضرات في التاريخ وكانت الشبيبة المدرسية وقتذاك تعرض الأفلام مساء الجمعة بالمعهد وصباح الأحد بقاعة البالمريوم الكبيرة بشارع قرطاج فكنت من المواظبين على تلك الأفلام ومن طرائف هواياتي في ذلك العهد، إلى جانب المطالعة ،شغفي بالمراكب الشراعية التي كان يدربنا على الإبحار فيها أستاذ الرياضة الفرنسي فكان يحرص على مرافقتنا على متن حافلة خاصة من الصّادقية إلى النادي البحري في بُحيرة حلق الوادي التي رُدمت منذ سنوات عديدة

كنتُ أقضي سُويعاتٍ ممتعةً وأنا أغالب الرّيح بينما الزّورق يمضي مائلا يشقّ عباب الماء قاب قوسين أو أدنى من أن تلامس حافّتُه صفحة البحيرة فكنت أدلي بجسمي خارج الحافة المقابلة كي أحافظ على التوازن وأعجب من نفسي إلى اليوم كيف تَسنّى لذلك الصبيّ الذي عاش سنواته الأولى في أقاصي الجنوب على بوّابة الصحراء أن يتولى قيادة زورق شراعيّ فحكايته مع البحر حكاية عجيبة فلقد كان في فيافي الجنوب يتخيل البحر صحراء من الماء الأزرق المالح ولم يَدر كيف تخيّله سماء مقلوبة وقد عرف البحر لأول مرة من خلال جرعة تناولها من جَرّة صغيرة مُلئت بماء البحر جاءت بها إحدى العائلات من أقاربه كتُحفة أو كهدية عندما عادت من شاطئ جرجيس على متن عربة يجرّها بغل قضت يومين وليلة في الذهاب ومثلها في الإياب ، وشاع لدى القوم وقتذاك أن ماء البحر يُشفي من عدة أمراض بل وهو مُضاد حتى للسعة العقارب ولدغ الأفاعي وما أكثر العقارب والأفاعي في أصياف ذلك الجنوب !

أوّل ما شاهد البحر عند مدينة ـ المحرس ـ قرب صفاقس حيث توقّفت سيّارة الأجرة أثناء رحلته إلى العاصمة فلاحت الشّمسُ حمراء من وراء الأفق الأزرق…تماما مثلما تخيّل البحرَ سماءً معكوسةً …

 ـ لا ملائكة… ولا شياطين

هذه المرّة أسافر إلى مدينة النّور ـ أو مدينة الجنّ والملائكة ـ مثلما وصفها طه حسين بدعوة أثيلة من اِبني المقيم في ضاحية جنوب باريس غير بعيد عن نهر السّان حيث يقيم أيضا صديقي الشاعرـ حمدي الشّريف ـ الطيّب الرّفقة والذي ألتقي به يوميّا لنتجوّل حينا ونجلس حينا آخر خائضين غمار الذكريات والشّعر والتاريخ والأحداث وملاحظين المشاهد العمرانية المتنوعة بما فيها من إتقان ونظام في مختلف نواحي المنطقة وقد اِزّيّنت في أزهى طبيعتها كيف لا ؟ وهي ترفل في أوج أيام الربيع فأينما نظرتَ وسرحتَ ببصرك ألفيتَ الاِخضرار والأزهار

عرفتُ صديقي ـ حَمدي ـ منذ أكثر من ثلاثين عاما طالبًا جادًّا في معهد فرحات حشاد برادس فكان من وقتذاك مُحبّا للأدب وللثقافة رغم اِختصاصه التّقني وشاءت الأقدار أن يتجدّد الاِتصال بيننا بفضل الأنترنات حتّى اِلتقينا منذ ثلاث سنوات في هذه الضاحية فإذا ذلك الشاب ـ بفضل عزمه وصبره ونباهته ـ قد تمكن من الهجرة ثمّ الاِستقرار في بلاد الإفرنج هو وعائلته في كنف عيشة رغدة لكنه وهو الذي تمكن من التأقلم في البيئة الفرنسية قد ظل مرتبطا بتونس ومنتميا إلى تراثه في جوانبه المُنيرة والإنسانية ممّا جعله في نصوصه الشعرية التي يكتبها بالعربية مُعبّرا بعفوية وصدق عن حنينه لموطنه ومتمسّكا بجذوره فاللغة العربية بالنّسبة إليه هي الخيط السّحري الذي يشدّه إلى ذاته وهو حريص أيضا على أن يظل أبناؤه وبناته منتمين إلى تونس الخضراء…ولكن !

ولكن عندما رافقتُه مع نَجليْه إلى القُنصلية ليستخرج لهما بطاقة الهويّة التونسية رأيتُ صفّا طويلا وقد وقف فيه الصّغير والشاب والشّيخ من الجنسين بل وفيه الرّضيع وحتّى الذي يجلس في كرسيّ العجلات

يا سبحان الله هل مكتوب على التونسيّ أن يقف مُنتظرا السّاعات الطّوال في الحرّ والقَرّ سواءً في تونس للحصول على تأشيرة الدخول إلى فرنسا أو في فرنسا أمام القنصلية التونسية لاِستخراج مختلف أوراقه الوطنية فلا عزاء للتونسي لأنه غريب مرتين

غريب في وطنه

وغريب خارج وطنه …

عندما نُصبح لا نرى تونسيا واحدا يقف منتظرا أمام السّفارات الأجنبية في تونس

وعندما نُُمسي لا نرى تونسيا واحدا يقف منتظرا أمام سفارة أو قنصلية تونسية في بقية بلدان العالم

يوم ذاك يمكن أن نتحدّث عن الكرامة الوطنية.

 ـ في بلاد الإفرنج

في يوم ربيعيّ باذخ كنت أتفسّح في مدينة – إفري – من ضواحي باريس الجنوبية وقد شدّ اِنتباهي النظام والنظافة والإتقان فقد لاحظت ذلك في جميع ما رأيته ومررت به… ناهيك عن الزهور المنسقة أحسن تنسيق في الساحات والمماشي وحتى في وسط الطرقات وفي النوافذ والشّرفات وما كدت أرفع بصري حتى قابلتني صومعة شاهقة مربعة الشكل على نمط أغلب صوامع بلاد المغرب تبدو حديثة البناء فقطعت الشارع إليها من الممرّ المخصص للمترجّلين بعد أن ضغطت على زرّ العمود فما كانت إلا لحظات حتى اِشتعل الضوء الأخضر وتوقف سيل السيارات فاسحا لي المجال…يا الله ماهذا الاِحترام وهذا الاِنضباط!..

هو كذلك هذا المجتمع الذي نشأ منذ أجيال على قيم الحرية وتعادلية الحقّ والواجب فالقانون فوق الجميع والذي لا يطبّقه راضيا ينطبق عليه صاغرا… هنا حرية العقيدة والفكر والمذهب والتعبير والهواية ونمط الحياة يمارسها الجميع بدون اِستثناء فحقّ الاِختلاف وضرورة قبول الآخر واقع معاش بمعنى – لكم دينكم ولي دين – فقد مررت بعديد الكنائس ذات المذاهب المختلفة ورأيت بالقرب منها معبدا بوذيا كبيرا وشاهدت معلقات كثيرة فيها دعوات إلى اِجتماعات واِحتفالات متنوعة الملل والنّحل ومن بين تلك المعلقات واحدة لفتت اِنتباهي حقا عندما قرأت فيها أنّ رئيس البلدية يدعو مواطنيه للاِتصال به – عند الحاجة – في مكتبه مرة في الأسبوع مساء كل يوم جمعة من الخامسة إلى السادسة والنصف وقد نشر رقم هاتفه ليكون عند الطلب في خدمة الجميع !

أين نحن من هذه المدنية ؟شتّان ما بيننا وبين ذويها ! لكَم كتَب السّابقون قبلي عنهم من عهد الطهطاوي واِبن أبي الضياف إلى عهد طه حسين وبيرم التونسي وغيرهم ولكن مازالت مجتمعاتنا المغاربية والعرببة بعيدة عما نصبو إليه من حياة كريمة ورقيّ شامل.

ثمّةَ ملاحظة اِسترعت اِنتباهي فقد شعرت في كثير من المناسبات بشيء من الرّيبة لدى عامة القوم عند مخالطتهم للعرب والمسلمين أو الحديث عنهم في البرامج التلفزيونية وقد أصبح ذلك واضحا ومباشرا بعد العمليات الإرهابية المتوالية في بلدانهم على مدى السنوات الأخيرة تلك العمليات التي لا نعرف حقيقة الواقفين وراءها والخيوط المخفية التي تحركها ولمصلحة أي جهة تقوم بمثل تلك الأعمال الإرهابية التي كان الأبرياء والذين يناصرون القضايا العادلة من ضحاياها فلقد خرجت الملايين أفواجا أفواجا في عواصم عديد البلدان الغربية ومدنها مرات كثيرة مناصرين نضالات الشعوب المستضعَفة ومناهضين لسياسة حكومات تلك البلدان الغربية حيث تمتّع الكثير من العرب والمسلمين المضطهدين في بلدانهم بالحصانة وبكرم الضيافة في حرية واِحترام ولكن لست أدري بأي مقابل وبأيّ ثمن…؟

التاريخ يحدثنا أنّ الحضارة العربية الإسلامية قد سادت وترسّخت في كثير من المناطق بفضل نشر ألوية السلام والإخاء والعدل والصدق والوفاء مع قيم العلم والعمل بين تلك الشّعوب والأمم فلو أنّ الجاليات الوافدة على بلاد الإفرنج جيلا بعد جيل عملت بتلك المبادئ وسخّرت تلك الأموال الطائلة في نشر اللغة والثقافة العربية وكانت مثالا للعمل والنّزاهة والمحبّة والتسامح في تلك المجتمعات الغرببة لتغيّرت نظرتها إلينا ولصرنا قُدوة لها ونموذجا يُحتذى…

تعيش تلك المجتمعات أزمات حضارية متداخلة ممّا جعل بعضَ القوم فيها يبحثون عن الخلاص في الحضارات الشّرقية الأخرى…ولكن مع الأسف نحن لم ننجح في التأثير فيهم من ناحية ولم نُوفّق في الاِستفادة من إنجازاتهم إلا بقدر قليل ثم إننا لم نُفلح إلا في النّسج على منوال الفاسد في تاريخنا والأخذ من الرّديء في حضارتهم لكأنَّ حَوَلا أصاب عُيوننا !

 

 سُوف عبيد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم