صحيفة المثقف

نوري المالكي.. تحليل شخصية بمعطيات العملية السياسية في العراق (4)

قاسم حسين صالحتناولت الحلقتان السابقتان مؤشرات التحليل و(العقد) الخاصة بشخصية السيد نوري المالكي،الناجمة عن مصدرين:شخصيته هو كأنسان،وطبيعة الأحداث التي عاشها بعد 2003..ولهذا تناولت هذه الدراسة تحليلا (سيكوبولتك) للعملية السياسية في العراق..ما يعني انها شريك في تشكيل تلك المؤشرات وصناعة تلك الاحداث.

في الحلقة الأخيرة هذه نستكمل التحليل الخاص بشخصيته وانعكاسات ما حصل من احداث بعد 2003.

سيكولوجيا الخليفة

مشكلة الحاكم العراقي والعربي بشكل عام،انه ورث عن الخلافتين الأموية والعباسية ان بقاءه على كرسي الحكم كبقاء الخليفة..لا يغادره الا يوم يخصه عزرائيل بالزيارة،أو يقتل. وهذا ما حصل في التاريخ السياسي للدولة العراقية عبر مئة عام..الى عام 2003 يوم تولى الحكم محتل اجنبي(بريمر) تلاه تناوب رؤساء مجلس الحكم، الى تشكيل اول حكومة برئاسة أياد علاوي(2004) تبعه الجعفري(2005) وصولا الى  المالكي(2006).

ومع ان الدستور ينص على ان يأتي الحاكم(رئيس مجلس الوزراء) عبر برلمان منتخب ديمقراطيا،الا ان سيكولوجيا الخليفة دفعت بالمالكي ان يستخدم السلطة والمال في انتخابات اكد مراقبون انها رافقتها حملات تزوير وهدايا وشراء ضمائر ووعود ليبقى على كرسي الحكم.

وهناك ما يؤكد ذلك.فحين جرى ترشيح حيدر العبادي (2014) لرئاسة مجلس الوزراء،وقف المالكي بالضد منه،واصفا اياه بأنه يمثل نفسه لا حزب الدعوة الذي هو أمينه.بل ان الامر وصل الى (تجييش) حزب الدعوة ضد ترشيح العبادي،وحملة (تثقيف) بأنه لا وجود للشيعة الا بوجود المالكي،مصحوبة بتهديد احدى القياديات فيه بقولها (ستكون شوارع بغداد دمايات ان ترشح احد غير المالكي).

وكان لهذا المأزق بعد سيكولوجي - سياسي خلاصته ان  المالكي رأى في صاحبه العبادي أنه غدر به،وهز (الخليفة) بداخله،واطاح بطموحاته التي صورت له انه زعيم من نوع فريد، واشعرته بخوف سياسي يهدد مكانته ان نجح العبادي فيما لم ينجح هو فيه.وهذه حقيقة ادركها العبادي نفسه حين شعر يومها بمخاوفه التي دفعته الى التصريح علنا في كربلاء (يريدون يقتلوني..خل يقتلوني). وكان العبادي متحررا من (عقدة الخليفة) يوم سلّم رئاسة الوزراء بسلاسة لخلفه عادل عبد المهدي،فيما هي ما تزال تسكن في اعماق السيد المالكي الذي ما يزال يتصرف بها كما لو كان رئيس دولة في استدعائه بمكتبه لوزراء حكومة الكاظمي.

وثمة حقيقة مؤسفة ان الغالبية المطلقة من حكاّم العراق هم من جيل تجاوزه الزمن،ومع ذلك فان سيكولجيا الخليفة تتحكم بهم مع انهم اثروا..بملايين ومليارات وقصور ومولات وشركات،وان عليهم ان يتركوا الأمر لجيل الشباب، وتلك حقيقة يعترف بها السيد المالكي ويدعو في تصريحاته الى ان يتركوا قيادة البلد للشباب (لأنهم فشلوا وأنا منهم!- نص عبارته)..ولكن افعاله الآن..في زمن حكومة الكاظمي تؤكد النقيض.

التعصب الطائفي

اخطر ما افسدته سلطة المالكي (2006-2014)  في الشخصية العراقية هو التعصب للهوية والمذهب..فليكن لدينا فهم مشترك للتعصب بلغة العلم.

يعني التعصب بمفاهيم علم النفس الاجتماعي والسياسي:(الاتجاه السلبي غير المبرر نحو فرد قائم على اساس انتمائه الى جماعة لها دين او طائفة او عرق مختلف ،او النظرة المتدنية لجماعة او خفض لقيمتها او قدراتها او سلوكها او صفاتها ،او اصدار حكم غير موضوعي قائم على تعميمات غير دقيقة  بشأن جماعة معينة).

ان اخطر انواع التعصب الذي شهده العراق وتجسدت فيه الكراهية بابشع حالاتها هو التعصب السلطوي الذي أخذ  شكل الحروب وصلت في حالات حدَّ الإبادة البشرية، كالتعصب العرقي ضد الكرد،الذي مورس من قبل السلطات العربية التي توالت الحكم على العراق وأبشعها الأنفال وحلبجة،والتعصب الطائفي بإبادة آلاف الشيعة التي كشفتها المقابرالجماعية.

ومع ان التعصب موجود في مجتمعنا قبل التغيير لكن اعراضه ما كانت حادة الى عام 2005 حيث انفجر بعنوان جديد هو صراع الهويات.والمسألة المهمة سيكولوجيا هنا هي ان للهوية الدور الاكبر في تحديد اهداف الفرد وتوجيه سلوكه ونوع العلاقة التي تربطه بجماعة اجتماعية معينة او جماعات لاسيما في اوقات المحن والازمات..وهذا ما حصل زمن حكم المالكي بين عامي( 2006 و2008 ) في احتراب راح ضحيته عشرات الالاف من العراقيين وصل الى مائة قتيل في اليوم (في تموز 2007)..اطلق عليه (الأحتراب الطائفي) فيما الأصح تسميته (أحتراب عقائدي) سخيف..ان مفرزات على الطرق تطلب هويتك وتقتلك ان كان اسمك (عمر او حيدر او رزكار!)..فيما كان على المالكي بوصفه القائد العام للقوات المسلحة والمسؤول الأول عن حياة جميع العراقيين،ان يبسط سلطة القانون ويتعامل بحزم مع عصابات تنتمي لأحزاب وكتل وفصائل شيعية،لكن المالكي كانت تريحه فكرة سيكولوجية توحي له بأن يقول:لكي ابرر لنفسي ما فعلت،افترض في الاخر سوء النية،ويستحق ان افعل معه ما فعلت!

ونضيف ما يستفز طائفيين في السلطة،ان الدراسات الكلاسيكية توصلت الى ان فكر التعصب (التطرّف) يتغذى على معتقدات مفبركة واحداث تاريخية مزورة،يشيع بين جمهور محدود الوعي يسهل توجيهه واقتياده حتى إلى الهلاك،فيما يرى السيكولوجيون المعاصرون ان التعصب يعد هوسا مرضيا بالهوية،سببه ان المتعصب لهويته يعتقد،او جعلوه يعتقد،بوجود تهديد يستهدف القضاء على هويته وشحنه نفسيا بآلية  التخويف من الآخر وتصويره مصدراً لتهديد دائم يستهدف انهاءه الذي قد يكون التهديد حقيقياً، أو مبالغاً به،أو مفتعلاً،او وهما من نوع البرانويا،او هوسا دينيا..وهذا ما وظفّه المالكي في جماهير الشيعة،بعضها عن قصد(التباهي بالماضي وعقدة أخذ الثأر..) وبعضها ما كان يدركه(تمكين اللاوعي الجمعي من التحكم بسلوك مكونات المجتع،يضطر الحاكم ان يكون منحازا)..ودفع العراقيون ثمنه آلآف الضحايا الأبرياء.

ختاما: كان اختيارنا لشخصية السيد نوري المالكي مقصودا،فالرجل انضم الى حزب الدعوة الاسلامية في سبعينيات القرن الماضي واصبح قياديا فيه في الثمانينات وعمل بعد 2003 متحدثا رسميا باسمه واتلاف احزاب الشيعة والائتلاف العراقي الموحد..ويعد من انشط السياسيين العراقيين بعد 2003،حيث استطاع الأنفصال عن الأئتلاف العراقي الموحد وتكوين ائتلاف جديد بأسم (ائتلاف دولة القانون)تمتع بقاعدة شعبية واسعة بين جماهير الشيعة،مكنته بالحصول على 89 مقعدا في انتخابات 2010 بفارق مقعدين عن ائتلاف (العراقية) الذي يقوده أياد علاوي.

والأهم..ان الكثير من الذي يحدث الان ناجم عن تركيبة شخصيته ودوره الكبير في العملية السياسية العراقية،فبدءا من عام 2006 اصبح المالكي الرجل الاول في العراق في ولايته الأولى وسط احداث عنف طائفي كانت تهدد البلاد،وقاوم  ضغوط اميركا التي ارادت تمديد وجود قواتها ،ودافع عن نفسه ضد اتهامات بتركيز السلطة بيد حلفائه، واستغلال القضاء، ،وتكميم الأفواه ومصادرة حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور،وهو احد المشاركين في كتابته في اللجنة التي اختارتها الولايات المتحدة، واحتكاره اهم مؤسسات الدولة لأفراد عائلته واقاربه واعضاء حزبه وتهميشه للكوادر العلمية ومسؤوليته في ايصال العراق الى بلد طارد للأبداع والمبدعين.

وكنا أتينا على ما يحسب ضد المالكي،وأقبحها خيانة الأمانة التي تخص الناس حين تكون بذمّة حاكم مسؤول عن الرعية،وأوحشها حين يكون هذا الحاكم قياديا في حزب اسلامي،وافجعها حين يعلن هذا الحزب انه يقتدي بالأمام علي ويعلن للرعية بأن:(لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لانقلب عاليها سافلها)،لأنه كان على يقين بانه ان كشف الفاسدين وابناء المسؤولين من الخصوم فانهم سيفضحون حيتان فساد من حزبه،فأوصل الحال الى عجز سلفه حيدر العبادي عن تنفيذ وعده بضرب الفساد بيد من حديد (لأنهم مافيا..ويمتلكون المال والقوة والفضائيات)..ووعد حاسم دون تنفيذ من سلفهما مصطفى الكاظمي الذي يحسب انه مع تحقيق مطالب المتظاهرين في محاسبة الفاسدين.

ونعيد التذكير بأن تحليلنا هذا وثّق ،للتاريخ والأجيال، تحليلا علميا للعملية السياسية في العراق بعد التغيير،وقدم مؤشرات عن شخصية السيد نوري المالكي بوصفه أبرز من حكم العراق بعد التغيير. وكان يمكن لهذا الدراسة ان تكون اعمق واوفى لو استوفت شرط تطبيق اختبارات ومقابلة شخصية معه،وليته يوافق على ذلك،ويستجيب لدعوتنا في مناظرة تلفزونية ستشكل سابقة..لأن السياسيين العراقيين،والعرب ايضا،لا يحبون علماء النفس والاجتماع،لأمر..هم وانتم تعرفونه!.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

4 ايلول/ سبتمبر 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم