صحيفة المثقف

التربية الأخلاقية للطفل ما بين الضرورة والحرية؟

علي اسعد وطفةيشكل النمو المتصاعد لوتائر العنف ومؤشراته في داخل المؤسسات المدرسية وخارجها مقدمة منهجية للبحث في مسألة التربية الأخلاقية بأبعادها الإنسانية وتجلياتها الاجتماعية. وفي اتجاه الكشف عن الأبعاد الأخلاقية والقيمية للتربية غالبا ما يتم دراستها في خضم الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحاضنة لها. فالأخلاق ترتبط بواقع اجتماعي محدد ومعين حيث يقوم كل مجتمع بفرض قيمه ومعايره وقوانينه، ومع ذلك فإن القيم والمعايير تتعرض لصيرورة التغير وقدر التبدل في دائرتي الزمان والمكان. وانطلاقا من معادلة الصيرورة القيمية فإن إعادة النظر في منظومات القيم ودلالاتها يأخذ قيمة علمية ويرتسم كضرورة منهجية.

 وتتجلى هذه الضرورة العلمية في المرحلة التي تفقد فيها هذه القيم قدرتها على أداء دورها وممارسة وظيفتها الأخلاقية، حيث يجد الإنسان نفسه في حالة ضياع أخلاقي فاقدا للقدرة على توجيه أفعاله في المسارات الأخلاقية الصحيحة. وهنا أي في هذه اللحظة أي لحظة الضياع التي يفقد فيها الإنسان القدرة على توجيه سلوكه وتحديد غاياته الأخلاقية تولد الضرورة العلمية للبحث في تجليات القيم وفي دلالاتها الوظيفية، كما تولد الحاجة إلى الكشف عن العوامل والمتغيرات المجتمعية المؤثرة في أداء المنظومة القيمية في المجتمع. وفي دائرة هذه الصيرورة المجتمعية للقيم يمكن القول بأن التربية الأخلاقية تأخذ مكانها في عمق الوضعية الأخلاقية في المجتمع ويرتسم دورها بين العوامل الأكثر أهمية وخطورة في توليد المنظومة القيمية أو في انهيارها.

لقد أصبح الدور الذي تؤديه المدرسة في بناء المنظومة الأخلاقية في المجتمع واحدة من القضايا الفكرية المركزية التي تطرح نفسها في الحياة التربوية. ومع ذلك فإن الدراسات الجارية في ميدان هذه الظاهرة نادرة ولم تزل في بداياتها الأولى حيث كان لدوركهايم قصب السبق في هذا الميدان فجاءت أعماله اليتيمة حول التربية الأخلاقية منارة علمية يمكن للباحثين الاهتداء بها في تناولهم لهذه المسألة الحيوية من حيث طبيعة التربية الأخلاقية ووظيفتها. وقد بات واضحا اليوم أن التفكير بالتربية الأخلاقية يطرح نفسه اليوم في مواجهة تحديات التنشئة الاجتماعية ومسائل العنف والتعصب والعدوانية التي تفرض نفسها في المؤسسات التربوية المعاصرة.

1759 كانطومما لا شك فيه أن التربية الأخلاقية اليوم تختلف عنها بالأمس حيث تقتضي التربية الحديثة نمطا مميزا من التربية الأخلاقية والقيمية. فالتربية الحديثة تركن بالدرجة الأولى إلى مبدأ الثقة بالطفل وإمكانياته التربوية وذلك على خلاف ما نجده في التربية الكلاسيكية أو التقليدية، حيث يتوافق مبدأ الثقة بالطفل في هذه التربية ويجد تعزيزا له في مفهوم التربية الطبيعية التي تؤكد مبدأ حرية الطفل وعفويته. ومن هذا المنطلق فإن المربين الجدد يناهضون التربية التقليدية السائدة في القرن التاسع عشر ويناصبونها العداء ويؤكدون بصورة واضحة على نشاط الطفل ومركزيته في العملية التربوية.

فالتربية الحديثة تجد نفسها بالضرورة معنية بالتربية الأخلاقية بطريقة جديدة ومختلفة عما هو قائم وسائد في الوسط التربوي، فالمربون الجدد يريدون تحقيق تربية أخلاقية لا تتناقض مع النمو الطبيعي للطفل. وقد سبق لنخبة من رواد التربية الحديثة مثل فيريير Ferrière وفرينيه Freinet ونيل Neill الإعلان عن رغبتهم بتأسيس حركة تربوية أخلاقية عالمية على غرار الاتحاد العالمي للتربية الحديثة la Ligue Internationale de l'Education nouvelle. ومع ذلك فإن التصورات المقترحة لهذه التربية الأخلاقية لم تكن على نمط واحد في مستوى تجانسها. فعندما تكون التصورات متنوعة تكون تطبيقاتها أيضا في حالة تنوع واختلاف. وأصل الاختلاف بين هؤلاء المربين يعود إلى الاختلاف في نظرتهم إلى طبيعة الطفل وإلى دور المدرسة والمعلم في عملية التربية.

ومهما يكن الأمر فإن التربية الأخلاقية في سياق التربية الحديثة يمكنها أن تأخذ صيغا وأشكالا مختلفة، ولكن ورغم هذا الاختلاف فإن هذه التربية الأخلاقية تتجلى في هيئة واحدة لكونها تنطلق من مبدأ النمو الحر للطفل. فالفكرة المشتركة بين هؤلاء المربين الجدد تتمثل في الانطلاق من مبدأ الحرية إزاء القهر والتسلط الذي تمارسه المدرسة التقليدية. وهذا بدوره يمكنه أن يبرر المنطلق الأساسي للتربية الأخلاقية التي لا تنطلق من الخارج بل نبع من مصادر داخلية في الطفولة والأطفال. ومع أهمية ذلك كله فإن مبدأ النمو الحر للطفل لا يمكنه أن يفسر لنا في الجانب الآخر التباين في تصورات المفكرين حول التربية الأخلاقية ذاتها. من أين يأتي هذا الاختلاف؟ لماذا لا توجد وحدة وتجانس في التربية الحديثة فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي، مع العلم بأن الجميع يتحدث عن الحرية والاستقلال والنمو الطبيعي للطفل؟ وهنا يمكن القول بأن هذا الاختلاف ناجم عن اختلاف الأفكار حول طبيعة الطفل وعلاقة ذلك بحريته. وهنا نجد أن المربين الجدد يعملون على إيجاد معادلة تربوية بين طبيعة الطفل والتربية الأخلاقية الممكنة وهم في ذلك يعتقدون أن حرية الطفل يجب أن تشكل وسيلة من وسائل تربيته أخلاقيا حيث يتوجب على المربي أن يراعي النمو الطبيعي للطفل وأن يراعي عفويته كي يحقق التربية الأخلاقية المنشودة. والمربون الجدد ينطلقون من اعتقاد راسخ بأن التربية وفقا لطبيعة الطفل ووفقا لحريته هي تربية تضع الطفل في دائرة تربية أخلاقية منشودة. تمكن الطفل من أصالة أخلاقية. وهنا يمكن القول في الوقت الذي تمارس فكرة حرية الطفل دورها في بناء وحدة التصورات عند المفكرين الجدد فإن اختلاف تصوراتهم حول طبيعة الطفل تهدم هذه الوحدة وترسم حدود نظرتهم إلى التربية الأخلاقية الممكنة.

وعلى خلاف ما تقدم فهناك أنماط من التربية الأخلاقية التي ترتبط بمضامين موضوعية، حيث يتوجب على التلميذ أن يكون جزءا من عملية التعلم ذاته وأن يراهن على حريته كاستحقاق تربوي، وهذا يعني أن التربية الأخلاقية للطفل تتمثل في الكيفية التي نعلمه فيها كيف يميز بين الخير والشر، وكيف يواجه تحديات هذا الاختيار. وهنا نجد أنفسنا إزاء نوعين من التربية الأخلاقية، إحداهما تأخذ طابعا إكراهيا أو تسلطيا حيث تملي على الفرد ما يجب أن يقوم به، والأخرى تربية حرة تترك للفرد أن يتخذ قراره الأخلاقي بملء حريته وإرادته. وفي كلتا الحالتين فإن الطفل يواجه نوعا من العبثية الأخلاقية.

فالتربية الأخلاقية تفقد جوهرها ما لم تترك للطفل حرية الاختيار لأن إمكانية الاختيار بين الخير والشر تمثل مجال الحرية الحقيقية للفرد. وهنا تكمن الإشكالية الكبرى للتربية الأخلاقية والتي تتمثل في الخيار ما بين تربية حرة تريد للطفل أن ينمو أخلاقيا وفقا لطبيعته الخاصة وبين هذه التي توجه أفعال الطفل وتجبره على السلوك وفقا لمعايير خارجية محددة سلفا.

 والسؤال الأصعب هنا هو: كيف نحقق هذا التناغم الخلاق بين الحرية والطبيعة بوصفهما قطبا المفهوم الحر للتربية الأخلاقية. ومن أجل تحديد طبيعة هذه التربية وتحليل مقومات وجودها يتوجب علينا في أن نقوم بدراسة مفاهيم الطبيعة والحرية عند المربين وفقا لانتماءاتهم الفكرية والمدرسية. وهنا يمكننا أن نرى كيف يمكن للاختلاف حول مفهوم الطبيعة الإنسانية أن يؤدي إلى توليد التباين والاختلاف في مفهوم الحرية وكيف يتجلى هذا الاختلاف في مجال التربية الأخلاقية.

وإذا كان لي أن أدلي بدلوي في معرض الإجابة أقول: بأنه يتوجب علينا أن نعتمد الحرية منهجا ومنطلقا في التربية، ولا يكون التدخل إلا للضرورة وفي هذا أنهج نهج جان جاك روسو في التربية الطبيعية الذي يرى بأنه يجب عدم التدخل في تربية الطفل أخلاقيا، لأن الحرية الطبيعية تكفل له مطلق النماء، ولذا يكون التدخل عندما تقتضي الضرروة ذلك وعندما يتعرض الطفل للخطر، وذلك تحت شعار "دعوا الطفولة تنمو في الأطفال" كما يقول روسو في كتابه المشهور إميل . وهذا يعني وفق روسو أن الحرية هي الأصل في التربية الأخلاقية . وهذا المنهج ذاته نجده عند ابن طفيل الأندلسي الذي يرى في الطبيعة خيرا ويتجلى ذلك في كتابه "حي بن يقظان" وحي هو طفل يعيش في جزيرة بعيدة عن البشر، فينشأ على حب الخير المطلق. واعتقد أن الطبعية كما يقول روسو خير معلم، وعندما تتفاعل الطبيعة الإنسانية مع الطبيعة فإن الخير في الطفل ينبثق والحرية تتدفق . ويبقى السؤال حول إشكالية العلاقة بين الضرورة والحرية في تربية الطفل قائما ومشروعا .

 

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم