صحيفة المثقف

الحقيقه بين المنطق والعاطفه

اياد الزهيرييُنسب الى الفيلسوف الأغريقي أرسطو مقولة (الأنسان حيوان ناطق)، ومن الطبيعي أن النطق هو تمظهر لعملية التفكير التي يقوم بها الأنسان، فالأنسان يعبر عن مواقفه المختلفه وحاجاته الكثيره، وعن ما يجول في نفسه من عواطف وأحاسيس عن طريق آلية النطق . والنطق هو أحد ألآليات التي يستعملها الأنسان كوسيلة أتصال للتفاهم وأحياناً للدفاع والهجوم أتجاه الآخرين، حتى قيل شعبياً (الحقوك يحتاج لها حلوك)، وذلك تعبيراً عن أن الكلام واحد من اهم الوسائل التي يدافع بها الأنسان عن حقوقه، بعد أن كان يستخدم يديه وينتزع ما يبغيه بقوة يديه، ولكن مع تمدن الأنسان وتطوره أُستهجنت هذه الطريقه وأعتبروها طريقه بدائيه لا تليق بالأنسان العاقل، لذلك قيل (أذا توقفت العقول تحركت الأيدي) . على العموم بدأ الأنسان في مسيرته التطوريه يستخدم أساليب متعدده كثيره من الكلام، لا تخلو من فنون كثيره، حيث الشعر، والنثر الفني، أضافه لتقنيات الألقاء التي لها تأثيراتها على المتلقي، فقد شاهد الفيلسوف الأغريقي أرسطو أن هناك جدل محموم يحدث بين المتحاورين، وهذا الجدل يعتريه الكثير من المغالطات والحيل ولكن بأسلوب كلامي مزوق، حتى أصبح المتحاورون يستخدمون فنون الكلام كسلاح لأفحام خصومهم، فتعقد الجلسات الحواريه بما يشبه حلقة المصارعه ويبدأ الجدل وترتفع حرارة النقاش الى حد الغليان، وقد أطلق على هذا اللون من الكلام بالسفسطه، حتى أن القرآن عبر عنها (وكان الأنسان أكثر شيء جدلا)، بحيث كل يدعي الحقيقه بطريقته الخاصه، فتضيع على العامه الحقيقه، ويجعل الناس في حيره من أمرهم، فكل يدعي الحقيقه، مما ساهمت هذه السفسطه بفقدان الكثير من الحقوق، وضاعت على الناس كثير من الفرص الذهبيه، في التطور والأرتقاء بسبب موقف يُتخذ من قبل متعصب أو أناني يقدم مصالحه الخاصه على المصلحه العامه، أو لغايه في نفسه . هذا الواقع المرتبك، وما يحدث من تشويش نتيجه لذلك، دفع هذا الفيلسوف الى كتابة منطقه الذي سميَّ بأسمه (المنطقي الأرسطي) متأملاً أن يضع حد لهذا الجدل العقيم، والذي يجعل الناس تدور في حلقه مفرغه . هذا المنطق يعتمد الأستنباط القائم على الأستقراء، وهو منطق بسيط ويمثل المحاوله الأولى للأنسان في أيجاد آليه منطقيه للوصول للحقيقه، وبعد ذلك جاء المنطق التجريبي، وهو منطق يعتمد على التجربه والمشاهده ومن رواد هذا المنطق هو الفيلسوف الأنكليزي فرنسيس بيكون (1561-1626م)، وبعد ذلك جاء المنطق الرياضي، ويدعى كذلك المنطق الرمزي، والذي يرجع ظهوره الى (لايبنتيس)، وثم (جورج بول) (1815-1864)، وكل ذلك من أجل أن يصل الأنسان الى أكبر دقه ممكنه في نيل الحقيقه، وتقليل نسبة الخطأ في قرارات الأنسان وما يدعيه من حقائق .

نستطيع أن نستخلص مما ذكرنا أعلاه أن آلة المنطق هي آله نصل من خلال تطبيقاتها الى الحقيقه كما هي، ووضع حد لكل الترهات والخرافات، والعصبيات القائمه على هوس النفوس وأمراضها، وكل الطرق الغير نزيه التي تحاول الألتفاف على الحق، وغبن أهله، وعدم السماح للباطل بالأختباء وراء الكلمات المظلله. من الملاحظ أن المنطق يعتمد في ألياته على مسلمات عقليه، والتي تسمى بديهيات، وهي أمور يسلم بها العقل، ويتفق عليها الجميع، ولا يمكن للأنسان نكرانها،لأنها أسس وعلاقات منطقيه ينطوي عليها العقل السليم، وعن طريقها يمكن للأنسان أن يصل الى نتائج يصعب على الأخر المختلف نكرانها بأعتبارها من المسلمات الطبيعيه . هذا المنطق الحديث وضع حداً لكثير من الأنتهاكات والتجاوزات التي حدثت بين بني البشر نتيجة أختلاف مصالحهم وتقاطع رغباتهم، وحقنت الكثير من الدماء وحفظت الكثير من الحقوق، بل وتقدم الأنسان الى الأمام في كثير من الحقول في ميادين العلم المختلفه.

في القضايا العلميه هناك ضوابط وتعليمات لا يمكن تجاوزها لذى باتت الضوابط المنطقيه صارمه ولا تقبل الجدل فيها، لذلك بقت بعيده عن التلاعب والمزاجات، لكن المشكله أن المواقف اليوميه للأنسان في كل مجالات حياته، سواء فيما يخص أعتناق مبدأ،أو بالدفاع عنه، كما في العلاقات العامه، وفي الموقف من الأوضاع السياسيه، وحتى الشخصيه، وينسحب الى الموقف من التاريخ والمعتقد الديني والأنتماء الحزبي، وحتى المناطقي، وفي الحقيقه في كثير من تفاصيل الحياة التي تتطلب موقف معين من الأنسان، تعتمد بشكل كبيراً جداً ويكاد يكون مئه بالمئه على ما تعكسه المشاعر، وما تقرره الرغبات، وما تختاره الأمزجه، ولا ننسى المصالح، والتي تلعب دوراً كبيراً في تقرير المواقف للأنسان، وبما أن المشاعر والرغبات والمصالح مختلفه بين بني البشر، لذى أسس ذلك الى بروز الصراعات والأحتلافات بينهم، والذي أدى في كثير من الأحيان الى مصادمات دمويه، والى حروب أمتدت حتى لعشرات السنين، وراحت ضحيتها ملايين من البشر .

هذه الأيام بالحقيقه ونحن نعيش حاله من الشحن الطائفي، والحزبي، والمناطقي، والأثني، تكون للنزعات الغرائزيه الدور الأكبر في تقرير المواقف، حيث تشحن النفس بالحقد والكراهيه، مما يؤدي الى حاله من الشد المجتمعي يغيب فيه العقل غالباً قي تبني المواقف وأتخاذ القرارات، حتى أن تحليل الأحداث السياسيه والأجتماعيه لا تخضع للعقل، بل يكون التعصب هو الحاكم في تبني المواقف. فمثلاً في مجتمعنا تتبنى الكثير من المعتقدات على أساس عاطفي، وتلعب المشاعر دوراً رئيسياً في ذلك، لذى ترى أصحاب الأيديولوجيات المختلفه يختلفون في كل شيء، ويصعب أن يلتقوا في نقطه مشتركه واحده، لذى ترى مسيرتهم مليئه بالصراعات والصدامات، والتي تتخذ غالباً شكل الصدامات والتي تصل الى حد التصفيه الجسديه، وهذا ما لمسناه في تصفية البعثين للشيوعين والأسلاميين في العراق، والتي أتخذت شكل الأغتيالات الجسديه وحكم الأعدام على المخالفين، والتي وصلت أعدادهم بالآلاف، حتى وصل العنف الى درجة التوحش المفرط، فأخذ الخصم يقوم بأعمال بشعه، من مثل الأعدام بالتيزاب، وقطع الرؤوس بالسيف والدفن بالشفلات بمقابر جماعيه، وهذه أقسى أنواع الساديه التي قام بها أنسان بأتجاه آخر مخالف له بالرأي والأعتقاد. لم تكن المواقف المتشنجه والمتعصبه تنحصر في المجال السياسي أو الديني، بل نراها بوضوح بالحياة العامه، وبين عامة الناس، وخاصه في المجتمعات الجاهله، حيث تلعب الحاله النفسيه للشخص الدور الأعظم في تشكيل مواقفه أتجاه الأخرين، فمثلاً الشخصيات الأنانيه، والتي تعاني من أعتلال نفسي، مثلاً الذي يعاني عقدة النقص، وكذلك من تعرض لغسيل الدماغ، أو من يعيش بيئه ضيقه، وتربيه متعصبه، تراه متشنج المواقف، وأما من تسيطر عليه نوازع المصلحه تراه متقلب المتبنيات، ويدور دوران مصلحته، وهذا ما ساهم بخلق بيئه وعلاقات قلقه لا يمكن أن تركن الى حاله من التعاون الذي يحتاج الى الأستقرار في المواقف والرؤى بين الأفراد، فترى المجتمع الذي تغلب على أفراده التعصب والجمود الفكري وعقلية المصالح تراه مجتمع قلق ومتشظي البنيان، قابل للأختراق، ينتهي بالضعف والهشاشه، ويمكن من السهل لمس هذا الهزال المجتمعي في مجتمعنا العراقي، وخاصه في فترة ما بعد 2003م .

كما يمكننا الأشاره الى موضوع غايه بالأهميه الا وهو أن منطق المستبدين هو منطق القوه، وأن الحق مع القوه، وقد فلسف لهذا المنطق للأسف من أمثال نيتشه، وحتى هيغل، وفي أحضان هذه الفلسفه تربى هتلر، ومن هذه المدرسه تخرج دكتاتوريون من أمثال صدام حسين، حيث تربوا في بيئه قبليه ذات قيم يكون فيها البقاء والهيبه والمكانه الأجتماعيه للأقوى، وهي البيئه التي تربى فيها معظم الطغاة، كما للأسف أن الشعوب التي تعيش في كنف هذه الأنظمه تتشبه بهم، وتستنسخ من أخلاقهم، وتتمثل بهم، وهذا ما أشار اليه عالم الأجتماع العربي أبن خلدون، حيث يقول (المغلوب مولع بتقليد الغالب) وهذه الظاهره تحولت الى ظاهره واضحه في المجتمع العراقي بعد أن عاش فتره 35 سنه تحت سلطة البعث، الذي مارس القوه والعنف أتجاه معارضيه بأعنف صورها وأوحش أساليبها، واليوم نرى هذا اللون من التعامل العنيف حتى بين أفراد الأسره الواحده، حتى أننا نستطيع وصف المجتمع العراقي، عباره عن حلبة صراع يتصارع فيها الكل ضد الكل، ولا يتوانى كل فرد أو فئه من أستخدام كل الوسائل العنفيه لتحقيق الغلبه على خصمه من أبناء بلده، حتى حدث ما يشبه الحرب الأهليه، سواء بين الطوائف أو القوميات المختلفه، أو بين الفئه والطائفه الواحده، حتى يمكننا القول أننا نعيش صراع الكل ضد الكل، هذا الوضع الشاذ هو من جعل البلد الآن على حافة الأنهيار والتقسيم، حتى أصبح مرتع لكل مخابرات العالم، تسرح وتمرح به وبمساعدة الكثير من أبناءه . هكذا تكون المجتمعات التي يهيمن عليها التفكير التعصبي البعيد عن المنطق، فيرجع القهقري الى بداياته ذات الطابع البدائي، التي تعتمد العنف في تحقيق مطالبها، وهي مرحله يُلغى فيها العقل، ويدخل في أجازه طويله يتخللها الكثير من الهرج والمرج، وضياع كل القيم الرفيعه، وتسوده فيه القيم الوضيعه .

 

أياد الزهيري

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم