صحيفة المثقف

العالم الشعري لدى يوسف الخال

رياض الناصريتعد تجربة يوسف الخال الشعرية، تجربة إيجابية في جانب مهم من جوانبها إذ تقوم على معرفة (الله والإنسان والوجود)(1)؛ وتصطدم هذه التجربة بخلو الحياة من عنصر الموجودات الأول (الله)، فتظل لاهثة عطشى تبحث عن هذا المفقود الذي هو المطلق والملئ والكامل، والذي تريد النفس الإنسانية أن تتوحد به، لتعلو عن ضعفها المعتاد، وذلك بتثوير كوامن القوة فيها، لتتغلب على عنصر الخطيئة الذي اجترحته منذ بداية وجودها.

هذا الفقدان جعل الأشياء تفقد حيويتها، وعوامل قوتها، جعلها مفازة، مفازة في الزمن والمدن والوجوه والأشياء(2)، وهذا الإحساس بموت الأشياء وفقدانها ذاتيتها، حفز الخال للوقوف ضد هذا الموات، ومحاولة البعث لكوامن القوى في الروح الفردية والجماعية، عن طريق التوحد بالمطلق/الحل الأمثل لأشياء الوجود، ألا وهو(الله)، الغاية النهائية للموجودات. فالإحساس بالانفصال والغربة في هذا الواقع، لم يكن متأتياً من إحساس بالمجهول وفقدان الثقة بالغد، إنما هو إحساس مصدره عاملان: فقدان العوامل الروحية في المجتمع، وطغيان المادة الذي جعل من الأشياء فاقدة لمعناها. هذان العاملان أفرزا عوامل صراع عدّة بينهما، كانت عائقا على طريق الوصول إلى الحل النهائي لمشكلته الوجودية. مما جعل الخال يصرخ ضدها، يصب عليها جام غضبه، ليعطي أشياء الوجود مظهرا فاجعا وإحـساسا بالخـراب. غير أنه يستطيع أن ينتزع نفسه من براثن الخراب، الذي يعم الأرض، لأنه ليس الصفة الوحيدة لها، فالتجدد عن طريق الفداء والتضحية، سيضرجها(3)، والإنسان مهما اشتط في الخراب والموت والتيه مزروع ثانية وممتزج بدم الفداء والتضحية، ولابد من هذا الدم، لأنه علامة الحياة في استمرارها وديمومتها، وعلامة للفرح والاستباق والتخطي، ولأنه سبب المغفرة التي سوف توحدنا بالإله، وتفتح باب العودة، هذه العودة بأوجهها الثلاثة عند الخال: العودة إلى الله، أو التشبه بالمسيح، أو إلوهية الإنسان، وثلاثتها في الواقع واحدة(4)، هذه العودة هي غاية صراع الإنسان مع الموت ومحاولة الانتصار عليه، لاستمرار حياته وديمومتها وتحقيق الخلود الذي هو دافع رئيس للاتحاد بالله أو بالمسيح.

إن تجربة يوسف الخال هذه كانت تحدياً للواقع باتجاهات عدة، ومحاولة الانتصار عليه، وفي بعض حلقاتها كانت ردّة فعل تجاه الأحداث والأشياء، ولم تكن في أي من لحظاتها انسجاما مع الواقع، فهي في أحد أطرها الرئيسة- محاولة الشاعر ليندمج بالآخر(المسيح) - إفصاح عن عدم القدرة الذاتية على التكيف مع الواقع بصورة انفرادية، فيهرب للانضمام إلى أشياء الكون جميعها، ليكونها، وليكون في حالة اتحاد معها، ليعبر عبرها إلى أفق آخر. وبذلك يحقق نوعا من الطمأنينة الداخلية التي تهب القدرة على الاستمرار في الحياة، هذا الموقف يقول عنه الباحث عبد الواسع أحمد الحميري:

"هو موقـف غير مسـوغ من العالم لأن الذات لا تستجيب خـلاله للواقع الاجتماعي أو التاريخي، بل لما فوق الواقع "(5) وهو" موقف سلبي من العالم، لأن الذات تعمل فيه إلى المواجهة  بالفرار،  لا بالفعل أو بالتخطي، هو القفز لا بالاختراق أو الهدم"(6)  ويبدو أن الباحث استند في موقفه هذا أو استنتاجه إلى أحد ركني تجربة يوسف الخال القائمة على:(البئر، والبعث، والله)، فأشاح بوجهه عن دعوة الخال إلى "بعث" كوامن القوى في الذات والمجتمع، وتناسى أو غاب عن ذهنه سيرة الخال النضالية، من أجل الارتقاء بمفردات الثقافة والحياة، في فترة كانت تعج بالظلام وأصوات الموت، واللا انبعاث " إنها حياة اختلال وسديمية، يسودها وضع غير حضاري وغير إنساني لأنها جحيم وكابوس "(7)إذ لم تكن هذه الرؤية (البنية- الجدل) في حلها للاندماج بالمطلق، رؤية ذات منفصمة عن الواقع أو التاريخ، كما يضمها إلى تجربة "أدونيس" و"قاسم حداد" في هذا الباب، ذلك أن للخال القدرة على قلب هذه الأفكار والمواقف إلى "مشاعر" وتحويلها إلى حالات ذهنية تؤرقه وتهز كيانه، وبالتالي تجعلها "موقفاً"، والموقف لا يكون خارج العالم الواقعي والتاريخي أياً كان شكله. وربما أمكننا القول أن الخال أراد أن يجعل من "الله /المسيح" عنصرا موضوعيا في البناء الاجتماعي، وأن يبقى الدين(ذا وظيفة أبدية للروح الإنسانية)، وهي رؤيا نشأت في وجهها الأساس عن تبرم واشمئزاز من العالم:" وإنني أميل ميلا شديدا إلى الاعتقاد بأن الميتافيزيقيا نشأت على تبرمنا بالعالم الذي يحيط بنا، واشمئزازنا من الحياة التجريبية "(8)، إن الروح الميتافيزيقية التي تشيع في شعر يوسف الخال، هي روح كل إنسان يبحث عن القيم الروحية في الحياة. وليست روح المسيحي أو الشاعر فحسب، إنما هي روح الإنسان في صراعه مع الحضارة المبنية على العوامل والأسس المادية وحدها وفي جميع أوجهها.

هذا الإيمان الغيبي عند الخال جعله يفارق آخرين لم يكن عندهم مثل هذا الإيمان "كخليل حاوي مثلا" في رؤياهم للانبعاث الحضاري وأملهم في تحققه، مما حماه من أن يدور في حلقة مفرغة من اللاجدوى والعدمية، التي تجعل الواقع مأساة لا تحتمل(9).

إن يوسف الخال بمحاولته(بعث) الإنسان، و (بهجرته) إلى الله، و(تمجيده) للحرية "كل نظرية وكل عمل لا ينهض على أساس الحرية إنما هو عمل ضد التاريخ، بل خارج التاريخ، قد يصول ويجول حينا من الزمن، لكنه لا يلبث أن يزول"(1.).إذ إن "من لا حرية له لا رأي له". و(انتصاره) للحركة الثورية "إن الصراع الحقيقي ليس صراعا عسكريا، والنصر الحقيقي ليس نصرا في معارك السلاح. الصراع الحقيقي هو صراع العقل والروح، والنصر الحقيقي هو النصر في معارك المعرفة والنور"(11). كان في كل ذلك قد (مزج) الفكر الصوفي بالماركسي بالوجودي، من أجل الإنسان وقضاياه المصيرية، ليحرره من الفساد والنقص والاغتراب، وباحثا له عن الخلود.

-2-

عاش يوسف الخال عملية تغيير فكري في مجال الفن وقضايا الجمال الأدبي، تبعها تغيير إبداعي، لكن ذلك لم يدع للطروحات الأولى، أن تكون مركونة على الرف تماما، فهي تطالعنا بين حين وآخر، في أشد حالات النفس عزلة عن الماضي: فالفكرة الصغيرة اللائحة من قبل قد تطورت وأصبحت عملا فنيا ورؤيا كبيرة، فبذور الديوان الأول(الحرية) أصبحت ثمرا في (البئر المهجورة) و(وحي الأربعين) و(قصائد لاحقة)، فالثيمة الشعرية ذاتها تسود في الدواوين الثلاثة الأخيرة وإن اختلفت شكلا وأسلوبا، لذلك تطالعنا ومنذ البداية ثنائية(الأمل واليأس)، (الإقدام والتراجع)، الإيمان والشك على فترات)؛ هذا التأرجح والقلق يكاد يكون سمة تغطي شعر الخال وحياته .

-3-

وأخيرا يمكننا القول، إن يوسف الخال كما هو إليوت، كان محافظا في الإطار العام لفكره، إذ أن عالمه الداخلي كان محكوما بثقافة فنية حديثة مغروسة بتراث ديني قديم. وهو في المحصلة النهائية يتفق مع(الوجودية المسيحية) التي تتفق مع مقدمات سارتر المطالبة بعمل إيجابي للإرادة! "لكنها تعتقد أن هذا العمل هو مسألة اختيار ديني، ويجب أن تؤدي بالنهاية إلى الله"(12). لقد ظل يوسف الخال الإنسان والمفكر والشاعر، شاعراً ذا فكر جديد على الشعر العربي، وذا إحساس إنساني كبير، كانت تؤرقه قضية الوجود الإنساني ومصيره، آمن بكرامة الإنسان، وبالحق الطبيعي بالحرية، غير أن الضغوط الإيديولوجية التي عاشها الخال، سواء أكانت حياتيه معاصرة مثل تبنيه لقضايا الحداثة، أم عقائدية دينية قديمة، كانت قد أسكتت الشعر عنده في النهاية.

(1)

المفـازة

أكثر من نصف قرن مرَّ ونحن نجتر مرارة المفازة، على الرغم من كل ما تحقق، فما زلنا عند تلك اللحظة التي تصور فيها يوسف الخال حياتنا على أنها "مفازة"، في كل شعابها وصورها، فالتشتت العربي ذاته إن لم يكن قد ازداد، والتفوق الغربي ذاته، و العزلة والتقوقع وفقدان التواصل مع العصر، وعدم التوازن في القضايا الوطنية والعربية والإنسانية. فالهيمنة الاستعمارية بشتى صورها عادت من جديد. ومتى غابت؟ لتقتل كل ما هو حي في روحنا، ولتقلع الجذور من تربتها، ليصبح العرف والتقليد والروح العربية طقوسا ميثولوجية، وتنتشر وجوه جديدة، شكلها يوحي (بالعالمية)، لا صفة لها ولا طعم ولا لون، من بيئتها، من وطنها وتاريخها، من عقائدها وطقوسها وعشقها الرومانسي لها. ولتتخلى عن روحها الصادقة الطاهرة النقية. ها هو الصوت الآمر الناهي، وهاهي الألاعيب السياسية العالمية، تعود ثانية، لقطع أجزاء أخرى من أرواحنا ومن أرضنا و من تاريخنا لتعود:

وجُوهُنا مَفَازةٌ

مَشَتْ عليها قَدَمُ البوَارِ(13)

من جراء هذه التجربة/اللعنة، الضخمة،العاتية العنف، التي تتضاءل دونها تجارب مئات من السنين من تاريخنا. الموت؟ القتل؟ التشريد؟ النسف؟ الجوع؟ أدت في النهاية إلى صرخة الغضب. والكذب الجماعي المتصل بالوهم، الذي ركب شعبا بكامله حقبا طويلة، أنفضح أخيراً منشقا عن وجه خدّدّه الألم، وعرقته أنياب الخيبة، فانطلقت منه صرخة الغضب. لقد جعلنا بعد الجرح والألم بعد أن جوبهنا بالبتر في فلسطين، نكتشف أنفسنا وما حولنا. لنكتشف الغدر الكاذب في العقول والأنامل. ولنتحسس نبضنا الخافت، ونستقصي التمزق في خلايانا، التمزق الذي لا يتبعه النسغ والإلتئام إلا بعد القضاء عليه، لنقتل مفازة الوجوه، مفازة المدن، مفازة الزمن، لنبعث مكانها وجوها ومدنا وزمنا جديدا.(14) إن يوسف الخال لم يصور الجدب من نواح عديدة حسب وإنما صور "هذه النواحي بالرمز التموزي القديم، وهو رمز، كأكثر الرموز الدينية، دائم المعنى آنيّ الخطورة، لأنه مستمد من تجربة الإنسان الأولى للحياة والخوف والإيمان والموت" (15). فشعره بقصائده كلها، يكاد أن يكون قصيدة واحدة، تتنوع عملية اكتشاف الجدب فيها، في النفس الفردية والجماعية:

نحنُ يَا صَاحِبِي، حَنِينٌ إلى المَاضِي

وَتَوْقٌ إلى غدٍ وَصَلاةٍ (16)

لقد جعلنا حاضرُنا نهرب إما إلى الماضي لنجتر ذكريات مجد غابر، أو نجتر أحلاما ترسم لنا صورة مستقبل ضبابي، والخال حين يتحدث عن الماضي السعيد ويحلم دائما بالعودة إليه، فإنما هو تعويض عن قسوة الحاضر، وليقيم صلة زمنية بين لحظات حياته، متوغلا في مفازة  المدن الميتة، بحثا عن حياة الإنسان والنبات، موحداً الاثنين على الطريقة السامية القديمة، مستمدا من تجربة الإنسان الأولى، صورة لتجربة الإنسان المعاصر، في عريه وضياعه ووحشته ووحدته(17):

في الصيفِ تسألُ الجذورُ عن مَصِيرهَا،

والنَهرُ لا يُجِيبُ:

غَصّتْ بِهِ العيونُ في الجّبال أمْ

تَلَقّفَتْهُ في الهَجير ترُبة؟ فمن

يجيب هذه الجذور عن مصيرها؟

يحضنها في زمن الخريف؟ يدفع عنها

قسوة الشتاء يا ترى؟(18)

يستغل الشاعر هنا رمز الشجرة القديم بتنويع موسيقي، شاحنا فيه معاني تجربة اليوم تجربة العطش والخطيئة، التي تشده رغما عنه إلى تجربة الماضي، تجربة الكفر بالأخ والموت في الروح، ومثل هذا (السؤال/المصير) واجهنا من قبل في ديوان "الحرية":

وأمّحت شعلة فساد ظلام

في بلادي، وطأطأ الفكر عيّا،

يحمل القيد في يديه ويمشي

في عبودية الضلال شقيا:

موجة آسيوية راعها النور

فأرخت حجابها البربريا.(19)

يلتقي إنسان يوسف الخال هنا، بإنسان عبد الوهاب البياتي، فكلاهما (يستقرئ الأرض ويمضي باحثا عن الجذور)، وما يسود في شعر الخال من حنين إلى هذا الجذر البعيد، أو إلى عوالم غير مرئية لم يكن أمراً جديداً في الأدب الحديث "لاسيما أن نقاد ثقافتنا منذ روسو وبليك إلى إيمرسون وفوكو، يطلبون، وعبر اللغة التي يستخدمونها ذاتها، التضحية بالوجود الحالي، من أجل رؤية مستقبل محتمل تم تصميمه استنادا إلى صورة ماضي ما، قد صور دنيويا وجماليا من ماضي ديني وأسطوري(2.) ذلك أن الوحشة العميقة التي يتصف بها الوجود جعلت الإنسان يتخبط بصورة عشوائية فيها، مضروبة عليه عزلة رهيبة، وهو يواجه فقدان الأشياء لمعانيها وروحيتها، فيظل يمشي بخطى وئيدة حائرا نافرا من كل شيء، باحثا عن قربان التضحية والفداء،عن طريق يخرجه من لا نهائية الأشياء إلى نقطة البدء، حيث يمكن أن يكون للمسيرة اتجاه وهدف، فإن:

الورق الذي يهر جسد

والسر في الجذور،

وفي الجذور أمسنا

وفي الجذور غدنا،

هنا الثمار بلح، وهناك

عنب يعصره السقاة خمرة،

وحيث يكثر الجراد لا ثمار بل حصى،

وعبثا نصيح: نحن كالرياح

حرة تجىء من مكانها وحرة تروح.

فنحن يا رفيقي الغـريب نعمر الثرى.(21)

فالفكرة الدينية القائلة بأننا من تراب تندمج هنا برمز التراب، كبيت رحم، وبرمزه الآخر ككفن، فتصبح الأرض "الولادة والموت والولادة من جديد". " وحدها البقاء "(22):

لنا التراب بيت رحم وكفن،

وفي التراب نهبط الجذور صعدا،

فالأرض مولد وحصاد.(23)

وهذا البقاء يتمثل في قدم الإنسان( فهي من التراب)، التي هي (هياكل ومدن)، والتي يهرب الفضاء من حولها، لأنها في حركة دائمة.إنها القدم المغروزة في التراب مع الجذور: الماضي والمستقبل:

هنا هنا على التراب جبهتي

وفي التراب قدمي،

وقدمي هياكلٌ ومدن

ودمعة هي الفرات تارة

وهي البحار تارة

وقدمي دم وقبلة

وقدمي صلاة،

رباه دعني ههنا

رباه دعني ههنا لديك، دعني

ههنا على التراب: هذا الكوكب

الذي صنعت آخر:

زنابق الحقول لا تريده

ولا الخراف في حظيرتي تريده

ولا أنا أريده،

وأنت يا من شئتني

من التراب لا تريده.(24)

إن محاولة دمج الماضي الإلهي والإنساني، بالحاضر الإلهي والإنساني، كانت تمثل بالنسبة للخال، هدفا يبغي من خلاله إلى حل التضاد بين الماضي البريء والحاضر الآثم، وإيجاد نوع من الوفاق الأبدي بينهما، عبر شبكة الشعر، بصهرهما ببوتقة واحدة. وبذلك يكون يوسف الخال شاعرا شموليا للماضي والحاضر، للدين أو الإله، وللإنسان والتجربة الإنسانية، وهذا يفسر لنا ما يظهر عنده من تأرجح بين الحلم والواقع، ويضفي على "الدين" أو "الله" صفة "اللازمنية"، ليلتقي مع الفن العظيم الذي هو كل فن "لازمني" أي الذي يصح لكل زمان ومكان، فتتحقق عبر ذلك الوحدة بين "الله" و "الفن" بأعلى صورها. " لنتاجنا الشعري في هذه المرحلة التاريخية، بعد خاص، يجب أن نعيره وعيا خاصا. إنه البعد التاريخي؟ البعد الذي يفرز ويحدد، البعد الذي يقطع ويحسم،من هنا، يجب أن يكون الإعجاب بشعرنا المعاصر، إعجاب تساؤل ودهشة، لا سرور و رضىً، وإعجاب قلق وتطلع لا طمأنينة وراحة " (25). فالأرض والمياه هما تموز الذي هو أكثر الرموز الدينية القديمة استعمالا في الشعر العربي الحديث، وهو الرمز الذي لا يطبق على الإنسان مصاريع اليأس و الظلمة، بل يفتح له في آخر رواق العذاب والألم، باب النجاة، فالأرض الخراب يأتيها الدم أخيرا ليبعث القمح والعنب، والتراب الذي هو "كفن" هو أيضا "بيت رحم" فالأرض ليست مقبرة الأحياء في النهاية بل هي "مولد وحصاد" (26). و"تموز" هو المسيح (الإله الميت - الحي)، والمسيح وهو الأنموذج للعذاب الإنساني ومنبع للخلاص، هو الإنسان المعاصر، هذه المعادلة الرمزية هي الأساس في كل قصيدة تقريبا، ولكن كل قصيدة تجربة لكل مقطع من هذه المعادلة الأساسية.(27)

عرفت إبراهيم، جاري العزيز، من زمان.

عرفته بئرا يفيض ماؤها

وسائر البشر

تمر لا تشرب منها، لا ولا

ترمي بها، ترمي بها حجراً .(28)

فإبراهيم هو الإنسان مصدر الخصب، أو الله الذي هجره الإنسان فعادت حياته جرداء لا تشرب الماء، ولا ترمي به ولو حجرا. إنه يجسد الآن الألم بقدر ما يجسد اللذة، ويجعل من كليهما مشكلة دينية بالمعنى الفلسفي الأعمق، نجد فيها رمزا لمعاناة الشاعر وأبناء جيله، بنكبتهم المريعة، وأملهم الكبير:

يقول إبراهيم في وريقة

مخضوبة بدمه الطليل، ترى يحول الغدير سيره كأن

تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر،

ويطلع النبات في الحجر؟.(29)

غير أن هذا الأمل الكبير، يصده تيه الإنسان في المفازة/الخطيئة التي تمنع أوراق جروح الشاعر أن تندمل، ليبقى على الرعب والذل والظمأ والموت، كما في "الحوار الأزلي" (3.):

وفي دربي

تماسيح وأشباه تماسيح،

وبوم ملأ الدار، وغربان،

وغيم أسود ينذر بالطوفان، بالموت

على قارعة الدرب: عظام يبست

في الذل، وفي الوحدة، في الآن.

وهذا الزاحف العاري أ إنسان؟

أ إنسان على شاكلة الله؟

أراه قُدّ من لحم الشياطين،

أراه ذبح التنين في الغاب وأجرى

دمه في الأرض يروي

غلة الظامئ للفتح، لكونِ

يبدأ البدأ به بعد

**

عروق لم تعد

تنبض بالحب أو البغض،

لسان ناطق إلا

بما كان له النطق

وعقل تاه في الدربِ، ولا دربُ.(31)

هذه العروق التي لم تعد تنبض بالحب، وهذا الإحساس العنيف بالعطش، بضرورة استجابة النهر/الله، جزء من الصلاة الحزينة مرة، والغاضبة مرة، التـي تتخلل شـعر يوسف الخال كله.(32) وهذا العطش، رمز الجدب الأول، يتحول بشكل سحري إلى أشكال عديدة من الم الإنسان الصارخ إلى السماء، المتوجه في النهاية إلى الله.(33)

"هو ذا الريحُ تعريني، تعري

جسدي، تلهب روحي.

وصراخي بح في الغربة. آه،

..... وأطفالي

حفاة فوق جفني."(34)

هذا الصراخ كان ضد عوائق الطريق التي تحول دون الوصول إلى الحقيقة ومعانقتها، فالحقيقة موجودة قبل البحث عنها، وقبل السير للالتقاء بها، وقد رآها الشاعر ليس على المستوى الذاتي فحسب بل في العالم الخارجي أيضا، لكن ما أن يبدأ سيره نحوها حتى يصرخ مذهولا مسمّرا: "ما أحرج الطريق"، فالوجود حولنا ملىء وفارغ، حاضر وغائب في آن واحد، إنه يلفنا بحضوره الغامر، لحظة يرمينا في هوّة الغياب(35):

رجلاي في الفضاء والفضاء هارب،

وليس لي جناح.

الشمس لا تدفئني،

ولا تغطي جسدي الرياح.(36)

والشعور هنا في شعر الشاعر بدل أن يأتي ويذهب في عالم الداخل أو الذات، يؤثر أن يأتي في عالم الخارج، فلم يكن حواره داخليا موجها إلى ذاته، فلا نكاد نجد إسقاطات المفازة داخل هذه الذات، لتصطرع وتتصادم وتفرز إحساساتها الخاصة، بل كان الحوار دائما مع الوجود وأشيائه، فهو في العموم خطاب إلى الآخر، لقد كان الخال يشق غبار ذاته على استحياء، لذلك ندرت القصائد التي  تعبر عن مخزونه الذاتي، ورغباته وشهواته بصورة مباشرة "والذي اعتقده أن غياب هذا الأثر الشخصي، هو الذي جعل بعض القصائد تبدو جافة لا حرارة فيها، ضعيفة الإيحاء، إذ اقتصرت على حمل أفكار ومواقف الشاعر من المشاكل الإنسانية الخالدة"(37) بيد أن الخطاب للآخر كان ينطوي في الأغلب على أحاسيس ومشاعر مستترة، متغلغلة مع الفكر، ترتدي ثيابا فكرية، غير أن أحاسيسها المشتركة تنبض نبضة واحدة، ففي الشعر الحديث "تنشط الأحاسيس والفكر جنبا إلى جنب، يتشابكان، ولا يستطيع الشاعر أن يميز بينهما، فيضطر إلى إبراز شكلهما الموحد، في لحظة من الإشراقة الخلاقة. ربما نعتقد في هـذه الحالة أن أفـكار الشاعر، تتقمص وضعا مجازيا، غير أن هذا يؤدي إلى إساءة فهمه. الحقيقة هي أن مشاعره تتغلغل في داخل أفكاره، إلى حد يشكل الإنسان فيه كلا واحدا "(38). فما يعطي شعر يوسف الخال هذه الصفة( عدم الإيحاء) هو أن الشعر ينبني عنده على فكرة آرنولد القائلة: إن في الشعر تكون الفكرة هي كل شي… في الشعر تكون العاطفة لاحقة للفكرة إذ لم يكن عنده، في أحسن شعره، ثمة تفريق بين الفكرة والشعور.(39) لكن من المهم أن يظل الشعر شعراً، أي فناً، الوعظ ممارسة قديمة.(4.)

إن الخال لم يحاول صياغة قصيدته صياغة جمالية تزينيه " لأنه يعيش برودة العالم واحتمال سقوطه، ولأن جمال الشكل، جزء من هذا العالم، القائم في الفراغ، المهدد بالسقوط. فليس الجمال غايته في الشعر، وليس وسيلته التي يرينا العالم من خلالها"(41) فتجربته لم تكن تجربة انفعالية فقط، بل حاولت أن تكون تجربة فعل في العالم، ومحاولة لتفجيره وتغيره:

لو كان لي أن أنشر الجبين

في سارية الضياء من جديد

فهو يؤكد هنا. ما وعد به (عزرا باوند) من قبل:

لك الوعد: أنا،

سنبني بدمع الجبين

عوالم للشعر من عبقر

مفاتيحهن.(42)

ولكن ما يضفي الحرارة على هذا الشعر، ذلك التذمر والتمزق الرهيب من أغلاله، إذ يصلي ليمد له(جسر خلاص)، وهذا التذمر تؤوله الباحثة خالدة سعيد على أنه رفض للتراث "إن يوسف الخال رفض التراث نهائيا واستدار في دعاء حار صوب البحر"(43) وربما كان هذا التقرير بعيدا عن الصحة بعض الشى، فمن المسح الشامل لمجمل أعمال الشاعر النثرية والشعرية يظهر أنه غير رافض للتراث نهائيا، إنما هو رافض لامتدادات التراث حاضراً، بمعنى إعادة بناء الحياة على وفق الأسلوب والفكر التراثي حصرا، فهو يريده لبنة من لبنات عدة، يبنى عليها الحاضر، وليس اللبنة الوحيدة، تكون هي الجوهر والمحيط، إنه يريد خلط أوراق المفازة (التراث) بأوراق البحر، ليخلق الحياة الحضارية المتقدمة "فالبحر في شعره هو الطريق إلى العالم، وهذا رفض للانعزال الفكري الإنساني الذي أطبق علينا طويلا"(44) كما تنص الباحثة نفسها:

عبيد نحن للماضي، عبيد نحن للآتي

عبيد نرضع الذل من المهد إلى اللحدِ

خطايانا؟ …… يد الأيام لم تصنع خطايانا……(45)

يعبر الشاعر هنا ويتحدث بصوت الجماعة، ضاما نفسه إليهم، وهذه العبودية، إن دلت على شي إنما تدل على ثبات جماعته على قيمهم وأعرافهم ماضيا و حاضرا ومستقبلا كخاصية، لا يسعون إلى إبدالها أو الإضافة إليها. و لا يسع الخال بدوره إلا أن يقر " إن الأرث الذي استعبدنا، هو وحده الذي سيحررنا. رفضه مستحيل، ومستحيل كذلك قبوله على علاته. علينا أن ندحرج الحجر ونقوم "(46) كما فعل المسيح. وهكذا يظل الشاعر يتقاذف نفسه في صميم الأمواج بين المحل والمطر، تبعا لمد المأساة وجزرها، دون أن يوجز لنا الموضوع، في وقفة المبشر المدرك سلفا إن وراء المعصية القربان، وخلف الظلمة الفجر(47) فلا مكان للقنوط والشرود:

هذا العالم أنثى

لعبت بالغيمة فاضطجعت

فيئاً في الربع الخالي(48) .

ويشعر خلال ارتمائه في المفازة التي هجرها الإله، وأسقطه فيها اللصوص بعد ما (سلبوه ومزقوا ثيابه) أن:

أقفر الطريق

وها أنا بلا رفيق

كان صغيرا وحديقته (بلا سياج) ولما كبر

كان يبني قصباً وغرفة

فصار حجراً وغرفاً(49)

فنحن (غرباء) لأننا (خاطئون) لا لأننا (مظلومون) فهو كبودلير كان في أقصى درجات التفاؤل يؤكد على ذنب متأصل في الإنسان:

سأوقظ الصباح، من

سيوقظ الخطيئة؟

جراحي التي حملت، هاكها

في راحتي، لم تزل طريئة:

بلا خطيئة،

بلا يد جريئة.(5.)

وهكذا يبقى ويستمر الجو العام في المفازة، ترسمه، صور العقوق والخطيئة والتحجر، وانسداد المنافذ، وانكسار الماضي في الحاضر، والبحث الضائع عن المخلص المنكسر، والبئر المهجورة، والعقم في الشجر والإنسان وفي الحروف والرمل. حيث " لا حياة ولا موت، حيث المأساة ليست في أن المؤمنين بالمسيح التهوا عنه، بل أنهم في الأصل لم يعتنقوه " (51):

أقوم وأرحل عن صحرنايا

عن الظل عند ارتفاع الظهيرة

ووقع السلحفاة وأقدامها

على جسد الورق الميت في

زوايا الخريف الأخيرة

أقوم وأرحل عن صحرنايا

وأنفض عني الغبار

وفي العطفات الأخيرة حيث

تغيب ويسقط خلفي الستار

سأنسى وجوه الحجارة، أنسى

حشائشها كروؤس الأبر

تعلقن بالبرك الآسنات

يعللنهن وما من مطر

وأنسى غراباً رأيناه حط

بها، فتحرك، ذيل السكينة

يفتش عن جيفِ: لاحياة

ولا موت في تلك، تلك المدينة . (52)

ولم تكن هذه المدينة سوى مفازة أخرى، إذ إن الحس الحضاري والتمدن غائب فيها، فيحس إحساساً فاجعاً بالاغتراب عن الحضارة، والضياع في مدن التيه والتخلف،  أملت عليه أن يطابق الشاعر الغربي في موقفه من المدينة، ليروا فيها (أرضاً يباباً)، كانت عند الشاعر الغربي، بسبب الحضارة المادية، وفقدان العنصر الروحي، وعند يوسف الخال كان الفقدان للحضارة والروح معاً، هذه الرؤية كانت نابعة من ضرورات نفسية، واجتماعية وأخلاقية، هي نتاج العيش في تلك المدينة فـ " دراسة تحليلية لموقف شاعرنا الحديث من المدينة ؛ لاسيما ريفي النشأة . تصور لنا بدقة متناهية، أنه لم يكن ضد الحضارة بطابعها التقدمي، بل كان واقفاً تحت وطأة الإحساس الحاد بالتضاد القيمي والمعرفي، بين القرية والمدينة، القرية بكل وضوحها وشفافيتها وبساطتها وألفتها وهدوئها، والمدينة بكل غموضها ودبقها وتعقيداتها وشراستها وصخبها. فكان موقفه منها اغترابياً مشوباً بالدهشة والحذر والحيرة " (53)

ويتحد هذا الموقف من المدينة، بعد أن خبر حياتها في المدنيتين–الغربية والشرقية- مع الموقف من الزمن بحيث يتعذر فصلهما، فأنه لم تكن لديه عقدة

"ما" من مدينته إلا تخلفها الحضاري و خلوها من القيم الروحية، لأنها لا تؤمن بالمسيح، والحضارة المادية هي بدورها بحاجة إلى حضارة روحية تطفئ حر لهبها، وتسمو بها إلى المثل والقيم العليا وفي كلتا المدينتين، وما صورة المفازة الآهلة بالخراب، والرعب والموت على المستويين الذاتي والاجتماعي إلا ثورة على من أفقد الأشياء روحها التي أنتجت صراعاً بين الواقع والمثال عنده ليستعيد بذلك الصراع ذاته المفقودة كما يحاول السلفيون، وأن (يبدع) هذه الذات في الوقت ذاته، كما يحاول دعاة الحداثة"واستعادة الذات أو إبداعها، يتوخى في النهاية" تحقيق الذات العربية المعاصرة"(54)والعودة إلى إنجاز الماضي ومحاولة الاقتراب منه وعياً وبناء " تمثل التجاوز أكثر مما تمثل السكون، فاستحضار شاعر الحداثة العربي للماضي والعمل على تفجير البؤر الخلاقة فيه، كان ضرورة ملحة، لتحفيز زمنية الشعر العربي المعاصر، نحو السير بخطى واثقة في طريق لا تراجع فيها، نحو تأسيس البنى الجديدة، التي ليس لها بعد الآن أن تركن للسكون"(55). فرحيل الخال نحو الماضي هو في الحقيقة بقاء ورسوخ في الحاضر:

أقوم وأرحل عن صحرنايا

وأسلك دربي إلى منتهاه

هنالك أحضن وجه التراب

أسمع صمت الإله(56)

فهو ليس رحيلاً، كما أنه ليس تمركزاً مطمئناً، لأن الشاعر وإن بقي على رجائه، لم ينجح في كسب العالم لهذا الرجاء، وفي وقايته-مثلما هو-ذباب الضجر والقحط؛ إنه الآن ناسك،  يمضغ ابتهالاته ومرارته .(57)

ولم يجعل الخال لنفسه مدينة" ما " يلجأ إليها من قحط العالم ووعورته وصعوبته،  مثلما فعل السياب الذي جعل من " جيكور "حلماً أو رمزاً لكل مكان يتوق الإنسان للعودة إليه وليحتمي به، ذلك أن مدينة الخال وحلمه وضفاف راحته هو" الله ":

أقوم وأرحل عن صحرنايا

حزينا ومالي رفيق

وفي صحرنايا ولدت، وفيها

على حائط ساجد في الطريق

شنقت إلهي، وفي الرمل

في ظلمات الحروف العقيمة

طويت سلاحي، طويت جناح وجودي

طويت الجريمة .

وفي صحرنايا وأدتُ بناتي

وكنتُ الضريح،

وفيها تشوه وجهي، تناءى

فدارت به كل ريح .(58)

فهذه المدينة/المفازة، بأرضها الميتة وأشيائها الفاقدة للحياة، على الرغم من عدم ركون الخال إليها كملجأ وحيد، إذ لم تكن ذاته مرتبطة بها ارتباطاً مصيرياً، إلا أنه كان موتاً للخال أيضاً:

الليل جالس معي

ينتعل الدخان من لفائفي،

والصمت كل ما أقول

في بياض صفحة،

هذا الذي أحب جاءني

أوائل الشتاء

وما على الغصون

ثمر، ولا غناءٌ،

يريد أن يعيش في

ولادة الفناء.(59)

فكل شئ يوحي بالموت في هذه التجربة إلا الموت، فأنه الأمل في أن يقوم الإنسان بعده، وتبعث الحياة من جديد، فالقصيدة الواحدة في شعر الخال، يتصارع فيها دائماً، الشوق إلى الانطلاق مع الرسفان في القيود، ويتجاور فيها الخصب والبوار، تريد أبداً أن تخرج من عنت المفازة، رفاهاً جديداً، ونسغاً للحياة. هذه الثنائية المتضادة في القصيدة، من ازدراء للمفازة وشهوة بعثها، أفرزت توتراً عند الخال، قد يفسر بعض تناقضاتها عنده؛ مثلما قد تفسر لنا روح الخال المرتبطة بالمطلق والتائقه للحرية بعض وجوه النفور عنده من المجتمع أو السلطة التي تود أن تفرض قوانينها على كل شئ:

هذا النداء، ياسماءُ

آخر النداء،

هليّ

نكاد نرشفُ الدموع من عيوننا

ونشرب الدماء (6.)

إن فكرة جدب الحاضر وخلوه من المعنى، وأن"الفردوس الوحيد" فردوس مفقود، هي فكرة كان الشعر العربي قد طرقها وتغنى بها كثيراً، فكان يوسف الخال شأنه شأن الشعراء التموزيين: جبرا إبراهيم جبرا، وأدونيس، وخليل حاوي، وبدر شاكر السياب،  في مسح "المفازة" بحثاً عن الماء والبذر، بأسلوب مراسيمي متقارب" فبويب" السياب هو" البئر المهجورة " عند يوسف الخال .(61)

وربما استمد الخال تجربة(المفازة) من تجربة العبرانيين حيث " الظاهر أن الصحراء ظلت تجربة ميتافيزنقية ضخمة في حياة العبرانيين ولونت كل تقييم صدر عنهم " (62) فإن الكتاب المقدس بشقيه" العهد القديم " و" العهد الجديد" كان مصدراً مهماً من مصادر ثقافة الشاعر، ومزامير داود التي كانت نشيداً عبرياً يحاول بعث الأمل والفرح في نفوسهم التي ظمأت كثيراً في التيه، لا تفتأ تحرك أحاسيس شاعر لم يبعد عنها كثيراً، فتأتي العديد من قصائده تحمل طابعها الابتهالي:

" عرفني سبل الحياة

وأملأني فرحاً بحضورك،

فمن يمينك دوام النعم " (63)

ويقول الخال:

" ألا مَنْ يُنجىِّ،

مَنْ يعيد الرجاء غيرك يا بحر،

دعوناك فاستجب لدعانا " (64)

* * *

لنخرج من جب المفازة، التي تحاول أن تقتل كل شئ فينا، أن تمسح الذاكرة، تحولها إلى بيداء. حيث الماضي والحاضر والمستقبل لا يحمل إلا صورة واحدة صورتها هي، فتعود تكرر نفسها في الصورة ذاتها والمعنى ذاته الفاقد لتألّقه، ومفردات الحياة التي تصنعها اللحظة الراهنة، لم تعد لها صلة بالماضي الذهبي أو بالمستقبل، لا ذاكرة فيها ولا رؤيا لها. إنها حبيسة بين جدران أربعة، لا يلجها النور، ولا تعرف الدفء، ولا عشق الربيع، إنها مظلمة داكنة كئيبة، وإذا ما أنتجت حرفاً فأنه عقيم، أقرب إلى البوار منه إلى النمو:

وملء أناملنا اللمسات ولا مَنْ يحسًّ

ولا مَنْ إذا

تباطأ وانحدر الصاعدون

يهبّ بجرحِ، يقول

ويفتح جمجمة الأرض: لا،لا

وجدت هنا السائرين

على مهل، ولا من رثاء

لأطفالنا

يعزّي، يشدّ الاكف، يذكّر

إن البطولة شيء مباح.

هو اللارجوع

وتحصد حلم آشور ببابل ً

نرفع فوق الرؤوس

حدائقنا

لأن الظلال بنا هاجرت

لتسكن، بين القبور

علامة لهذا الزمان . (65)

إنها مرثية حزينة الأنغام لماضٍ مزدهر في حاضر كئيب، في ذهن لا يكل ولا يمل من تصوره ماضياً ذهبياً سعيداً، برغم كل فجواته الحاضرة، وموت الإحساس به عند من حول الشاعر، فقد بقي الشاعر متشبثاً به تشبثاً عنيداً وعاتياً إلى النهاية .

لقد زاوج يوسف الخال بين صور الزوال والفناء في الأسطورة القديمة وبين زوال الحياة في الحياة الحاضرة، وأخذ كلا الجانبين في الحياة (الموت/والحياة)، والحياة تنبثق وتنشق من براثن الموت، من أجل مستقبل، مادام يريد الماضي صورة وانجازاً، فهو متوحد به ومنبثق منه، لتكون المدينة الفاضلة، هي صورة الماضي في الحاضر من أجل المستقبل. فشعر يوسف الخال لا يربطه بالواقع إلا البحث عن النور، ومحاولة بذر البذور الحضارية الجديدة والقديمة، في الفكر وفي الواقع، ولم يكن مثل هذا الأمر حيلة فنية فقط إنما هي روح تشع وتؤمن بما تتصور وبما تحلم. فهناك المزاوجة المتبادلة المواقع بين الواقع والكلمات، حيث أن التقدم في الكلمة يعني التقدم في الواقع، ورسم مثال أعلى بالنسبة للكلمات يعني رسم مثال أعلى لما يجب أن يعتد به الواقع بكل مفاصله، من أجل تحقيق تقدم في الواقع والموضوع، فأن رؤية الخال للأشياء "كمفازة" لم تكن مثل رؤيا بايرون التشاؤمية الناجمة عن كراهية للجنس البشري، بل كانت رؤيا ناتجة عن رغبة في التغيير، التي تصطدم بواقع يرفض هذا التغيير، ولا يريد الجديد، وهو واقع مؤلم أمام صورة الماضي الجميل في الذاكرة الإنسانية، لاسيما صورة الماضي المسيحي عنده، ومقارنة بواقع الحضارات المتقدمة في العصر …  فلنودع هذا الشتاء القارس، شديد الوطأة، الممتلئ بالغثيان والضجر، لنشهد مرحلة " البعث" عبر نافذة وبوابة البحر، ولنؤمن كما أراد لنا يوسف الخال أن نؤمن بأن:

" ... االربيع مقبل،

لابد مقبل،

من القبور والحقول مقبل " (66)

وهذا هو موضوع قراءتنا القادم لشعر الخال (البعث).

 

د. رياض الناصري

...........................

الهوامش

1- ينظر: قصائد مختارة، يوسف الخال جمعها وقدمها أدونيس، دار مجلة شعر، بيروت،ط2، ب، ت، ص9.

2- ينظر:النار والجوهر، جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، ص1982،37.

3- ينظر: مسيحية المنطق وعبثية الإيمان، أنسي الحاج، مجلة شعر، بيروت، ع2.، 1961ص19.

4- ينظر: النار والجوهر، ص42.

5- الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية، عبد الواسع أحمد الحميري،مجلة "نزوى"، عمان، ع11، 1997ص115.

6- نفسه والصفحة نفسها .

7- قصائد مختارة ليوسف الخال، ص16.

8- العزلة والمجتمع، برديائيف،ترجمة: فؤاد كامل، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد،ط2، 1986، ص24.

9- ينظر:أدبنا الحديث بين الرؤيا و التعبير، ريتا عوض، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1979، ص168 وما بعدها.

10- دفاتر الأيام، ص79.

11- نفسه، ص83.

12- دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ليليان هيرلاندز وآخرون، ترجمة:محمد الجورا، دار الحقائق، بيروت، دمشق، ط1، 1986،ص616.

13- مجلة شعر، ع 7- 8، 1958، ص57 .

14- ينظر: النار والجوهر، ص37.

15- نفسه، ص38.

16- الأعمال الشعرية الكاملة، ص: 55 .

17- ينظر: النار والجوهر، ص4. .

18- الأعمال الشعرية الكاملة، ص2.7 .

19- نفسه، ص115 .

20- ايديولوجيا الرومانس، حالتان نقديتان معاصرتان، أوهارا دانييل، ترجمة: باقر جاسم محمد، مجلة الثقافة الأجنبية، بغداد، ع2، 1997، ص31.

21- الأعمال الشعرية الكاملة ص2.7، وما بعدها .

22- النار والجوهر، ص41.

23- الأعمال الشعرية الكاملة، ص2.8 .

24- الاعمال الشعرية الكاملة، ص211، وما بعدها .

25- (حول قصائد في الاربعين وحملة التزوير والاستغلال)، ادونيس، مجلة شعر، ع18، 1961، ص176

26- ينظر: النار والجوهر، ص38 .

27- نفسه والصفحة نفسها .

28- الاعمال الشعرية الكاملة، ص2.3 .

29- نفسه، ص2.3، وما بعدها .

30- ينظر: النار والجوهر، ص45 .

31- الأعمال الشعرية الكاملة، ص222وما بعدها .

32- ينظر: النار والجوهر، ص42.

33- نفسه والصفحة نفسها .

34- الأعمال الشعرية الكاملة ص217- 218 .

35- ينظر: قصائد مختارة، يوسف الخال، ص21. .

36- الأعمال الشعرية الكاملة، ص211 .

37- البئر المهجورة ليوسف الخال، ص143.

38- التجربة الخلاقة، س. م. بورا. ترجمة: سلافة حجاوي، دار الشؤن

39- الثقافية العامة، بغداد، ط2، 1986، ص12.

40- ينظر: ت. س. إليوت، الأرض اليباب، الشاعر والقصيدة، د. عبد الواحد لؤلؤة، مكتبة التحرير، بغداد، ط2، 1986، ص197.

41- من لقاء مع يوسف الخال أجراه كاظم جهاد، مجلة اليوم السابع، السنة الثانية، العدد73، 1985، ص33.

42- البئر المهجورة، يوسف الخال، ص139 .

43- الأعمال الشعرية الكاملة، ص197 .

44- البئر المهجورة، ليوسف الخال، ص142 .

45- الأعمال الشعرية الكاملة، ص224 .

46- دفاتر الأيام، ص68 .

47- مسيحية المنطق وعبثية الإيمان، ص91 .

48- الأعمال الشعرية الكاملة، ص244 .

49- الأعمال الشعرية الكاملة، ص331 .

50- نفسه والصفحة نفسها .

51- مسيحية المنطق وعبثية الإيمان، ص94 .

52- الأعمال الشعرية الكاملة، ص 293 وما بعدها .

53- الخطوة الضائعة والموقف من المدينة، محمد صابر عبيد، مجلة الأقلام، ع 6، 1986، ص41.

54- الحداثة في الشعر العربي المعاصر، بيانها ومظاهرها، محمد العبد حمود، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1986، ص 276.

55- الشاعر حميد سعيد ناقداً، د. بشرى البستاني، مجلة الأقلام، ع2، 2... ص48.

56- الأعمال الشعرية الكاملة، ص295.

57- مسيحية المنطق وعبثية الإيمان، ص93، وما بعدها.

58- الأعمال الشعرية الكاملة، ص294 وما بعدها .

59- نفسه، ص324وما بعدها .

60- الأعمال الشعرية الكاملة، ص278 .

61- ينظر: الاتجاهات الفكرية والجمالية للقصيدة العربية الحديثة، د.منيف موسى، مجلة الآداب،ع11- 12، 1988، ص57 .

62- ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامراته الفكرية الأولى، هنري فرانكفورت وآخرون، ترجمة:جبرا إبراهيم جبرا، دار مكتبة الحياة، بغداد، 196.، ص 273.

63- الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، العهد القديم، الاصدار الثاني، ط4، 1995، ص687.

64- الأعمال الشعرية الكاملة، ص231 .

65- الأعمال الشعرية الكاملة، ص356وما بعدها .

66- الأعمال الشعرية الكاملة، ص213 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم