صحيفة المثقف

هل يجوز استخدام المال القذر لتحقيق اهداف نبيلة؟

صلاح حزاميروى ان احد الاباطرة الرومان احتاج الى المال لتعزيز خزينة الدولة، وبعد ان استنفذ كل المصادر الممكنة لجباية المال،  لجأ الى فرض ضريبة على المراحيض العامة (كانت روما سبّاقة الى اقامة المراحيض والحمامات العامة).

وعندما سمع ابن الامبراطور، وكان ولياً للعهد،  استشاط غضباً وذهب لمقابلة والده الامبراطور معترضاً على هذا القرار.

سأله والده لماذا انت غاضب؟

اجاب الأبن: المراحيض مصدر قذر ولايليق بالامبراطورية الرومانية العظمى ان تبني مجدها بهذا المال.

حينذاك أخذ الامبراطور حفنة من النقود بيده وقربها من ولده وطلب منه ان يشمّها .

قام الولد بذلك دون ان يعلم السبب .

سأله والده: هل شممت فيها رائحة؟

اجابه ولده: كلا

قال الاب: عليك أذن ان تعلم ان النقود ليست لها رائحة ..

كانت رسالة الأب السياسية لولده:

المهم النقود وليس المهم مصدرها..

في التراث الاسلامي هناك قصة الرجل المُحسن الذي ذاع صيته في المدينة باعتباره يساعد الايتام والارامل ..

سمع خبره الامام جعفر الصادق.. قرر ان يتعقبه ليعرف سره..

تبعه سراً وهو متخفي . ذهب الرجل المحسن الى دكان الخباز فاستقبله الخباز بالاحترام وناداه: أهلاً بالمحسن وفاعل الخير .

بعد قليل ذهب صاحب الدكان الى الداخل وترك الرجل المحسن وحيداً مع الخبز لانه كان مطمئناً له. قام المحسن بأخذ عدة ارغفة خبز واخفاها في ملابسه. عندما عاد الرجل ودعه المحسن وذهب.

بعدها ذهب الى بائع الرمان وبعدها الى بائع اللحم وعمل نفس الشيء،  السرقة .

كان الامام جعفر يراقبه ثم تبعه الى أن خرج المحسن الى خارج المدينة وذهب الى خرابة فيها أمرأة ارملة وعدد من اطفالها الايتام واعطاهم الطعام ورجع.

هنا استوقفه الامام جعفر وقد كشف عن وجهه وسأله: انا تابعتك وعرفت ماذا فعلت،  فأخبرني لماذا فعلت ذلك؟

أجابه المحسن: ألم تقرأ كتاب الله وهو يقول: السيئة تجزى بمثلها والحسنة بعشرة امثالها؟

أنا اتحمل سيئة واحدة واحصل على عشرة حسنات ..

اجابه الامام جعفر: قبحه الله من رأي ومن فعل .. هذه تجارة وليست دين.

ألم تقرأ قول الله: إنما يتقبل الله من المتقين (سورة المائدة)؟

انت عندما سرقت سقطت عنك التقوى لانك اصبحت سارقاً وبالتالي فأن اعمالك الحسنة لن يتقبلها الله.

يبدو ان منطق المحسن هو مثل منطق ميكيافيلي الذي يقول: الغاية تبرر الوسيلة ..

بالعودة الى عالمنا المعاصر، نلاحظ ان بعض الافراد وبعض الحركات السياسية،  في دول عديدة،  تقوم بسرقة المال العام وارزاق الناس وتعيق تقدمهم وتفعل ذلك على نطاق واسع من داخل بلدانها ومن بلدان اخرى بحجة استخدامها لتحقيق اهداف نبيلة (دينية او قومية الخ..).

سؤالنا: هل يجوز ذلك دينياً او اخلاقياً

او حتى فلسفياً ؟

انهم من اجل تحقيق ذلك يشيعون الرذيلة ويخلقون طبقة من السراق والفاسدين المحترفين الذين يتعودون على ذلك الفعل ويمارسونه لاحقاً لاغراضهم الشخصية كلصوص عاديين وليس كلصوص (عقائديين)..

الفساد وسرقة المال العام هي عمليات غير شرعية ومخالفة للقانون،  لذلك فانها تتم بسرية ووراء ابواب مغلقة. كما انها تحتاج الى شبكات من مستويات مختلفة تعمل بالخفاء مما يجعل السيطرة الكاملة على اعمالها والمبالغ التي تحصل عليها أمراً مستحيلاً مما يجعل بعض افراد هذه الشبكات يعمل لصالحه الخاص ويستحوذ على جزء من الايرادات لحسابه الخاص..

ذلك يخلق مافيات أضافية اجرامية صرفة تستطيع شراء الاتباع والسلاح والنفوذ السياسي وشراء اصوات الناخبين..

وبذلك يصبح البلد غنيمة سهلة لكل هذه المافيات التي تعيث فساداً.

واذا كان سلوك الامبراطور الروماني مبرراً لانه اولاً لم يسرق بل فرض ضريبة وثانياً لكونه امبراطور دنيوي ووثني،  فكيف يمكن تبرير سلوك حركات دينية ترفع شعارات دينية مؤثرة وكبيرة ؟؟

وحتى نيقولا ميكيافيلي فعندما قال الغاية تبرر الوسيلة،  فأنه لم يكن واعظاً دينياً بل كان يقدم المشورة الى أحد امراء الدويلات الايطالية المتنازعة قبل توحيد ايطاليا من قبل غاريبالدي .

ومع ذلك فأن مشورة ميكيافيلي كانت موضوع خلاف بين المفكرين لاسيما علماء الأخلاق ..

من الناحية القانونية والاخلاقية،  تعتبر سرقة المال العام من اكثر الجرائم فظاعة لانها سرقة لحقوق الملايين الذين يستحيل طلب العفو او السماح منهم ..

اما سرقة فرد فهي أهون لانه بالامكان اعادة ماله له او طلب العفو منه..

وفي العالم المتقدم والمتحضر،  يعتبر التهرب الضريبي جريمة كبرى وعقوبتها شديدة لانها سرقة من المجتمع.

اعاقة نمو المجتمع وحرمانه من حقوقه واشاعة الفقر فيه،  جريمة كبرى وآثارها مدمرة.

 

د. صلاح حزام

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم