صحيفة المثقف

إعادة تدوير القضايا!

منى زيتونفي يوم السبت 29 أغسطس 2020، فوجئ المصريون المتابعون للشأن العام، بخبر عجيب مريب، بقبول طعن النيابة العامة أمام محكمة النقض على تبرئة محكمة الجنايات للفريق أحمد شفيق رئيس وزراء مصر الأسبق والمرشح الرئاسي السابق في قضية "جمعية خدمات مصر الجديدة الأهلية (مشروع حديقة الأسرة)" والمعروفة إعلاميًا باسم "فساد وزارة الطيران"، وذلك بعد أكثر من سبع سنوات من صدور الحكم له بالبراءة فيها عام 2012!

يُذكر أن الفريق أحمد شفيق قد شغل منصب رئيس الوزراء أثناء ثورة 25 يناير 2011، وترشّح في الانتخابات الرئاسية التي عُقدت عام 2012، في الدور الأول أمام اثنا عشر مرشحًا، ثم في دور الإعادة أمام منافسه الدكتور محمد مرسي. والأهم أنه أعلن ترشحه أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية عام 2018 عندما كان يقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، قبل أن يُنقل إلى القاهرة على غير إرادته للضغط عليه للتراجع عن الترشح، والذي كان!

وبدأت التكهنات والتساؤلات على الفور بأسباب فتح قضية لا وزن لها بعد سبع سنوات من الحكم فيها بالبراءة، وسريعًا ما انجلى الأمر؛ فبعدها بأيام تم القبض على رجل الأعمال البارز صلاح دياب وتوجيه اتهامات فساد له هو الآخر، وتتردد أقاويل عن لقاء على عشاء عمل جمع الرجلين –شفيق ودياب- بفيلا صلاح دياب بمنيل شيحة، قبل أيام من فتح القضايا لهما، وتحديدًا يوم الاثنين 24 أغسطس، ولم يقتصر الحديث بينهما فيه على الاقتصاد، بل سب الرجلان الرئيس واتفقا على وصفه بـ "العبيط".

وقد ظننا أول الأمر بعد قرار إعادة محاكمة أحمد شفيق أن القضية المعنية هي القضية المعروفة إعلاميًا باسم قضية "أرض الطيارين"، ولكن اتضح أن القضية التي قرر رجال السيسي إعادة محاكمة شفيق بسببها هي قضية "مشروع حديقة الأسرة"!

مشروع حديقة الأسرة

بدأت السبت 5 سبتمبر 2020 إعادة محاكمة الفريق أحمد شفيق بدعوى إهدار أموال وزارة الطيران والإضرار بالمال العام بمبلغ يُقدر بـسبعة (7) ملايين جنيه.

والسبب الذي وجهت المحكمة للفريق أحمد شفيق الاتهام على أساسه بالفساد هو إعطائه الأمر أثناء ترأسه وزارة الطيران بتمويل إنشاء حديقة الأسرة بألماظة بعد اتفاق وقعته الوزارة مع جمعية خدمات مصر الجديدة الأهلية.

وحديقة الأسرة هي حديقة عامة صغيرة، مساحتها الكلية حوالي 33 ألف متر، وأنشأتها وزارة الطيران في عهد شفيق كمشاركة في الخدمة المجتمعية مع استغلالها في وضع دعايات لشركة "مصر للطيران".

وكان المحامي الإخواني عصام سلطان هو أول من اتهم الفريق أحمد شفيق بالفساد لأجل هذا السبب؛ بدعوى أن وزارة الطيران ليست مسئولة عن إنشاء حدائق عامة، حتى لو استغلتها في الدعاية والإعلان عن نشاطها! رغم أن هذا الأسلوب الدعائي ليس من ابتكار أحمد شفيق، ومعروف ومسبوق على مستوى العالم أن تنشيء إحدى الشركات حديقة أو ميدانًا أو تمثالًا ويصاحب ذلك وضع دعايات للشركة.

فلمن لا يعلم فهذا هو الاتهام العظيم بالفساد والإضرار بالمال العام الذي يُوجه للفريق شفيق الآن، وقد سبق وبرأته محكمة الجنايات من الفساد فيه قبل سبع سنوات!

وقرروا إعادة محاكمته في الاتهام ذاته الآن بعد أن أفلسوا وأعياهم البحث عن سلوك مالي خاطئ له طوال سنوات استوزاره، بنى وافتتح وجدّد فيها مطارات، واشترى وجدّد أسطول طائرات، وكانت تحت يديه مليارات، ولم يجدوا في النهاية شيء يتهمونه به كفساد في فترة وزارته إلا إنشاء حديقة عامة! وإذا لم تستحِ فافعل ما شئت.

قضية أرض الطيارين

ومن قبل ذلك الاتهام التافه عن "فساد الحديقة"! كان الاتهام التافه الآخر الذي صدر له أيضًا حكم بالبراءة فيه عام 2013 بأنه وقّع بصفته –وليس بشخصه- على تخصيص أرض في جمعية "أرض الطيارين" لجمال وعلاء مبارك؛ علمًا بأن التخصيص الفعلي للأرض كان قد تم قبل سنوات تحت إدارة أخرى! حيث أن بداية التخصيص كان في أواخر الثمانينات، والفريق شفيق وقّع على هذا التخصيص بصفته عند تسجيل العقد في التسعينيات، والتخصيص ذاته ليس في إجراءاته أي خلل إداري أو قانوني!

وأراضي جمعية "الضباط الطيارين" هي أراضٍ في منطقة البحيرات المُرة بمحافظة الإسماعيلية، كان قد تم تخصيصها لهذه الجمعية، وهي واحدة من جمعيات أهلية كثيرة تم تخصيص أراضٍ لها في الإسماعيلية في فترة الثمانينات، وكانت أغلبها جمعيات للمدنيين وليس العسكريين.

وبوصفي مواطنة مصرية من سكان الإسماعيلية أحب أن أوضح الموقف بذكر بعض الحقائق عن "أراضي الجمعيات"؛ حيث يُساء إلى الفريق شفيق ويُتهم بالفساد بسببها من آنٍ لآخر، رغم أنه حتى لو كان تخصيص الأرض كان قد قام به الفريق شفيق فلا مشكلة ولا غضاضة إذا علمتم الحال في مدن القناة وقتها.

كلنا يعلم أن سكان مدن القناة تعرضوا للتهجير بعد حرب 1967 وظلوا مُهجّرين حتى بدأ إعمار تلك المدن مرة أخرى بعد حرب 1973، وتحديداً بدءًا من عام 1975 وما تلاها، وقد أسهم الشيخ زايد رحمة الله عليه في تعمير تلك المدن إسهاماً كبيراً، وهو ما لا يفوتني ذكره.

وطبعاً فإن علاقتي بتلك الفترة تأتي من خلال ذكريات وروايات الأهل. ومما يُحكى أن أحد أبناء عمومة أبي رحمة الله عليهما كان وكيلاً لوزارة الإسكان بالإسماعيلية حينها، وأنهم لما بنوا حي "الشيخ زايد" في نهاية السبعينيات لم يُقبل أحد على شراء وحداته السكنية رغم أنها كانت زهيدة الثمن للغاية، حتى أن إحدى نساء العائلة لا زالت تذكر كيف أنه كان يتحايل عليهم حتى يشتروا وحدات سكنية فيها قائلاً: نريد أن نخبر الرئيس -السادات- عندما يأتي للزيارة أن المنطقة قد عمرت، وقالت لي مرة: "كنا نضحك ونقول له: عايزنا نشتري شقق في الجبل؟!!!!". وطبعاً فإن هذه المنطقة التي كانوا يسمونها بالجبل أو "أبو رخم" صارت جزءًا من قلب المدينة الآن.

تلا ذلك إنشاء حي آخر جديد بالمدينة أوائل الثمانينات هو "حي السلام"، ثم حصرت محافظة الإسماعيلية قطع الأراضي الواقعة بين المدينة القديمة وحي الشيخ زايد، والتي كانت تُركت بغير إعمار، وتم عمل مزادين علنيين كبيرين وبيعت قطع الأراضي تلك فيهما للأهالي من المدنيين والعسكريين على السواء. وأخيرًا سمعنا عما عُرف باسم "أرض الجمعيات".

في نهاية الثمانينات والتسعينات أذكر تماماً الحوار الذي كان يدور أمامي عن أراضي الجمعيات والشقق السكنية التي سيتم تخصيصها للمشتركين في تلك الجمعيات التعاونية التي كانت منتشرة في تلك الفترة، وكانت متاحة للجميع. ما عليك سوى أن تدفع مبلغاً زهيداً للحجز، وكان الناس فيها زاهدون كحالهم مع منطقة الشيخ زايد في السبعينات، ولم يكونوا يتقاتلون عليها كما قد يتوهم الناس الآن، بل على العكس كنت أسمع من آنٍ لآخر عمن سحب المبلغ الذي حجز به الأرض أو الشقة، حتى أن أبي رحمة الله عليه عُرض عليه أن يدخل مكان بعض المنسحبين ولكنه رفض.

وبعد سنوات من الانتظار تم تخصيص الأراضي والشقق بالفعل في أوائل التسعينات، والآن فإن هذه الأراضي التي كانت صحراء قاحلة قد عمرت، وصارت كلها عمارات وفلل حديثة، وتحولت المنطقة إلى حي كامل كبير، وندم من لم يشترك ومن سحب اشتراكه.

وخلاصة القول إن مدن القناة كلها -والإسماعيلية خاصة- والطرق المؤدية إليها، كانت تشهد زخمًا تعميرياً بعد العودة من التهجير، وكانت الجمعيات الأهلية التي تخصص الأراضي متاحة للجميع، ولم يكن يتقاتل عليها أحد، بل على العكس، فكون أن علاء وجمال مبارك يخصص لهما أرضًا كما خُصصت لآلاف غيرهما من آحاد الناس فهذا أمر ليس فيه شبهة إلا لدى المتصيدين في الماء العكر، ولا يستحق الأمر القدر من التهليل الذي صاحبه، والإساءة المتعمدة والاتهام بالفساد للفريق شفيق بسبب تلك القضية أو غيرها من التوافه.

وأختم بقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُل ٌرَّشِيدٌ﴾ [هود: 78].

 

د. منى زيتون

الأحد 6 سبتمبر 2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم