صحيفة المثقف

الربط السككي مؤامرة على مستقبل اجيالنا القادمة

في الجغرافية السياسية يعد الموقع من أهم المقومات الجيوستراتيجية التي يعتمد عليها في تقويم قوة الدولة بسبب تأثيره الواضح على وضع الدولة الحالي ومستقبلها، لان الموقع الجغرافي ليس مجرد ارض تقل أهميتها بالتطور الحاصل في ميدان الأسلحة وقدرتها التدميرية بل يتكون من مجموعة عناصر ذات إبعاد إقليمية ودولية [1] . ويعد الموقع موردا من موارد الثروة القومية وفي بعض الأحيان يكون رأس المال الوحيد للدولة [2] .

بالنسبة للعراق فيقع على حافة منطقة " الهارت لاند " التي حددها "هالفورد ماكيندر" في نظريته المعروفة باسم "القوة البرية"، أي ضمن منطقة القوس الداخلي المحيط بقلب الارض، فهو يحتل موقعاً استراتيجياً مهماً في حسابات الدول الكبرى . فكان لذلك الموقع أثر كبير في أحواله السياسية والاقتصادية، مما جعله ممرا للأقوام الغازية أو المهاجرة، وأصبحت له أهمية دولية كمركز للحكم وأثر حاسم في النزاعات الدولية، فقد اتخذ العراق عاصمة لجميع المحتلين [3].

اما الكسندر دي سفرسكي، عالم الجيوبولتيك الروسي فيعتبر ان العراق يقع ضمن منطقة التداخل بين نفوذ القوة الجوية الأمريكية والقوة الجوية الروسية التي تعد من أهم المناطق من الناحية الجيوبولتيكية، فالعراق يشغل موقعاً استراتيجياً يتوسط العالم، مما جعله يقع على أقصر طرق الخطوط الجوية التي تربط الشرق بالغرب والجنوب الآسيوي بأوربا [4].

من الناحية الجغرافية يقع العراق في منطقة الشرق الأوسط في القسم الجنوبي الغربي من قارة آسيا، ، تحده من الشمال تركيا ومن الشرق ايران ومن الغرب سوريا والاردن، ومن الجنوب الغربي السعودية، ومن الجنوب الكويت والخليج [5] . إن موقع العراق هذا جعله يحتل أهمية استراتيجية بالغة، ويشكل جسرا أرضياً يربط الخليج بالبحر المتوسط عبر سوريا التي تمثل مدخلا للشرق الاوسط من جهة والبحر الاحمر عبر الاردن من جهة أخرى، بيد أن الذي زاد من أهمية موقعه الجغرافي هو قربه من الاسواق العالمية، ، فالسيطرة على هذا الطريق تعني السيطرة على حركة الملاحة والتجارة.

من خلال دراسة الخرائط للتجارة الدولية نجد أن موقع العراق يقع في عقدة خطوط الموصلات، فكل طرق التجارة البرية بين الشرق والغرب تمرُّ حتماً من خلاله، وأن خطوط الغاز المستقبلية سواء أكانت ضمن مشروع نورث ستريم الروسي أو مشروع نابكو الأمريكي تمرُّ خلاله أيضاً، وأن مشروع مد أنابيب الغاز القطرية إلى أوروبا عبر تركيا يجب أن تمر من خلال العراق بحيث إن الاستثمار الصحيح لهذا الموقع يمكن إن يحول البلاد إلى أهم بقعة على وجه الكرة الأرضية، فالاستثمار القائم على أسس علمية يمكن أن يغيّر من خارطة النقل البحري العالمية؛ لأنه سينقل البضائع من جنوب شرق آسيا إلى أوروبا عبر العراق .

مع طرح الصين لخطة الطريق والمحور عام 2013 والتي تمثل إعادة احياء طريق الحرير القديم والذي كان يمتد من الصين الى موانئ البحر الأبيض ومنها الى اوربا تركزت عقدة المواصلات البرية في العراق . فالعراق يرتبط بالأردن وسورية والمملكة العربية السعودية بعقدة المواصلات البرية المعروف بـاسم "الطريق الدولي السريع رقم 1"، وهو طريق إستراتيجي طويل ومعقد ينطلق من أقصى جنوب العراق حيث الموانئ في البصرة، وينتهي بنقطة التبادل التجاري مع المملكة الأردنية الهاشمية في منطقة طريبيل - الرويشد، مع خطوط فرّعية تصل إلى مدينة القائم العراقية كنقطة عبور مشتركة مع سورية، وأخرى مع المملكة العربية السعودية جنوباً إلى (معبر عرعر). ينقسم الطريق الدولي إلى (9) ممرات تجارية سريعة، ويبلغ طوله الكلي داخل العراق 1200 كلم ويمر بأربع محافظات وتسع مدن، ويقطع أراضي محافظة الأنبار الصحراوية الشاسعة، ويصل إلى بغداد عبر طريق الفلوجة – عامرية الفلوجة – أبو غريب فيما يتصل بالطريق الدولي الاستراتيجي الجنوبي الواصل إلى الموانئ البحرية في البصرة، عند عقدة مواصلات (جنوب غرب العاصمة بغداد – شمال غرب محافظة بابل)، ويتصل بالطرق الإقليمية (M5) و(M30) و(M40). يرتبط العراق مع دول الجوار بعدة معابر حدودية . هناك 11 معبر مع ايران هي معابر "حاج عمران، معبر باشماق ومعبر برويز خان منافذ الشلامجة والشيب وبدرة وزرباطية والمنذرية ومندلي وسومار". ومع تركيا هناك أهم معبر بين كردستان العراق وتركيا هو معبر إبراهيم الخليل، الذي يعد أكبر منفذ حدودي عراقي، وتمر من خلاله بضائع تصل قيمتها إلى 5 مليارات دولار. هناك معبرين مع سوريا هما "ربيعه والقائم " ومع السعودية هناك معبر "عرعر" ومع الكويت معبر "سفوان " ومع الأردن معبر "طريبيل " . بالإضافة الى الطريق البري هناك خطوط السكك الحديدية والتي تشمل سبعة خطوط رئيسية هي : خط بغداد – صلاح الدين (سامراء) و خط بغداد – الانبار (الفلوجة) وخط بغداد – صلاح الدين - الموصل (ربيعة) وخط بغداد – بابل (الحلة) وخط بغداد – بابل - القادسية (الديوانية) وخط بغداد – بابل - القادسية – المثنى (السماوه) وخط بغداد – بابل - القادسية - المثنى -البصرة . بالإضافة الى إمكانية إعادة تشغيل خط السكك الحديد بين العراق، وتركيا، والموجود عبر خط يمر عن طريق مدينة قامشلي السورية، ويمر في الأراضي السورية، بحدود (50-40) كيلو متر، وهو ينطلق من بغداد، إلى قامشلي، ومن بعدها يصل إلى إسطنبول في تركيا . شبكة النقل العالمية بين الشرق والغرب (شرق أسيا واوربا) سوف لن تتكامل من دون مرورها عبر الاراضي العراقية سواء أراد العراق أن تكون موانئه هي المحطة التي تستقبل هذه البضائع أو كانت موانئ الدول المجاورة والقريبة هي الموانئ المستقبلة له.  حاليا يمتلك العراق ستة موانيء هي ميناء ام قصر، ميناء خور الزبير، ميناء البصرة النفطي، ميناء خور العمية، ميناء أبو الفلوس، وميناء المعقل، للوصول الى هذه الموانيء يجب المرور من خلال خور عبدالله . مع اقتراب ميناء "مبارك" الكويتي العملاق من الاكتمال وقرب تدشينه، ليقطع بذلك الممر المائي العراقي في خور عبد الله أو ليُضَيِّق عليه بشكل خطير، ومع إنشاء الكويت لمنصة بحرية جديدة في منطقة "فيشت العيج" وسط ذلك الخور أصبحت الموانيء العراقية مهدده بالاغلاق وهو ما تسعى من اجله الكويت .

يعدُّ ميناءا تشابهار وجوادر من أكبر الموانئ تاثيراً على الوضع الاقتصادي والجيوسياسي في المنطقة فهذان الميناءان بإمكانهما تقليص دور موانئ الإمارات العربية ولاسيما ميناء جبل علي؛ ومن هذا المنطلق ركزت الصين كل جهودها على الاستثمار في ميناء جوادر الباكستاني الواقع بين بحر العرب وخليج عمان ويعدُّ أقرب ميناء إلى الصين حتى من الموانئ الصينية نفسها، فضلاً عمّا يمتاز به من عمق بحري، وقد حصلت الصين من الباكستان على عقد استثمار لميناء جوادر لمدة أربعين عاماً؛ وبذلك تتخلص الصين من عنق الزجاجة الذي من الممكن أن يخنقها في أي وقت والمسمى خليج ملقا، وتبلغ المسافة من إقليم تشينجيانغ الصيني إلى الخليج حوالي 3000 كيلومتر، وقد استثمرت الصين حوالي 46 مليار دولار، وتتحمل قطر حوالي 15% من إجمالي الاستثمارات في ميناء جوادر.

أما ميناء تشابهار الإيراني فيحتوي على مرفأين، هما: مرفأ شهيد كالانتار، ومرفأ شهيد بهشتي، ولكل منهما خمسة أرصفة، وتعمل الذراع الاستثمارية للمشروع التابعة لوزارة الشحن -الهند بورتس غلوبال- على إقامة شراكة بين شركة (جواهر لال نهرو بورت تراست) وميناء (غوجارات كاندلا بورت)؛ لتطوير ميناءين للحاويات بطول 640 متراً، وثلاثة أرصفة متعددة الشحنات باستثمار 85 مليون دولار أمريكي.وتزداد أهمية ميناء تشابهار للهند لأنه يمكنها من تجاوز باكستان في نقل البضائع إلى أفغانستان، وهو يعدُّ المدخل الرئيس لممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي يضمُّ خطوطاً بحرية وبرية بين الهند، وروسيا، وإيران، وأوروبا، ووسط آسيا؛ وهذا سيعود بالنفع على الهند، ويزيد حجم استيراد خام الحديد والسكر والأرز، وستشهد تكلفة استيراد النفط للهند انخفاضاً كبيراً، وزادت الهند بالفعل من شراء خام النفط من إيران منذ رفع الحظر المفروض على إيران، وسيساعد الميناء على تخطي الوجود الصيني في بحر العرب .

ان كلا الميناءين تشابهار وجوادر يعتمدان في اهميتهما على المرور في الطرق البرية والسكك الحديدية في العراق والتي تربط بين سواحل الخليج وبين منطقة ميناء العقبة في الأردن وميناء طرطوس في سوريا على البحر الأبيض المتوسط، وكذلك تربط بين مشروع "الكويت الجديدة 2035" ومشروع (نيوم - Neum) السعودي العملاق على البحر الأحمر والذي يشمل مد طريق بري الى مصر عبر جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر الذي يجعل من الطريق الدولي العراقي طريقا دوليا استراتيجيا مهما . بالنسبة للطريق الى تركيا فقد اقترحت كل من تركيا وقطر مشروع لنقل البضائع ينطلق من تركيا الى ميناء أم قصر العراقي ومنه إلى "ميناء حمد" القطري . فاذا علمنا ان تكلفة نقل الطن الواحد من البصرة الى الحدود التركية تبلغ "500 دولار امريكي " فبامكاننا ان نتصور حجم العائدات التي ستدخل الى العراق يوميا والتي ستفوق عائدات النفط .

ان الاستفادة من هذه العائدات المهولة مرتبط بالإدارة الحكيمة للموقع الاستراتيجي فالاستثمار في إنشاء القناة الجافة التي يمكن أن تتكون من خطوط سكك حديدية، وطرق مواصلات سريعة لنقل البضائع سيكون بديلاً عن قناة السويس، بحيث يتم الربط السككي بين الموانئ العراقية إلى الحدود السورية في ربيعة، ليمرَّ في الأراضي السورية وصولاً إلى الرابط بالمنفذ الحدودي التركي مع سورية، بطول متباين يتجاوز 1120 كيلومتراً؛ وبذلك فإن الهدف كبير وتكاملي ليتعزز الربط مع الشبكة العالمية للسكك الحديد داخل الحدود التركية؛ لذا يجب الإسراع في إنشاء ميناء الفاو الكبير وربطه بميناء تشابهار الإيراني والربط مع ميناء جوادر الباكستاني سيوفر بديلاً برياً رخيصاً عن النقل البحري المكلف عبر ميناء جبل علي الإماراتي، أو ميناء حمد القطري، وحتى ميناء مبارك الكويتي، ولعلَّ هذا الأمر يفسر حجم التآمر الذي يتم لتعطيل إنشاء ميناء الفاو الكبير، بل إن الأمر وصل إلى محاولة الحصول على عقود استثمار للموانئ العراقية من قبل شركة موانئ دبي الذي يُخشى في حال حصوله على إصابة الموانئ العراقية بما أُصيب به ميناء عدن.

ولمعرفة حجم التامر على الموانيء وخطوط النقل العراقية يكفي ان نعلم ان الكويت التي انفقت على ميناء مبارك حوالي ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار ليست بحاجة فعلية للميناء المذكور بل ان المخطط له ان يكون هذا الميناء بديلا عن الموانيء العراقية الواقعة شمال خور عبدالله والسيطرة مستقبلا على حقل السيبة الغازي . الا انهم يعرفون ان ميناء مبارك لن يكون له مستقبل الا بربطه سككيا بالقطارات مع القناة الجافة السككية العراقية، لذلك يبذل الكويتيون قصارى جهدهم للحصول على قرار عراقي للربط السككي مع الميناء الكويتي. لتتحول إيرادات النقل للكويت ويحصل العراق على فتات رسوم الترانزيت وحتى هذه لن نحصل عليها بوجود اتفاقيات الإعفاءات الكمركية بين الدول العربية حيث ان مشروع الكويت 2035 سيحول الإنتاج الى جزيرة بوبيان الكويتية .

ان من يوافق على مشروع الربط السككي بين ميناء مبارك والقناة الجافة العراقية لايسرق من أموال الأجيال الحالية فقط بل من الأجيال القادمة ليحولهم الى عمال تحميل لخدمة الكويت واي شريف يفكر بمصلحة العراق عليه ان يعمل على تسريع إنجاز ميناء الفاو الكبير وربطه بالقناة الجافة العراقية التي يجب ترميمها وتحديثها وتحويلها الى الطاقة الكهربائية والسكك والقطارات المتطورة و تحسين أداء شط العرب العراقي وتوسعة وتعميق مجراه نحو الغرب.

 

زهير جمعة المالكي

..........................

المراجع

كاظم هاشم نعمه، العلاقات الدولية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، بغداد 1987م، ص154.

جمال حمدان، شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان، ج2، عالم الكتب، القاهر ه، 1981م, ص26.

عباس فاضل السعدي، جغرافية العراق اطارها الطبيعي ـــ تشاطها الاقتصادي ـــ جانبها البشري، الدار الجامعية، ط1، الجامعة العربية للطباعة والنشر، بغداد، 2009، ص7.

محمد أحمد المومني، استراتيجيات سياسة القوة، دار الكتاب الثقافي للنشر، الاردن، 2006، ص47.

طلعت محمد طاهر البوتاني، الامن الغذائي العراقي بمنظور الجغرافية السياسية، أطروحة دكتوراه، كلية التربية، جامعة الموصل، 0211، ص1.

 

 زهير جمعة المالكي

............................

[1] كاظم هاشم نعمه، العلاقات الدولية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، بغداد 1987م، ص154

[2] جمال حمدان، شخصية مصر- دراسة في عبقرية المكان، ج2، عالم الكتب، القاهر ه، 1981م, ص26.

[3] عباس فاضل السعدي، جغرافية العراق اطارها الطبيعي ـــ تشاطها الاقتصادي ـــ جانبها البشري، الدار الجامعية، ط1، الجامعة العربية للطباعة والنشر، بغداد، 2009، ص7

[4] محمد أحمد المومني، استراتيجيات سياسة القوة، دار الكتاب الثقافي للنشر، الاردن، 2006، ص47.

[5] طلعت محمد طاهر البوتاني، الامن الغذائي العراقي بمنظور الجغرافية السياسية، أطروحة دكتوراه، كلية التربية، جامعة الموصل، 0211، ص1

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم