صحيفة المثقف

فَنيّةُ الخِطابِ السَّردي التَّعبيري وإشكالياتُ بِناءِ تَركيبهِ اللُّغوي والجَمالي

جبار ماجد البهادلييقول الفيلسوف الألماني الوجودي (هايدجر): " إنّ اللّغة أخطرُ النّعمِ"، وتكمن الخطورة بحسب مدلولات هذا التوصيف، في توظيف إيجابياتها غير المحدودة وسلبياتها التأثيرية غير المحمودة التي تقع على الأديب المُرسل والمتلقي المُرسل إليه، في تكثيف الخطاب اللُّغوي وتجميله.

والخطاب النصّي الإنساني خطاب شمولي أيّاً كان نوع جنسه الأدبي، شعرياً أم نثرياً، وهو بمجمله خطاب لغوي بامتيازٍ، كونه  ظاهرةً كونيةً  أكبر -إشارياً وصوتياً- دالاً عن الحياة الاجتماعية والثقافية لفكر الإنسان في شتّى أرجاء الكون. ولا نختلف هنا في هذا المقام التوضيحي مع منظور ابن جنّي في حدِّ تعريفه  الموجز لمفهوم اللّغة، "بأنها أصوات يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم ".

وقد تكون اللّغة نسقاً إشارياً صريحاً كما نفهمها من قول الجاحظ المأثور: "وربَّ إشارةٍ أبلغُ من عبارةٍ" في التعبير الأسلوبي البلاغي، لأنّ الإشارة تُغني بدلالاتها الموحية عن العبارة، ومن غير شكٍّ أنّ أدوات هذه اللّغة هي الألفاظ الدالة على ذواتٍ ومعانٍ، لأن لكلّ ذاتٍ، وكلِّ معنىً لفظاً أو أكثر من لفظٍ يوضّح له عند التعبير. وهذا يشي القول بأنّ دلالة ألفاظ الكلام لها وجهان في التعبير عن المدلولات الذهنية، الوجه الأول: فإذا كان الدال من الألفاظ التي يعبّر بها عن المعنى باللفظ الذي وضع له في الكلام حينئذٍ يسمّى حقيقةً. والوجه الثاني: إذا كان الدال من الألفاظ التي يراد به غير المعنى الذي وضع له في أصل حقيقة اللّغة، فيسمّى الكلام حينئذٍ مجازا أو تعبيراً مجازيا لغوياً. لأنّ اللّغة -أساساً- هي رموز تعبّر عن فكر الإنسان الخلّاب، وهي ليس وعاءً لفكرةٍ ،أو هي كساء يُسربله، بل هي أدة المبدع أكان شاعراً أم ناثراً؟ وهي وسيلته التعبيرية الشاخصة الأولى في الكشف والتجديد والتعريف والتبيان والإفصاح عن المبهم من مكنونات اللّغة وخزائن دُررِّها المعرفية العميقة.

وفي ظلّ هذا المنظور اللّغوي المعماري لهندسة اللّغة وطوبوغرافيا توزيعها المُناخي الحيوي يستقبل الكاتب أو السّارد الألفاظ ويحتضن الكلمات بحنوٍّ، وَيُمعِنُ التأمّل فيها جيّداً، ثمّ يُعيد تشكيلها اللّغوي، وقد يضطر قصدياً إلى تغيير جوهر صياغتها التركيبية بأسلوبه المحكم، فيُحطِّم أنسقتها المعجمية المقيّدة التالفة، ويكسر أغلال نظامها العربي المألوف للمتلقي، أو القارئ من خلال بنائه التوليدي الجديد الذي يخترق به المألوف القياسي. فيخلق لنفسه أسلوباً جديداً، ويبتكر له نظاماً معرفياً خاصّاً به في عمليه التحوّل الإبداعي الفّني وسيرورة الاتباع اللّغوي التراثي المأثور.

ثمّةَ ظلٌ لساني آخر أنّ لكلّ كاتبٍ ساردٍ أسلوبه المائز في الإنتاج عن غيره. وهذا التمايز يوحي بأنّ الأسلوب التعبيري، (هو الرجل)، كما يذهب إلى ذلك بوفون الفرنسي. وإنْ كنّا قد نختلف معه في هذا التوصيف المعرفي في النقدية الحديثة، لأنّ الأسلوب قد يكون هو الكاتب بمعناه الإبداعي  وليس الرجل بمعناه العرفي المعجمي، كما أنّ لِلُغةِ المبدع أو السارد خاصتينِ أساسيتينِ يُميزانه في اسلوبيته التعبيرية الإبداعية عن غيره وهما: خاصية اللفظ، وخاصية المعنى،أي إنتاجية(الشّكل والمضمون)، وهما اللّتان تشكلان مصدراً مهمّا من مصادر مرجعيات ثقافته الإنجازية، لأنّ أنساق الجمال اللّغوي أو الأدبي ترجع إلى هاتين الخاصتين، وما ينتج عنهما، أو يتّصل بهما من مكملات الإبداع اللّغوي التي تشكّل مِهمازاً فكرياً راجحاً اقتفى أثره الكاتب المبدع والمثابر.

وفي حقيقة الأمر أنّ اللّغة بوصفها مقياساً أساسياً مهمّاً ومباشرا ًفي كيفية التمييز بين لغة الشّعر ولغة النثر تقتضي من السّارد المنتج في فنيّة التعبير اللّغوي والجمالي أن يتجاوز-بخطواتٍ وئيدةٍ ثابتةٍ- مرحلة التعبير التقليدية إلى مرحلة كيفية التعبير الفكري الفنّي عن مدلولات الأشياء الحسيّة والمجردة في الإبداع والكشف عن أنساقها ومرجعياتها الثقافية الظاهرة والمضمرة.

وحين نتحدّث عن اللّغة في الأدب عامةً، وفي فن التسريد النثري بصفةٍ خاصةٍ يقيناً أنّنا نعني بها اللّغة المعرفية في خصائصها الفنّية العميقة في مدلولاتها المعجمية والبلاغية القريبة والبعيدة. والغنية بألفاظها وجمالها وثراء طاقاتها الإيحائية والصوتية والسيميائية المؤثّرة، والتي تشكّل حمولات الكتابة الإبداعية في مدخلاتها النصيّة، ومخرجاتها التراسلية  النصيّة  لدى الكاتب في فنيّة مجالات التعبير، سواء أكانت على مستوى التركيب اللّغوي اللّفظي أم على مستوى التأثير النفسي والجمالي الذي تحدثه في المتلقي في بنية الخطاب السّردي الذي يؤسّس لتأثيث مشروعٍ فكريٍ جديد في هرمنيوطيقيا السّرد الإنتاجي والتأويلي لفنيّة التعبير، ويلغي الأنساق التالفة ؟

وبناءً على هذا التأسيس الفكري الذي تحتفل به أبجديات اللّغة الحديثة في معطياتها وآفاقها الثقافية والمعرفية الواسعة، كونها تمثّل المادة الأساسية للأدب والشعر الإبداعيينِ، فإنّ الثيمة الموضوعية أو الفكرة المتوخاة، لا تعدّ قائمةً أو موجودةً في مجسّات الرسالة النصيّة، إلا إذا اخترت اللّفظ المناسب في مدلولاتها السياقية المنتظمة. وهنا يُحوّل السّارد البارع وظيفة اللّغة الأساسية من وظيفةٍ ثابتةٍ تقليديةٍ، إلى وظيفةٍ حركيةٍ تجدّديةٍ، أي يُصيّرُ بناءها التوظيفي من أداةٍ أو، وسيلةٍ للتعبير اللّغوي اللّساني إلى وسيلةٍ إنتاجيةٍ مبتكرةٍ للإبداع الفنّي المتجدّد. كما أنها لا تعطي إشاراتٍ حقيقيةً عن رؤية الإنسان الفنيّة في جماليات الخطاب السّردي، ولا تُعبّر عن فلسفته الفكرية في حيز وجوده الكوني بالحياة إلّا إذا كانت مرآةً عاكسةً للحقيقة نابضةً بالحياة، متدفقة ً بروح العصر وتجلياته المرحلية، حينئذٍ تكون لغةً سرديةً نثريةً حقّةً. والسارد الحاذق المبدع المجدّ بأدوات لغته التعبيرية، هو الذي يرصد بدقةٍ الألفاظ الرصينة، وينتشل الكلمات المعبّرة العميقة من فضاء معجمها اللّغوي القياسي المعرفي ويستلّها كلمةً كلمةً، كما تُستَل الشعرة من العجين، لكي يُعيد بناءها من نسج ظلالها القديم ويكسوها حُلةً جديدةً من قشيبه الفكري في نسيج لغوي محكمّ مُحمّلٍ بطاقاتٍ إيحائيةٍ كبيرةٍ وحاشدةٍ بالشحنات التعبيرية والفنيّة والجمالية والروحية.

ويُشكِّل تمثلاتها وتمظهراتها ومهيمناتها الأسلوبية تشكّلاً جديداً منتظماً يتناسب مع واقع الحياة المعاصرة المعيش، أو المعاش بكلّ أشكاله وأذواقه المجتمعية، وبذلك تكون لغة السّارد الأدبية عميقةَ الارتباط بموقف الكاتب الفنّي من الحياة ورؤيته الجمالية والفكرية والتعبيرية لها. لأنّه مُطالب أن يواجه هذه الحياة وأن يخرج من رحم أديمها الضارب بقوّة التعبير والإرادة.

وعلى الرغم من ذلك السعي اللّغوي الحثيث، فإن السّارد أو الشّاعر وجد نفسه مُحاطاً بلغتين مختلفتين الأولى: هي  لغة التراث العربي القديم المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأدب والشّعر القديم، والثانية: اللّهجة العامية الدارجة المستعملة في لغة التعامل اليومي الحياتي المألوف، ووقف المبدع أمامهما مُحايداً بين القبول أو الرفض المطلق، بيد أنّه اهتدى فكريا إلى استخدام وتوظيف لغةٍ وسطيةٍ تجمع بين ظلال الفصحى والعاميّة، وبلا شكٍّ أنها لغة وسطية مُيسّرة مفهومة وموحية ومعبّرة عن لغة الصحافة بصفتها الوسطية، وعن الذات الأديبة، وعن روح العصر. تلك هي لغة الحياة الجديدة الراقية التي ترفض جفاف الفصحى الميّتة المتحجّرة بتقعِّرها اللّغوي المجافي لروح العصر، كما ترفض بشدّةٍ إسفاف توظيف اللّهجة العاميّة المبتذلة التي لا يقبلها حتّى الذوق الطبيعي العرفي لجمهور عامة الناس.

وسارد الخطاب النثري كما هو الشّاعر المبدع، لا يمتلك في تعبيره اللّغوي من أدواته سوى (الكلمة) التي تتركّب منها العبارة والجملة، وتتخلّق منها الصورة الفنّية تخلّقاً رفيعاً، ويتحقّق بها جمال الأسلوب الّلغوي شعراً ونثراً. ومن وحيّ جلالة الكلمة الحقّة تتوالد موسيقى الألفاظ العذبة المدهشة، والمموسقة باتساق صورها ومشاهدها لوقائع الأحداث المؤثّرة بأسلوبٍ إيقاعيٍ تعبيريٍ يتناغم فنيّاً وجماليا مع ثيمة الحدث أو الفكرة، مع قدرٍ كبيرٍ من التوثيق في اختيار هذه الأداة التي تكوّنَ منها البناء اللّغوي السّردي الفنّي والجمالي لبنية الخطاب الحكائي للرواية، أو، القصّة،أو قصيدة النثر الشّعرية أو المسرحيّة.

ومثل هذا (التّضام البنائي) المتوالد الألفاظ، المرصوص للكلمة هو ما سمّاه–في النقد  البلاغي قديماً- عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم اللّغوي باسم (التّضام أو النّظم)، والذي يقع صنعه وإنتاجه اللّغوي على عاتق الكاتب، وعلى مهارته اللّغوية في إيجاد لغةٍ جديدةٍ من النظم والتأليف، وإعادة بناء الإنتاج الفكري. وهذا القول برمّته يُحيلنا إلى أنّ الكلمة ليست مجرد وسيلةٍ لغويةٍ تُبرّر الغاية في عمليه التعبير السّردي أو الشّعري فحسب، وإنّما هي أداة فاعلة لتحقيق غاياتٍ كثيرةٍ منشودةٍ من الطاقات الإيحائية والتعبيرية المتخلّقة التي يتخطّى بها معرفياً، أو يتجاوز بتآلفها اللّغوي ما تعارف عليه الناس في حياتهم اليومية. وبذلك تتحوّل اللّغة من قوالب جاهزةٍ ووسائل قياسيةٍ راكدةٍ إلى معادل موضوعي يُماهي ذهنية الشّعور الفكري والنفسي للكاتب، لتمنحه في النهاية التعبير اللّغوي الفنّي الجيّد، ولا يمكن أن نظنّ اليوم أن إيحاء الكلمات ودلالاتها السياقية البعيدة، هو شيء في مستحدث النقدية الحديثة، وأن عمل الكاتب أو السّارد الحديث بتقنية الاقتصاد اللّغوي وتوفيره في فنّ التسريد هو شيء حداثوي، بل إنه من الظواهر النقدية اللّغوية القديمة التي فطن إليها النقّاد العرب القدامى وسمّوها بظاهرة (الإيجاز اللغوي) الذي قال عنه عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) : "إنك ترى في ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون، إذا لم تنطق وأتمّ ما تكون مُبيناً، إذا لم تُبِن".

وكذلك الأمر أيضاً مع موحيات علوم لغة الإشارة وهو ما نسمّيه اليوم في المناهج النقدية الحديثة أو المعاصرة ب(السيميائية) أو بمنهج  (سيمياطيقا) الإشارة التي تنبّه إليها قديماً ابن رشيق القيرواني في كتابه (العمدة) وقال عنها : "هي في كل نوعٍ من الكلام لمحة دالة واختصار وتلويح يعرف مجملاً، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه "، وهنا في هذا المجال الأسلوبي المتراتب تظهر براعه الأديب المثابر ومهارته اللغوية الفاحصة في اختيار كلمةٍ مؤثّرة مناسبةٍ فاعلةٍ دون أخرى من الكلمات، قد يظنّ أنها تؤدّي دلالياً نفس المعنى الذي تؤدّيه مثيلتها الأخرى في اللّغة.

ولعلّ من بين النماذج الأمثلة الكثيرة التي توضّح بجلاء إشكاليات أساليب الكُتّاب الخاطئة في صياغة مستويات البنية التركيبية اللّغوية والجمالية التعبيرية، والتي اخترت مجملها من أعمال روائيةٍ وقصصيةٍ سرديةٍ، وقصائد نثريةٍ عديدةٍ، لكُتّابٍ وأدباءٍ مختلفينَ في مستوياتهم الفكرية والإبداعية التي أصبحت اليوم في لغتنا (لغة الضّاد) خطأً شائعاً يفرض نفسه على الأسلوب الشعري والنثري بحجّة أنه من الصحيح الضائع أو المهمل. حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يكتب بلغة (أكلونِي البَراغيثُ)، فيأتي بفاعلين اثنين في تركيب الجملة الواحدة، وهذا مخالف لقواعد النحو العربي في اللغة، كقول أحد الشعراء القدامى غير المعروفين: (يلومونني في حبِّ ليلى عواذلي    ولكنني من حبِّها لَعميدُ). فضلا عن هذه اللامبالاة وعدم الاهتمام بعلامات الترقيم التي توضع بين أجزاء الكلام المكتوب لتوضيح المعنى الكلي، أو الجزئي المقصود، وتفريق الألفاظ التعبيرية الإنشائية مثل،(النقطة، والفاصلة، وعلامة التعجب، وعلامة الاستفهام، والنقطتان الرأسيتان، والقوسان الهلالان، وعلامة التنصيص، والشَّرطة، والشَّرطتان، وعلامة الحذف، والخطّ المائل وغيرها) من العلامات.

يضاف إلى ذلك كلّه عدم التمييز بين همزتي القطع والوصل في الأسماء والأفعال والحروف التي لها قواعدها وأصولها الإملائية المعرفية في اللّغة العربية، وكذلك عدم التفريق في رسم الهمزة المتوسّطة، أو المتطرفة على (الألف أو الواو أو الياء)، أو المفردة على السّطر، فضلا عن رسم وكتابة الخطّ القياسيّ، وغير القياسيّ، أو ما يسمّى بالرسم القرآني الذي تُكتبُ به بعض الألفاظ والكلمات من القرآن الكريم، فيسمّى نوع هذا الخطّ ب(الحذف، أو الزيادة، أو رسم الهمزة، أو البدل، أو الفصل، والوصل). أمّا معاني حروف الجّر التي تدخل على الأسماء، وكذلك الحال مع حروف النصب، وحروف الجزم، فهي الأخرى لم توظّف التوظيف الصائب في الخطاب النصّي السّردي، إلا الشائع منها، وأصبح التمييز بين أدوات الشرط الجازمة وغير الجازمة أمراً غير مفهومٍ يحتاج إلى فهمٍ وتدبّرٍ وإدراكٍ وتفريقٍ،  والحال ذاته ينطبق على معاني أدوات الاستفهام من الحروف والأسماء التي تستخدم مرةً للعاقل، ومرّةً لغير العاقل، وللزمان أو المكان، أو للحال أو للعدد، أو لغيرها، هي الأخرى لن تأخذ نصيبها الأوفى من المراعاة والاهتمام الّلغوي الجاد الصائب في فنيّة التعبير الخطابي المناسب.

واللافت للنظر أنّ الكثير من كُتّاب السّرد الروائي أو القصصي لا يراعون الحالة الإعرابية لأسماء شخصياتهم من الأعلام رفعاً ونصباً وجرّاً عن قصدٍ، أو غير قصدٍ، فيعمد الكثير منهم إلى كتابتها في حالة الرفع ويهمل الحالات الأخرى، مُتذرِّعاً بأّن كِتابتها بالنّصب أو الجر، يكون لفظها غير مموسقٍ، وهذا لا يجوز في اللّغة لمخالفته قواعد الإعراب المعروفة، لذلك يفضّل تركيبيا في هذه الحالة أن يوضع (الاسمُ العَلمُ) بين قوسين هلالين تجنّباً من الوقوع في الخطأ، أو على الحكاية المسموح بها في لغة العامة. والأمر الآخر الذي يحتاج إلى درايةٍ وضبطٍ دقيقين من المُنتج السّارد كتابة الأعداد الرقمية، لا سيَّما إذا كان المعدود مذكّراً أو مؤنثاً فيخالفه، أو يطابقه من حيث الإعراب، وبحسب موقعه الإعرابي في تركيب الجملة، وبالأخصّ إذا كان المعدود جمعاً مذكراً سالماً، أو جمعاً مؤنثاً، أو جمع تكسير، فلا بُدَّ أن يراعى عند الكتابة أصله المفرد قبل الجمع فيؤخذ به لا بالجمع ، مع الأخذ بعين الاعتبار تمييز العدد من المعدود، وكيف يتمّ تعريفهما ب(أل) التعريف من عدمه.

فمن نماذج تقويم اللّسان التي ارستها الألفاظ في تعابير كُتّاب السّرد، أو غيرهم في الإشادة بشخصياتهم المهمّة ،قولهم:(رجالٌ أكَفَّاء)، بتشديد الفاء وفتحها مع فتح الكاف، وهي جمع تكسير، وعيبٌ خَلْقِي بمعنى عِميان، مفردها كفيف أو بَصير، والأصحّ أنْ نقول: (أكْفَاء)، بفتح الفاء من غير تشديد وسكون الكاف، وهي جمعٌ، مُفرده كُفْءُ أو كفؤٌ بمعنى مقتدر أو متمكّن، وقولهم أيضا: (يُعتبر الجواهريّ شاعر العرب الأكبر) والصواب أن نقول:(يُعُّد الجواهريُّ شاعر العرب الأكبر)،لأن يُعتبَرُ من الاعتبار فهو مُعتبِر. وقولهم أيضاً في توصيف شعريته: (لَعِبَ الجواهريُّ دوراً هامّاً...)، والصواب أن نقول: (أدّى الجواهريّ دوراً هامّاً)، لأنه لا وجود في اللّغة العربية معنىً مجازياً للدال (لَعِبَ)، فهو مأخوذ من أصول أعجمية أجنبيه أوربية غير عربية وصل عن طريق الترجمة إلى العربية..

ومن الأخطاء اللّغوية الشائعة جّدا  قولهم: (مِهْرَجانُ المَرْبَد الشّعري)،بفتح الميم وسكون الراء (مَرْبَد)، والصواب أن نقول: (المِرْبَد) بكسر الميم وسكون الراء، بدلاً من فتحها وقولهم: (اتّحاد أدباء وكُتّاب مِيْسان) بكسر ميم مِيْسان، والصحيح أن نقولَ:(مَيْسان) بفتح الميم، والتي تعني الموضع أو المُتبختر في مشيه وقولهم: أيضا (كان المَنَاخ قاسياً) بفتح ميم المَناخ،. الذي يعني مَبركَ الإبلِ اي مكان الإناخة والصواب أن نقول: (المُنَاخ) بضم الميم، وقولهم كذلك: (شَغلَ الشَعرُ مَسَاحةً واسعةً) بفتح ميم َمَساحة والصواب أن تقول: (مِسَاحةً) بكسر الميم، والتي تعني مِساحة الأرض مصدر الفعل مَسَحَ، وقولهم: (أكّد الأب على الحضورِ)، والصحيح أن نقول: (أكدّ الأبُ الحضورَ)، لأنّ أكّد فعل ماضٍ متعدٍ بنفسه ولا يحتاج تعدّيه  إلى  واسطة حرف الجر على.

ومن أخطاء حروف الجرّ الشائعة جدّا في لغة السّرد الروائي أو القصصي أو في المخاطبات: (أُحِيلَ الموظّف على التقاعدِ، واستند أمر إحالته على قانون الخدمة)، وصواب القول في حرف الجر (إلى) أن نقول: أْحيلَ الموظّف إلى التقاعد، واستند أمر إحالته إلى قانون الخدمة)،لأنّ الحرف على بمعنى الاستعلاء أو فوق ولا تجوز الإحالة أو الاستناد بـ على، بل يجوز في اللّغة الارتكاز بـ على فتقول :ارتكز على القاعدة الأساسية. وكذلك قول أحد الروائيين: (تُقسم الرواية إلى ثلاثة فصولٍ أو أقسامٍ)، والأفصح أن نقول. تُقسم  الرواية على ثلاثة فصول، لأن القسمة لا تكون بـ إلى، وإنّما بحرف الجر على، ومن الأصح أيضاً أن تقول: (تميَّز هذا من هذا)، ولا يصحّ ان نقول: (تميّز هذا عن هذا)، أي يُمَيّز شيءٌ من شيءٍ آخر. وقال آخر: (أذِنَ لهم بالسفر)، وصواب القول: (أذِنَ لهم في السفر)، وليس بالسفر، لأنّ الباء جاءت للاستعانة وليس أمراً في السفر. وقولهم أيضاً: (تَخرّج محمّدُ من كليّة الآداب- جامعة بغداد، وتسلّمَ الشهادةَ) والأصح أن نقول: (تخرّج في كليّة الآداب، واستلم الشهادةَ)، لأنّ الفعل تخرّج بمعنى (تَعلّمَ في)،أو( درس في) كليّة الآداب واستلم الشهادةَ، وليس تَسلّمَ الشهادة، لأن تسلّمَ يُعطي معنى الفعل (صارَ)، مثل، (تَسلّمَ الرجلُ)، أي صار مُسلماً والصواب أيضا أن نقول:(أسلمً الرجلُ )،أي صار مُسلِماً، ولا تقل: استسلم التي تعني دلالتها الاستسلام أو الخضوع  الانقياد. ومن الصواب الراجح في اللّغة أن تقول: (أُسست جامعه بغداد)، ولا تقُل: (تأسست جامعه بغداد)، لأنّ التأسيس يعطي معنى أنه يَحدُث من تلقاء نفسه دون تدخلٍ، وليس بفعل فاعل يقوم به.

ويعبّر أحد الُكتّاب قائلاً : (هذا شارع رئيسي من شوارع المدينة الرئيسية)،والصحيح أن نقول: (هذا شارع رئيس من شوارع المدينة الرئيسة)، لأن شاعر مذكر فنقول:(رئيس) ومدينة مؤنث فنقول:(رئيسة) من غير ياء النسب التي لحقته خطاً شائعاً، وأن تقول: (أنتَ جادٌ في عملك)، ولا تقُل: (أنت مجدٌ في عملك)، وأن تقول أيضا: (كأس مملوء)، ولا تقُل: (كأس ممتلئ)، والأفصح أن تقول: (هذا فعلٌ شائنٌ)، وشائنٌ اسم فاعل من الفعل شانَ الماضي الثلاثي وألّا تقول: (هذا فعلٌ مُشِينٌ). فمشِينٌ اسم مفعول من الفعل شَانَ، وتقول : (هذا عملٌ شائقٌ) أي ممتع وجذاب ولا تقُل: (هذا عمل مشوّق)، لأن مشوّق اسم مفعول. كما وجدت أحدهم يقول: (سِرُّكَ مُصانٌ)، والأفصح في اللّغة العربية أن نقول: (سِرُّكَ مَصونٌ)،ويقول أيضاً:(يُستفاُد من علمه)، ّ والأصحّ أن يقول: (يَستفيدَ من علمه) الذي مضارعه استفادَ يستفيدُ.

ولفت انتباهي بعض من كُتّاب السّرد يخطأ فيُعرِّفُ بأل التعريف كلمة (غير) النكرة التي اكتسبت التعريف من الاسم المضاف إليها فيقول: (الغير طبيعي)، وصواب القول  أن يقول: (غير الطبيعي،)، لأنّ غيرَ أداة استثناء لا تُعرّف بألـ. ولفت انتباهي أيضا كلمة (رغم) التي لم تستخدم الاستخدام الصحيح في تركيب الجملة التي تقول: (ورغم معناته الحياتية القاهرة إلا أنه يشعر بالأمل والتفاؤل)،والتعبير الصائب والصحيح  أن يقول: (على الرغم أو بالرغم من معاناته فإنه يشعر بالأمل)، كما لفت نظري كثيرا استخدام الأداة (كُلّما) التي هي ظرف زمان تفيد الشرط، والتي لا يجوز تكرارها مع الجملة كما لا يجوز أن يأتي شرطها وجوابها الا فعلين ماضيين، ولا يأتيان مضارعين فلا يجوز أن نقول:(كلّما يقرا الرواية، كلّما يشعر بالملل)، والصواب أن تقول: (كلّما قرأ الرواية ،شعر بالملل)، كقوله تعالى: ((كلّما دخل عليها زكريا المحرابَ وجدَ عندها رزقا))،وقد يجوز للشاعر بذلك في فقه اللّغة لضرورة الشعر أن يستخدم فعلين مضارعين، وهو من القليل النادر. وكذلك الحال مع الفعل الماضي(أصلحَ وصحّحَ )، فلا تقل:(صَلّحَ الأستاذ الدفترَ)، والصواب أن تقول: (أصلحَ أو صححَ الأستاذُ الدفترَ). كما لا يصح أن تقول: (شكراً لتواجدك معنا).فالأصحّ أن تقول: (شكرا لوجودك معنا)، في معنى حضورك، ولا يصحّ أيضا أن يُقال في اللّغة :(جلستُ لوحدي) ،أي متوحّداً مع نفسي، وإنما الصواب أن نقول: (جلستُ وحدي)، أي متفرّداً عنهم بمفرده وليس متوحّداً مع نفسه.

ومن الألفاظ الخاطئة في الاستخدام اللغوي، والتي يمكن أن يتنبّه إليها السَّردةُ وغيرهم في التوظيف اللغوي السّردي بالشكل الآتي: ( معاً أو سويةً) فقلْ: (نذهب معاً)، ولا تقل له :(سويةً) من المساواة، وكذلك ماذا نقول :(اشتاقَ أم تَلهّفَ؟)؟ قُلْ :(اشتاقَ إلى لقاء أُستاذه )، ولا تقل:(تلهّف إلى لقاء أستاذه). وماذا تقول: (خَرجَ أم انسَحبَ)؟ قل: (خرجَ الجنود من المعركة)، ولا تقل: (انسحبَ الجنودُ من المعركة). وماذا نقول :(خبيرٌ بـ أم خبيٌر في)؟ قل: (هذا الروائي خبيرٌ بفن السّرد)، ولا تقل: (خبيرٌ في فن السّرد). وكذلك ماذا تقول: (تردّدَ إلى أم تردّد على)؟  قُل: (تردّدَ إلى الاتّحاد)، ولا تقلْ: (تردّدَ على الاتّحاد)، وأيهما أفصح أن نقول: (تَمريناتٌ أم تَمارينٌ)؟ قل :(تَمريناتٌ نافعةٌ)، ولا تقلْ:(تَمارين نافعة)، و(عنواناتٌ أم عناوينٌ)؟ قل: (عنواناتٌ بارزةٌ) ولا تقل:(عناوينٌ بارزةٌ)، وكذلك (تأخّرَ عن) أم (تأخّرَ على) قلْ: (تأخّرَ عن الموعد)، ولا تقل: (تأخّرَ على الموعد). وماذا نقول: ( قطٌ أم أبداً)؟ قلْ: (ما رأيتك قط)، ولا تقل: (ما رأيتك أبداً)، بمعنى نهائيا. وأيهما أصحّ أن نقول:(حاضرٌ أم حاضرانِ) ؟ قل:(كلا الشاعرينِ حاضرٌ)،ولا تقل: (كلا الشّاعرينِ حاضرانِ).

ومن والأمثلة لأخرى نقول :(مثلُ أم بمثابةِ) قلْ: (أنت مثلُ أبي)، ولا تقُل:(أنت بمثابة أبي)،أي بمكانته. ومثله،(نحوَ أم حوالي)، قل:(أنتظركَ نحوَ ساعةٍ)، ولا تقل: (انتظرتك حوالي ساعةٍ). وماذا نقول: (الدَّوْلي) بفتح الدال وسكون الواو، أم (الدُّوَلي) بضم الدال وفتح الواو؟ قلْ :(مطارُ بغداد الدَّوْلي)، بفتح الدال، ولا تقل :(مطار بغداد الدُّوَلي بضم الدال).وما الصواب أن  نقول:(عَلَاقة تربطني به أم عِلَاقة تربطني به)؟  الصواب  ان نقول:(عَلاقة)بفتح العين، ولا تقل (عِلَاقة تربطني بهِ)، بكسر العين. وماذا نقول أيضاً: (موصدٌ أم موصودٌ)؟ قل :(البابُ مُوصَدٌ) ،ولا تقلْ: (البابُ مُوصودٌ). و كذلك الحال نقول: (لافتٌ أم مُلفتٌ)؟ قلْ:(لافتٌ للنظر)،ولا تقل: (ُمُلفتٌ للنظرِ)، وماذا نقول: (دققَّ المسألةَ أم دققَّ في المسألةِ)؟ قل: (دققَّ المسألةَ)، ولا تقلْ: (دققَّ في المسألةِ). وما الصواب أيضا نقول:(عَانى مرضاً أم عانى من مرضٍ)؟ الأصحُّ قل:(عانى مرضاً عُضالا)، ولا تقل:(عانى من مرضٍ عضالٍ). و كذلك قل: (أم)، ولا تقل:(أو)، فنقول بِأمْ المعادلة أو المفاضلة بين شيئين: (أيهما تحبُّ القصةَ أمْ الروايةَ)؟ ولا تقل: (أيهما تحبُّ القصة َأو الروايةَ)؟ وماذا نقول: (أجابَ عن أم أجابَ على)؟ قل: (أجاب عن الأسئلةِ)، ولا تقل: أجابَ على الأسئلةِ).

وختاما كم يسعدني أن أرى الأديب السَّارد أو الشَّاعر أو الكاتب أن يكون يقظاً فيتنبّه جيّدا إلى (ثُمَّ) العاطفة التي تفيد الترتيب والتراخي، و(ثَمَّ) الظرفية الإشارية التي تفيد دلالة المكانية بمعنى هناك. فضلا عن أخطاء لغوية كثيرة أُخر لا حصر لها في هذه الدراسة اللّغوية الموجزة.

 

د. جبّار ماجد البَهادلي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم