صحيفة المثقف

الفلسفة والتفكير في فقدان الهدف وعواقبه

علي رسول الربيعيالقاء نظرة عامة على المنهج  الذي كان سائداً في نظرية المعرفة في القرن العشرين يكشف عن دورها المتعلق بفقدان الهدف. لقد لعبت الفلسفة البراغماتية والتجريبية المنطقية بأفرعها  المختلفة في القرن العشرين أدوارأ لكنها مختلفة في هذا الفقدان لهدف المعرفة.

من الجدير بالذكر  طورت كلا من مدرستي الفلسفة  وسائل أختبارها  للمعرفة من وجهات نظرها عن العالم  (world-views )، من أجل تلبية الاحتياجات النفسية الملحة لعصرهما. وتجدر الأشارة إلى أن كليهما  يطلق على نفسه  تسمية "منهج" بمعنى "المقاربة" ( approach) أو "النظرة إلى العالم"، وعندما يتحدثان، ينظر كلاهما إلى المشاهد- وليس إلى منتج المعرفة.

كان يُعتقد أن البراغماتية، في مواجهة الاضطرابات التي نشأت في نهاية القرن التاسع عشر بتطور العلوم و"حقائقها" التي كانت متعارضة مع تلك الخاصة بالدين، قد قطعت العقدة الغوردية ( Gordian knot)، ايً قد فتحت الطريق بالنسبة لأولئك الذين كانوا في حيرة من أمرهم، فيقول الفيلسوف الأمريكي البرغماتي وليم جيمس: "المنهج البرغماتي هو في المقام الأول وسيلة لتسوية الخلافات الميتافيزيقية التي قد لا تكون نهاية لها".[1] عندما يكون أي نزاع خطيرًا، يجب أن نكون قادرين على إظهارأو كشف بعض الاختلافات العملية التي تأتي من جانب أو آخر يكون على صواب."[2] وكما نرى هنا، هذا هو موقف المراقب أو المشاهد من العبارات المتباينة حول الموضوع نفسه. تصوغ البراغماتية معيارها لتمكين المشاهد من كشف هذه الاختلافات العملية، فـالأفكار الحقيقية هي تلك التي يمكننا استيعابها والتحقق منها ومن  صحتها، وعندها تكون فكرة ما حقيقية. وأن تصبح حقيقة يعني ان تصبح هكذا من خلال الأحداث الفعلية. وإذا  توافقت النتائج  التي نضعها في الأعتبار مع الأحداث تلك هذا يعني أن أفكارنا تتفق مع الواقع"[3] ومن المهم أن نلاحظ هنا أن هذه الفكرة هي نتاج للعقل البشري أيضًا.

يتمثل الشاغل الرئيسي للتجربة المنطقية أيضًا في إيجاد طريقة للتأكد من تجنب الخطأ - وهو أمر لا يتحقق ابداُ، نظرًا لأنه يجب أن يعتبر جميع القضايا بمثابة فرضيات  في النهاية. أنها تطور معيار قابلية التحقق من المعرفة، وإمكانية تكذيبها لاحقًا- من وجهة نظرها للعالم، ونجد التعبير عن ذلك في بيان دائرة فيينا (كما تسمى)، أي في النص المقدم في عام 1929 من قبل موريتز شليك.[4] لا يتسم المفهوم العلمي للعالم كثيرأً بأطروحات الخاصة، ولكن بموقفه الأساس ووجهة نظره وتوجهه البحثي." أنه  يتميزاساساً بميزتين: أولاً، أنه تجريبي ووضعي: هناك معرفة من التجربة التي تستند إلى ما يعطى مباشرة. ثانياً، يتسم المفهوم العالم العلمي بتطبيق التحليل المنطقي. اذا تم إجراء مثل هذا التحليل على جميع المفاهيم، فسيتم ترتيبها في نظام مبسط، " يتم من خلاله تطبيق التحليل المنطقي  من خلال التصور العلمي للعالم. وهذا ما خططت التجريبية المنطقية لتحقيقه.

لا يزال، يتم تطوير في العديد من العلوم، سواء العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية، العديد من "النماذج". شكّل بناء "النماذج" الشغل الشاغل في العلوم؛ واخذ مصطلح "نموذج" اهتماماً الا أنه  لا يزال يسوده ارتباك كبير، و يبدو أنه أحد المصطلحات، إن لم يكن الأكثر شيوعًا، في فلسفة العلم..ومع ذلك، فإن الحقيقة التالية التي أشار إليها حنة أرندت، في الستينيات، ما زالت بعيدة عن الانتباه:

تكمن المشكلة في أن كل مايبدو بديهية كأنها تصلح لاستنتاجات متسقة كما لو أن الشخص في وضع يمكنه من إثبات أي فرضية قد يختار تبنيها، ليس فقط في مجال التركيبات العقلية مثل التفسيرات الشاملة للتاريخ والتي تدعمها الحقائق بشكل متساوٍ، ولكن في العلوم الطبيعية أيضًا ... تميل الأنظمة التوليتارية  إلى إثبات أن الفعل يمكن أن يستند إلى أي فرضية وأنه في سياق العمل الموجه باستمرار سوف تصبح الفرضية  حقيقة، ستصبح حقيقة واقعية. بعبارة أخرى، فإن البديهية التي بدأ منها الاستنتاج: لا يجب أن تتوافق مع الحقائق كما هي معطاة في العالم الموضوعي في اللحظة التي يبدأ فيها الفعل؛ إن سيرورة الفعل، إذا كانت متماسكة، سوف تمضي في خلق عالم يصبح فيه الافتراض بديهيًا وجليًا بذاته. لا تختلف الأشياء اختلافًا جوهريًا في العلوم الطبيعية، لكنها تبدو أكثر إقناعًا لأنها بعيدة  معرفة الشخص العادي وشعوره الذي يرفض رؤية ما لا يمكن فهمه.[5][6]

يبدو أن ما تقوله حنة أرندت صحيح ليس بالنسبة للأنظمة الاستبدادية فحسب، ولكن لأي نظام اجتماعي وسياسي.

تبدو ملاحظاتها المتعلقة بـ "العلم المعاصر" مهمة للغاية أيضًا. ويبدو أن السمة المميزة لهذا العلم هي ما أسميه "فقدان الهدف" الذي نلاحظه سائدأً في معظم العلوم. يعتبر "العلم" من خلال فلسفة العلوم السائدة بمثابة نظام من الفرضيات أو النظريات - حيث يتم استخدام هذين المصطلحين كمرادفات. وفقًا لبوبر، على سبيل المثال، يعتبر العلم "نظامًا من الفرضيات، نظامًا للتوقعات غير المبررة: أي نظام من التوقعات التي نعمل من خلالها طالما تم تأكيدها، والتي قد لا نسميها صحيحة أو مؤكدة بدرجة أقل أو "محتملة.[7] وهكذا يتألف نشاط الباحث العلمي من تقديم الفرضيات أو أنظمة من الفرضيات، واختبارها بشكل منهجي؛ فما يتم تقديمه واختباره في التجربة من خلال الملاحظة والتجاربهي الفرضيات وأنظمة النظريات.[8] "النظرية" هي الشبكة التي نرميها من أجل الاستيلاء على "العالم" - من أجل عقلنته، وتفسيره، والسيطرة عليه ".[9] "الاستيلاء على العالم" يعني في المصطلحات البوبرية "إجراء تنبؤ قابل للأختبار تجريبيا."[10]

اليس هذا المفهوم للعلم، كما صاغه بوبر، متفقًا تمامًا مع ملاحظات حنة أرندت النقدية،  حيث لاتزال ملاحظاتها فيما يتعلق بـ "العلوم المعاصرة" مطابقة؟

وهكذا، فإن "الموضوعية"، التي كانت ذات يوم المثل الأعلى للعلوم، قد أعطت مجالًا لـ "صلاحية البيذاتية"، والتي شكلت االنموذج المثالي في "العلم".أصبح تطبيق الفرضيات أو النظريات الصالحة المفترضة - أو النماذج، أو المناهج للحالات الفردية، والتي بدورها "تثبت" أو "تؤكد" صحتها، "طريقة العلم". لا تنطبق هذه الملاحظة الأخيرة على التجريبية المنطقية فحسب، بل على النهج الديالكتيكي أيضًا.

ومع ذلك، تستمر "النظريات" أو النماذج المتعلقة بالقضية نفسها، في الزيادة، ويبدو أن جميعها مبررة للوهلة الأولى. لا يزال هذا الشكل من التعددية التي حظيت بالكثير من الثناء يترك الناس في حيرة من أمرهم، ويجعلهم يبدون من ناحية المعرفة كمبتدئين في الفلسفة.

أعتقد أننا ما زلنا غير مدركين بشكل كافٍ للعواقب الناجمة عن فقدان موضوع المعرفة في مختلف مجالات النشاط البشري؛ وكنتيجة بعيدة، أود أن أذكر، وأنا أدرك جيدًا، بالطبع، أنني قد أصدم  القارى هنا- المطلب العصري باحترام جميع الثقافات على قدم المساواة.

وهكذا، في القرن الحادي والعشرين، نجد أنفسنا في وضع موازٍ لموقف القرن العشرين: لدينا العديد من "الحقائق"، لكن هذه المرة "الحقائق  العلمانية" حول الموضوعات نفسها: نحن لدينا نماذج مختلفة لتشخيص وتفسير وتقييم وما إلى ذلك للأشياء نفسها.

ولكي نتعامل مع هذا الموقف - بدلاً من التشكيك في نظرية المعرفة السائدة - جعلنا التعددية شعارًا في عصرنا، معتبرين أنها علاج ضد الدوغمائية (العقائدية )، دون الاستفسار عن أمكان التعددية الإبستيمولوجية ( المعرفية).

يبدو أن ما بعد الحداثة هي محاولة لتبرير هذه التعددية - لإضفاء الشرعية على الحقائق باسم الحرية ، التي تعتبر بمثابة علاج لـ "  دوغمائيات السرديات الكبرى" للحداثة. ومع ذلك، وبسبب ما بعد الحداثة، وجدت العقائد أيضًا - بما في ذلك مختلف الأصوليات - الحرية في  الأنتشار. ومن الجدير بالملاحظة أن منظري الأصولية مفتونون بما بعد الحداثة. يبدو أن ما بعد الحداثة هي المظهر الأكثر تطرفًا لفقدان هدف المعرفة.

من أجل تسمية موضوعية للموقف، نحتاج إلى مفاهيم واضحة يمكن أن تكون نتاج تعريف فلسفي للحقائق الإنسانية وتصور مفاهيمي للأفكار.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.......................................

[1] William James, "What Pragmatism Means," The Moral Philosophy of William James, ed. John K. Roth (New York: T.Y. Crowell, 1969), p. 276.

[2]  المصدر نفسه .

[3] William James, "Pragmatism's Conception of Truth," in Roth, The Moral Philosophy of William James, p. 295.

[4]"The Scientific Conception of the World: The Vienna Circle, “in Empiricism and Sociology, ed .Otto Neutrath,chap.9,Vienna Circle Collection, vol. l (Dordrecht: D. Reidel Publishing Company, 1973), pp. 305-307.

[5] كارل، بوبر، منطق البحث العلمي، ترجم وتقديم ، د. محمد البغدادي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،2006، ص288 فما بعد

[6] Hannah Arendt, '"The Concept of History: Ancient and Modem," in Between Past and Future (New York: Penguin Books, 1978), pp. 87--88.

[7] كارل، بوبر، منطق البحث العلمي، ترجم وتقديم ، د. محمد البغدادي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،2006، ص288 فمابعد.

[8] المصدر نفسه.

[9] المصدر نفسه، ص 63.

[10] م ، ن ،

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم