صحيفة المثقف

"العولمة" إشكالية العصر الكبرى.. نظرة تحليلية (7)

ويمكن اجمال آليات العولمة التي تعتمد عليها في إدارة إقتصادات العالم وكما يلي:

اولاً- البنك الدولي وصندوق النقد الدولي : وكما هو معروف، يُعَدُ البنك الدولي قوة نقدية ومالية تطورت على نحو مذهل وبلغت مستوى التحكم في خيارات شعوب دول العالم الثالث والرابع في مجال تنميتها الاقتصادية وطريقها المستقل للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، بل ان هذه القوة باتت تضغط على سيادة الدول وتصل الى الحد الذي تضع تلك الدول فيه اقتصاداتها تحت الوصاية .

لقد كان باستطاعة الدول النامية حديثة الاستقلال في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تبنت برامج طموحة للتصنيع والتنمية، ورفعت شعارات الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ان تبتعد عن التعامل مع البنك في فترة الخمسينيات والستينيات تجنباً لشروطه وتوجهاته التي كانت لا ترضى عن اية سياسة وطنية مستقلة تميل لإعطاء القطاع العام قوة دافعة وفائدة للتنمية وتعتمد على التخطيط الاقتصادي. أما الآن فالمثير للدهشة، هو انه من النادر ان نجد دولة نامية تفلت من القبضة المؤثرة للبنك الدولي .

بيد انه في ضوء الشروط القاسية التي يضعها البنك الدولي لتمويل مشروعاته في البلاد النامية وانحيازه لدول وتوجهات بعينها، فإن عدداً من الدول النامية قد فضل الابتعاد عن البنك  والإلتجاء الى مصادر التمويل الخارجية الاخرى الأقل تشدداً كالقروض الحكومية الثنائية وقروض المنظمات متعددة الاطراف ومصادر التمويل الخارجية الخاصة، فضلاً عن نشوب خلافات حادة وواضحة بين البنك وبعض الدول النامية التي حاولت ان نلجأ اليه كمصدر خارجي لتمويل عملية التنمية وكانت تتبع سياسات اقتصادية واجتماعية وخارجية لا يرضى عنها البنك ولا الولايات المتحدة .. والنماذج البارزة : الخلاف الشديد الذي نشب بين الهند والبنك إبان تنفيذ الخطة الخمسية الثانية في النصف الثاني من عقد الخمسينيات، ومع مصر إبان معركة بناء السد العالي في الفترة نفسها (*) ، وامثلة اخرى صارخة لدول اميركا اللآتينية والآسيوية والافريقية .

يقول "ماكنمارا" رئيس البنك الدولي السابق (اعتقد ان البنك يستطيع العمل بدون الولايات المتحدة) (**) ، وفي الحقيقة لم يستيقظ الاهتمام الاميركي بالبنك الدولي إلا في بداية الثمانينيات عندما تبين ركود التدفقات الثنائية وتراجع القروض المصرفية. لقد استطاع البنك الدولي، باعتباره أداة فعالة للهيمنة الاميركية ان يرسم حدود (جيو- سياسية) عالمية جديدة، واصبح طرفاً في عملية تفكك العالم الثالث والتمكن من العالم الرابع، وإن نفوذه تجاوز بكثير ما حققته سياسة الحروب لأن ما بعدها هو الذي يفتح شهية البنك وصناع الحروب .

ففي ضوء الاهمية المتزايدة لسياسة الاقراض التي ينتهجها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التنمية الدولية، والتركيز عليها في عرض شروطها على البلدان النامية، فما هي ملامح سياساتها حيال الدول؟ وهل تستهدف فعلاً مساعدتها في مشاريعها أو معالجة مشكلاتها وإختناقاتها الاقتصادية، أم ان هذه المساعدات والقروض تكون مشروطة وتحت تأثير عوامل سياسية وإستراتيجية تستهدف تكبيل الدول المقترضة وإرغامها على تكييف سياساتها وتغيير اولوياتها بالاتجاه الذي يخدم اغراض الدول التي تهيمن على مؤسسات الإقراض الدولية، من خلال الشروط التي تصاحب عادة تدفقات القروض المحسوبة على وفق الجدوى الاقتصادية للمشاريع ذات الطابع الرأسمالي اولاً وعلى ان تخدم القطاع الخاص ثانياً، وتنفذ اخيراً السياسات الاقتصادية والنقدية لتلك المؤسسات والبنوك الدولية.

في ضوء هذه الحقيقة وحقائق اخرى موضوعية، فأن الاتجاه الغربي ينصب على الدول النامية بشكل يؤكد ان النية متجهة نحو ربطها بشبكة محكمة من القروض ومشاريع الانتاج الصناعي التي تجعلها موضوعيا جزءا من مراكز القوى الاقليمية المرتبط بالمركز الرأسمالي العالمي، فيما يبرز الوجه الآخر للتوجه الغربي نحو استنزاف الموارد بدعوى إعادة ما يسمى (البترو دولار) الى دورة الأقتصاد العالمية فحسب، إنما لإنعاش اقتصادات دول الاستعمار القديم ودولة الرأسمالية المهيمنة على صعيد القوة . فالاتجاه الذي يسير عليه البنك الدولي يتوازى مع خط صندوق النقد الدولي، وإن عمل احدهما يكمل الآخر:

اولاً- السياسات التي يوصيان بها تفترض مسبقاً  شكلاً ليبرالياً للتنظيم الاقتصادي .

ثانياً- الاعتماد على القواعد الدولية التي سُنَتْ في البلدان الرأسمالية الغربية، والتأكيد على المشروع الحر وآليات السوق الحرة واحترام الملكية الخاصة.

ثالثاً- التوصية بضغط الإنفاق العام وترشيد الاستهلاك ومعالجات حالات التضخم في الجهاز الوظيفي للدولة وتقويم عملتها المحلية .

رابعاً- معالجة عجز ميزانيتها بزيادة الاسعار ورفع الدعم الحكومي للمواد المعروفة بدعم الشرائح الفقيرة الواسعة في المجتمع .

وتحت شعار حرية الاسواق والتحررية الاقتصادية شنت مؤسسات (برتن وودز) ومنظمة التجارة العالمية، حرباً ضد القطاع العام والتنمية المستقلة، واعلنت ان الخطر الاقتصادي الذي يتهدد الاقتصاد العالمي قادم من القطاع العام والتنمية المستقلة، وراحت تدعو الى تفكيك القطاع العام لفسح المجال للمنهج الليبرالي الذي يقف ضد محاولات إصلاح القطاع العام وزيادة فعاليته في إدارة الاقتصاد الوطني .

هذا التيار الغربي يبشر بالليبرالية الاقتصادية عن طريق صندوق النقد الدولي والبك الدولي، ويدعو الى تفكيك القطاع العام وتصفيته ونقل ملكيته الى القطاع الخاص باعتبار ذلك طريق الخلاص لبلدان الجنوب . كما تدعو الليبرالية الى الخضوع لشروط هاتين المؤسستين ومنظمة التجارة العالمية في تحرير الاقتصاد. فالمواصفات الجاهزة التي يدعو لها كل من البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية لا يجوز المساس بها ولا يسمح حتى بمناقشتها او تعديلها. إن تطبيق الليبرالية يعني انسحاب الدولة من العديد من الانشطة الاقتصادية وتقليص السلطة الوطنية حيثما أمكن، فضلاً عن تفكك القطاع العام وتحجيم دوره وتصفية مشروعاته وخفض الدعم المقدم لما يتبقى منه .

 

د. جودت صالح

....................................

الهامش :

(*)- د. العابدي زكي / التاريخ السري للبنك الدولي- ترجمة دار سينا للنشر/ سنة 1989 .

(**) المصدر نفسه ..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم