صحيفة المثقف

التَّصحُّرُ والموتُ بالصَّمت

سمير محمد ايوبعَشوائياتٌ في الحب 

رفيقةٌ يافاوية مُناضلةٌ عتيقة، ممن يَجرُؤنَ على الخروج بلا ماكياج، لم ألتقيها منذ تزوجت . جاءت إلى قدّاس الأحد بثوبٍ أسود بسيط، تَلْحمِيُّ التطريز . تلفُّ عنقَها الجميل دون رأسها، بشالٍ أبيض مُطرَّزٍ هو الآخر . في عينيها حزنٌ داكنٌ مُوشّى بغضبٍ ظاهر . كانت تختنق بدمعٍ يأبى مغادرة مَنابعه وسَواقيه . أطْرَقْتُ مُتجهِّما حين رأتني بانتظارها أتمشى في باحة الكنيسة . سرعان ما انتبذنا مكانا قصيا. وما أن جلسنا تحت زيتونة ضخمة هناك، وقبلَ أن تقول شيئا، رمقتني بنظرةٍ طويلة، إنثالت معها كلماتٌ صامتة، اختصرت الكثير من الحكاية:

لستُ بخيرٍ يا شيخي . لم يفِ بما وعَدَت به رجولته . مِزاجيٌّ يقتل كلَّ لحظة . لا يتَّسعُ لسانه إلاّ لما لا يُطاق . أخرَجَني تردُّدُه عنْ سِياقي . بتُّ معزولةً عن كلِّ ما حَولي . بعدَ سبعِ سنينٍ عِجافٍ، مِنْ زواجٍ تقليدي، كنتَ أنت شاهدا عليه، لمْ يَعُد يُشبِهني . ولمْ يَعُد حُزْني يشبهه. إختفَت تفاصيله الصغيرة منْ دواخلي .

ودمعٌ حائرٌ يقفُ مُتربِّصا على حواف عينيها، أكْمَلَتْ بصوتٍ مُرتجف: لم يَعُد قلبيَ يَطير، تؤلمني دقاتُه المُتكاسلة . تَعجُّ نفسي بتنويعاتٍ من العقوق والخذلان . أجبرتني على صياغة صمتٍ مُخيف رغم هدوئه . تعاطَيتُ الصبر الجميل ونَفَذَ . كنت أتَحَكَّمُ بخوفي من التذمر، فصِرتُ أخافُ أن ينحرفَ خَطْوِيَ . لا أريد التَّعَوُّدَ على فراغٍ فيه الكثير مما لا يقال، ولا يَتنهدُ فيه شيءٌ، إلاّ أصابعي .

تنهدت مطولا  قبل أن تواصل بصوت يشبه الرجاء: بقايا حنين صامت، وذكريات تتفلت، وأمنيات ملجومة تتشبث بالحياة، تتمنى عليك يا شيخي، ان تأخذ بيدها إلى شيء منَ النور .

إنتبهنا  لقرع الأجراس، إتّجهنا إلى الكنيسة وهي ترفع شالها فوق رأسها . جلسنا في الصف الأخير . وهي تتابع القس ومساعده الشماس، كنت اتأمل في رسم السيد المسيح عليه السلام، وما يحيط بصليبه من ايقونات، ولساني يلهج بحمد الله واستغفاره والدعاء لوالِدَيَّ .

بعد المناولة مباشرة، خرجنا إلى حيث كنا قبل الصلاة نجلس، تمعنت في عينيها، وأصابع يدي اليمنى تداعب سبحتي، قلت: أعلم كم أنت كثيرةٌ، نبعٌ لا يشيخ ولا يمل . ومع هذا أود التأكيد لك، على أن بعض افتراضات الحياة العامة لزجة، تشَوِّشُ الرؤية ولا تصلح للإستنتاج . منها الظن أنَّ هناك فِقهٌ مُتكاملٌ للحياة، يُغطي بنفس الدرجة من الجُهوزيَّةِ، جميعَ التحولات فيها . من الخطورة بمكان، نسخ تجربةٍ أو تلفيقُ فقهٍ إنتقائي هجين . والأخطر من ذلك، التشبه بالمقارنة، والتعميم بلا تخصيص .

الشراكة يا سيدتي كالقفز من مكان عال، عقلك ينهرك أن لا تفعلي كي لا تموتي، وقلبك يوشوشك أن لا تقلقي فبإمكانك الطيران . كان عليك أن تدركي منذ البدء، أن هناك أنواعا كثيرة للغرق غير الماء، وللقتل غير الرصاص . النَّقُّ واللسانُ السليط  والمحاصرة والترصُّد وسيمفونيات العتاب، والغضب الطفولي والكيد الساذج، اخطر من الماء والرصاص .

ومن ثم أقول على العموم: حين نشارك، علينا أن ندرك أن الأشياء الجميلة لا تأتي إلا مشتركة، لا تُنْتَظَر ولا تُطْلَبْ من الآخر، بل باولويات تُصنع وتجدد بالتوافق المشترك، وتُلون معا . الشراكة ليست سوقا للتداول والمقايضة الفظة، ولا تلتزم بقانون المرابحة: إن حَبِّتْني أحِبَّك أكثر .

قالت بقلق: وإن أتت على قلبك لحظاتٌ وإشارات أثقل من الجبال، ماذا تفعل لتتوقف عن ظلم نفسك ؟!

سارَعْتُ مُقاطعا وأنا أنقل السبحة إلى أصابع يدي اليسرى: من الحقائق المُرَّة في الشراكة، أن في كل حقبة منها خصومات، لكنها ليست حواضن للإكتئاب، بقدر ما هي منصات لإنطلاق جديد .

قالت بشي من التشكيك المُتعجب: كيف ؟!

قلت بيقين: حالات النفورمن البدايات غير المتوقعة، تسبق في العادة  الضجر من التصحر، بضمة أوبسمة أو ومضة عين أو قبله عابرة عشوائية . فقبل أن تصبح العلاقة  نوعا من الطلاق الصامت، يتم الجفاء بين أركان العقل والقلب، وتتساوى الأشياء فيها كالماء، لا طعم ولا لون ولا رائحة .

إذا بتِّ عاجزةً عن الأمساك بصدى صراخك، ولتكن النهايات كما تريدينها، تحزّمي بصبرك واحملي ما تبقى منك، وارحلي بهدوء . إمضي بلا وجل، والقِ وسادتك حيث تستريح روحك، وتلاقي ضحكتك، وهناك ابني لك بيتا .

ولأن التعود يخدع صاحبه، إبتعدي بلا أسف، عمَّن بالتَّعمُّد أضلَّ طريقك . إن لم يعجبك مكانك، قومي بتغييره، فأنت لست شجرة في غابة  لتثبتي مكانك، ولا جلمود صخر . حتى الطيور تهاجر من سماء فسد فضاؤه . إذا لم تكوني في الأماكن التي تحبينها، فأنت لاجئة أينما كنت . وأنت تتلفتين على أرصفة الحياة من حولك، إفتحي بصيرتك وُسْعَ جِراحك، فهي مكتظة بشركاء محتملين، يبحثون مثلك عمَّن يوقِدُ نارا ويعزز ما يضمر في الصدور . وحين تلتقين من يعتنق روحك، تذكري أن الحب كالتدين لا إكراه فيه، ولا تعصب  وتذكري أنَّ أيَّ شراكة لا تؤيَّدُ بحسن التدبير، والصبر الجميل، والتفهم المتسامح، والمغفرة المتجددة، تتفسخ وتتلاشى .

ساعَتَها، لا تقولي إنَّ الدنيا تُعطيني ظهرَها، فأنت يا سيدتي من يجلس في المكان الغلط . إن في الحب أشياءٌ كثيرةٌ جميلةٌ، تستحق الصبر من أجلها، قبل إعلان الموت بالصمت .

 

كتب الدكتور سمير محمد ايوب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم