صحيفة المثقف

اليسار وقضية التطبيع مع الكيان الصهيوني

كاظم الموسويلم يكن خبر موافقة الاتحاد السوفيتي على قرار تقسيم فلسطين في وقته عاديا، ولا معبرا عن موقف مبدأي او قرار مدروس بابعاده الاستراتيجية، بل كان قاسيا وصعب الهضم عمليا، (كما يقال)، ليس لدى قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي وحدها وقيادة الدولة وحسب، بل ولدى الاحزاب الشيوعية، و"المعسكر الاشتراكي "، والابرز فيها طبعا الاحزاب الشيوعية في الوطن العربي. كان أغلبها في موقف رافض لاي قرار  معاد للشعب الفلسطيني ومن مبدأ احترام نضال الشعوب وتقرير المصير واعتبار الغزو الصهيوني استعمارا. وموقفها منطلق ايضا من كون القرار سن شرعة قيام كيان مصطنع وتحت حجج فيها كثير من عنصرية وعوامل معارضة لواقعها، من جهة، ولا تبرر التفسيرات التي برر بها، من جهة ثانية، وربما سقط الموقف السوفييتي تحت ضغوط المصالح الدولية او التنافس الدولي، من جهة اخرى، وهي الأبرز في الواقع والممكن في فن السياسة. فلا فلسطين ارض الميعاد السياسية التي ادعوا ولا الشعب الفلسطيني هو المسؤول عن قتل اليهود في اوروبا وطردهم من مدنهم وصنع الهولوكست لهم، بل حدث بالعكس تماما، حيث اقترف الصهاينة واسيادهم هولوكست فعليا بالشعب الفلسطيني وعلى ارضه وتراثه وتأريخه، ولا يمكن التعويل على جاليات مهاجرة ان تبني وطنا للاشتراكية والديموقراطية في المنطقة. ولهذا ادت الموافقة الى كارثة ما يحصل الآن، وصنعت ارتباكا سياسيا واحراجا تاريخيا لا تعوضه التبريرات والاعذار الرسمية، فقد ارتكب اغتصاب ارض ماهولة وتشريد شعب آمن، وقيام كيان استيطاني عدواني وأداة للإستعمار وقاعدة عسكرية متقدمة للامبريالية العالمية، تقاسمته القوى الغربية ذات المصلحة والقوة، البريطانية والأمريكية وبالتنسيق والتخادم الغربي عموما والعربي خصوصاً. وارتكب الكيان مجازر وحروبا عدوانية وشكل منذ اعلانه خطرا على الأمن والسلم في المنطقة والعالم. وكل هذا حصل في ظروفه وصراعات المحاور والتحالفات الدولية ومشاريع تنظيمات عنصرية استثمرت في قدرات وتمكنت في فرض خيارات لها على حساب الحق والعدل والانسان.

وهذا الامر اصبح معروفا لكل ذي بصر وبصيرة، كان المركز الشيوعي قائما ومؤثرا في القرار  السياسي وبما انه لم يعد بعد الانهيارات التي حصلت والتي تارخت بسقوط جدار برلين فلابد من تصحيح الموقف والنظر اليه من منطلقات واقعية جديدة تعبر عن المصالح الوطنية والقومية والعمل بجدية لدور مؤثر وفعال في حركة التحرر الوطني. وكما انتهت الاحزاب الشيوعية في اجتماعاتها المشتركة من تاثير المركز وضغوطه فلابد لها الان من الوضوح مع نفسها ونظريتها وموقعها من الصراع الفكري والسياسي والتحرري.

جاءت خطوة التطبيع المعلن الان بين دول عربية والكيان بقرار صهيو امريكي فرصة للاحزاب السياسية عموما، واليسارية خصوصا، لاعلان موقف واضح منها، وتبني الموقف الصريح والصحيح والمعبر فعلا عن التغيير المنشود فيها كاحزاب يسارية وفي إطار تطورات الواقع وصيرورة العملية الثورية التحررية.

وقد اصدرت الاحزاب الشيوعية وبعض القوى والمنظمات اليسارية والعمالية في البلدان العربية بيانات ادانة واستنكار منفردة وفي ادبياتها ووسائل إعلامها المحدودة، مما يعني انها متقاربة في موقفها العام مما جرى وحصل عمليا، وجاء لفائدتها سياسيا وطبقيا، فالحكومات التي اقدمت على التطبيع والغدر بالقضية الفلسطينية حكومات رجعية وراثية متخلفة ايديولوجيا ومرتهنة بمصيرها بالامبريالية العالمية ومتواطئة مع المشروع الصهيوني منذ البدايات ولكنها تتغطى دائما بالغطاء الديني الاسلامي والقدس الشريف، ومسرى الرسول و.، وتعمل في الوقت نفسه في تخريب العلاقات الاخوية الفلسطينية الداخلية والخارجية  والعربية عموما.

ما نشر وعرف من بيانات عن الاحزاب الشيوعية في مصر ولبنان والأردن والعراق وسورية والسودان ومنظمات واتحادات وقوى يسارية في تونس والمغرب والجزائر والبحرين والكويت، وربما في غيرها ايضا. واجمعت هذه البيانات التي صدرت ونشرت على إدانة التطبيع واعتباره مذلة واستسلاما ومجانيا وغدرا بالقضية الفلسطينية وانكارا لحقوق الشعب الفلسطيني واستهانة بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وكل القوانين والاتفاقات الدولية التي يستند إليها نضال الشعب الفلسطيني وداعميه من العرب واحرار العالم. وهذا الموقف في هذه اللحظة سليم ومطلوب ولكن الرفض والاستنكار والشجب لا يعني التجريم والتحريم وقد يتحول الى مهادنة واتفاق وتبرير للاحوال والمتغيرات والضغوط كما حصل في عام النكبة..! وهنا السؤال والتأكيد على تصحيح الموقف واصدار توضيح يبين موقف اليسار التاريخي من القضية الفلسطينية والتحرر الوطني وتقرير المصير وعدالة قضايا الشعوب.

امام هذه القضية الحساسة والمهمة والراهنة الان أكثر من أي وقت اخر، يتطلب التفكير في أمور اخرى، تتعلق بطبيعة المرحلة والقضايا الراهنة والموقف الطبقي والعلمي منها. من بينها مصطلح اليسار، الذي يتطلب اعادة نظر معاصرة، اذ يتوجب تعريفه ليس كما كان لكل من يحمل اسمه او الشيوعية لفظيا، وانما ارتباطا بالمواقف والعمل الثوري الذي يقوم به ويقوده نظريا وعمليا. فليس صحيحا ان تكون يساريا وتتعانق مع القوى الراسمالية والامبريالية، مصيرا ومسيرة، او التقارب الى ادواتها وركائزها السياسية والاجتماعية في الكفاح الاستراتيجي وتبني برامجها ومناهجها في العملية الثورية وقبول قيادتها لها حتى في ظروف انحدارها وتذبذبها السياسي والفكري على مختلف الصعد. حيث يصح السؤال هنا: كيف تميز اليوم بين اليسار واليمين في السياسة والمواقف الفكرية والعملية؟.

كشف اعلان التطبيع السياسي بين عواصم وحكومات عربية والكيان الاسرائيلي بقرار امريكي وبتغريدة رئيس امريكي في الاسابيع الاخيرة من موعد الانتخابات الرئاسية، عن استسلام رسمي عربي مهين ومذل، لا يشفع او  يعطي اي تبرير  لما اعلن وقرر لهم ما لم يستطيعوا البوح به علنيا ورسميا... وهذا الوضع لابد من تحليله واقعيا وتقييمه عمليا ووصفه في إطار صيرورة العملية التحريرية لشعوبنا العربية ولقضية الشعب الفلسطيني خصوصا، وعاجلا.

المحك الآن لكل من يعتبر نفسه من اليسار، في توضيح صوته وصورته، لا تلاعب في الألفاظ والعبارات ولا دوران حولها. الكيان الاستيطاني في فلسطين المحتلة صنيعة استعمارية لمشاريع وخطط تفتيت الوطن العربي وتدمير وحدته وحرمانه من التحديث والتطور والتقدم، ولا يمكن في الحالة هذا التفرج على ما يقوم به وانتظار  نتائجه، وهذه مجرد إشارة وانتباه وعلى الاحزاب والقوى معرفة مكان اقدامها من الان وقبل فوات الاوان.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم