صحيفة المثقف

عندما وجدت نفسي على خلاف مع الشيخ المتحدث حول الربا

صلاح حزامقبل ايام كنت استمع لمحاضرة مسجلة القاها أحد الشيوخ المحترمين من على أحدى قنوات التلفزيون ..

تناول الشيخ قضية الربا وما يتم تداوله حول طبيعة تحريم الربا ومفهوم الربا وبعض التأويلات التي يتداولها الناس حول المقصود ببعض الآيات القرآنية التي تحرم الربا.

قال الشيخ: ان الربا محرّم بتشريع سماوي وان من الخطأ القول ان الربا المحرّم هو ذلك الذي يؤخذ " أضعافاً مضاعفةً" فقط، وان مادون ذلك ليس محرماً.

حجة الشيخ انه لايوجد أصلاً ربا يؤخذ اضعافاً مضاعفةً وبالتالي لابد ان المقصود بعبارة: أضعافاً مضاعفةً التي وردت في القرآن الكريم، هو شيء آخر (لم يخبرنا الشيخ ماهو المقصود حقاً بتلك العبارة).

رجعتُ الى عدد من تفاسير القرآن ووجدت في تفسير الطبري، مثلاً

مايلي:

(القول في تأويل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تأكلوا الربا في إسلامكم بعد إذ هداكم له، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم.

* * *

وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم: أنّ الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخِّر عنى ديْنك وأزيدك على مالك. فيفعلان ذلك. فذلك هو " الربا أضعافًا مضاعفة "، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه،. )

هذا يعني ان الشيخ المتحدث لم يكن على حق وجاء بتفسير شخصي ربما ..

كما انه اكتفى بالتشديد على التحريم دون تقديم بديل ..

الاجتهاد لمواجهة متطلبات الحياة ضروري حتى من وجهة نظر الدين نفسه، بدليل الحديث النبوي الذي يقول: من أجتهد وأصاب فله حسنتان ومن اجتهد وأخطأ فله حسنة..

هذا حديث عظيم لانه يشجع على الاجتهاد والتطور الفكري بدليل انه يمنح حسنة حتى لمن أخطأ (بفرض حسن النية لدى المجتهد).. انها مكافئة لانه جازف وتحمل مسؤولية الاجتهاد وإبداء الرأي..

التحريم جاء للربا الفاحش الذي يسبب مضاعفة الدين ويقصم ظهر الشخص المَدين ..

كذلك ينهى عن الربا الذي ينشأ عن كون طالب القرض مُعسر وفي حاجة ماسة ومستعد لدفع كل مايطلبه صاحب المال، وهذا غير موجود في حالة التعامل مع المصارف..

كشذلك فأن المصارف ليست حرة في فرض الفوائد التي تريد فرضها على القروض، حيث هناك السلطة النقدية التي تضع سقوف معينة للفوائد واحياناً تحددها بشكل قطعي..

اضافة لذلك، يسقط شرط من شروط الربا وهو ضمان استعادة رأس المال بغض النظر عن الربح والخسارة. حيث ان البنوك قد تفلس ويخسر صاحب الوديعة امواله كلياً او جزئياً.

المصارف احياناً تعجز عن استرداد القروض التي تقدمها لاسباب مختلفة مما يجعلها تشطبها في موازنتها باعتبارها ديون لايمكن استردادها..

وبذلك تكون جهة استثمارية ..

وحدثني صديق محترم يعمل محامياً في بريطانيا، ان هناك فقرة في القانون البريطاني تنص على اعتبار الودائع في البنوك غير مضمونة وممكن فقدانها .

وقال ايضاً، ان معظم الناس لايعلمون بوجود هذه الفقرة.

اتذكر اني قلت له: وماذا يحصل لو علم الناس بهذه الفقرة؟ هل سيحتفظون باموالهم في البيوت؟

لابديل عن التعامل مع البنوك في الحياة العصرية لتنظيم التعاملات الاقتصادية والمالية الضخمة.

أنا لست فقيهاً ولكني اقتصادي محترف وأدرك اهمية البنوك والعمل المصرفي باشكاله المختلفة في تنمية البلدان، لذلك ابحث عن حل منطقي لهذا التناقض بين مايُطرح كقاعدة اسلامية تحرّم التعاملات المصرفية لانها كلها ترتبط بالربا، وبين واقع حال كل الدول الاسلامية والافراد المسلمين الذين لايمكن لهم ادارة حياتهم بدون المصارف وتعاملاتها !!!

الكل يتعامل مع المصارف وهذه حقيقة !! بعض الجهات اصبحت ترفض التعامل النقدي في معاملاتها وتطلب التسديد بالبطاقات المصرفية او تحويل المبالغ عن طريق حساب الشخص الى حساب تلك الجهة..

فكيف يتصرف الناس؟؟

الناس مضطرون لذلك وقد يشعرون بالذنب كونهم يخالفون تعاليم الاسلام .

لم يقدم لنا الشيخ المحترم بديلاً عن المصارف الربوية !!

اطلعت على فتاوى تجيب على اسئلة بعض الناس المتدينين الذين يحتاجون الى قرض عقاري لتشييد منزل العائلة ولكنهم يشعرون بالذنب لان القرض يتضمن دفع فوائد للمصرف وهذا ربا !

كانت الفتوى: اذا كنت مضطراً وليس لديك بيت آخر للعائلة، فيمكن ان تأخذ القرض وتنوي عدم سداده !!!

هل هذا معقول؟ كيف ينوي عدم التسديد والمصرف سوف يستقطع الاقساط شهرياً من راتبه بواسطة المؤسسة التي يعمل فيها بموجب تعهد ملزِم؟؟

هل هي حيلة شرعية؟؟

المصرف من اعظم اختراعات البشرية، ولايضاح بعض ادواره لنفترض ان هناك ألف شخص كل منهم لديه الف دولار فائض كأدخار وهي لاتكفي لاقامة مشروع منتج.

لذلك سوف يكتنزها في بيته. لكن هؤلاء الاشخاص جميعاً اذا اودعوها في المصرف سيكون لدى المصرف مليون دولار يمكن ان يقرضها المصرف لمستثمر لاقامة مشروع يوفر وظائف ومنتجات وعوائد لاصحاب الادخارات بشكل فوائد.

عندما كانت امريكا تتوسع باتجاه الغرب الامريكي، كانت اهم شروط التطور أقامة مصرف في المدن الجديدة وربطها بسكة القطار..

الايداع في المصارف يوفر حماية للاموال من السرقة.

التجارة الدولية لايمكن ان تتم بالدفع النقدي بل يستحيل ذلك تماماً.

لنأخذ العراق كمثال، انه يصدر النفط يومياً وعلى مدار الساعة وبالتالي فان قيمة المبيعات النفطية تتدفق من قبل الزبائن الى حساب مصرفي عراقي في مصرف عالمي رصين ويجب ان يعطى رقم وتفاصيل الحساب للزبائن لغرض انجاز التحويل..

بالمقابل فأن استيرادات العراق من الخارج من مختلف دول العالم لاتتوقف على مدار الساعة لان هنالك الآلاف من صفقات الاستيراد التي تعقد يومياً.. هذه الاستيرادات تموّل عن طريق السحب من حساب العراق في مصرف او اكثر في دول العالم الكبرى.

هذه العمليات تساوي عشرات المليارات من الدولارات، السؤال هو: هل يمكن انجازها نقداً ؟

هل يمكن نقل عوائد مبيعات النفط الى العراق بالاكياس والقيام بعدّها والتأكد منها وخزنها ثم اعادة ارسال اكياس أخرى الى الخارج لتسديد قيمة الاستيرادات؟

ومن يقبل من دول العالم ان يتعامل بهذا الاسلوب البدائي ؟

العالم يتجه لالغاء العملة في التداول والاستعاضة عنها بالتبادل الالكتروني للاموال للافراد والشركات .

معظم الناس في العالم المتقدم لايحملون اموال نقدية وإنما بطاقات مصرفية ..

اضافة الى ماورد اعلاه من استحالة فنية لالغاء التعامل مع المصارف، هناك نقطة مهمة وهي ترتبط باسباب تحريم الربا الذي كان سائداً في الجاهلية، وهي ان المُقرض (صاحب المال) كان هو من يفرض شروطه على المقترض، وهي شروط تعسفية وقاسية، ولكن من يذهب لايداع امواله في المصرف (صاحب المال) لايستطيع فرض شروطه على المصرف (المقترِض)!!

البنك هو الذي يحدد الفائدة والتي تقترب من الصفر احياناً، وصاحب المال يخضع !! وبذلك سقط شرط الاستغلال والتعسف في هذه المعاملة.

لكي لانطيل الشرح، أقول: لايمكن للتشريع السماوي ان لايكون واقعياً .

التشريع غير الواقعي يجبر الناس على المخالفة وهذا أمر غير جيد ..

الشيخ موضوع نقاشنا وغيره لايريد ان يتحمل المسؤولية وتقديم حلول عملية وواقعية ..

يكتفي بالممانعة والاصرار عليها.

في حين يقول الفقيه الكبير سفيان الثوري: (وظيفة الفقه هي البحث عن المسموح لأن الممنوع مقدورٌ عليه..).

نعم يستطيع الفقيه ان يمنع كل شيء لكي يطمئن ولكن الحياة ستكون جحيماً .. ويجد الناس انفسهم في مواجهة يومية مع الدين ..

يقول الله سبحانه وتعالى: يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر..

وسوف تكون لنا عودة لمناقشة نقاط أخرى اوردها الشيخ تتعلق بسقوط النظم الاشتراكية وازمات الرأسمالية وكونها توشك على السقوط.

ان شاء الله

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم