صحيفة المثقف

كلمات من دفتر الأحوال (18)

كاظم الموسويأيام وأشهر متواصلة عشناها في البلوك الرابع والأكاديمية عموماً. طلبة الدراسات العليا مكثوا أكثر من ثلاث سنوات، متواصلة... ومرّ عليهم طلاب دورات تثقيفية قصيرة، أو صيفية، سكنوا في البلوكات الأخرى، وكان المطعم - البار مكاناً مناسباً للقاءات والأحاديث وأحياناً السهر مع الطلاب الجدد، أو المتواصلين، وأحيانا تبرمج برامج فنية وغنانية وتبرز مواهب ومفاجئات.

في طول الفترة، في أكثر الأحيان، رغم تجدد الرفاق بحكم فترات دراستهم، تتكوّن صداقات جميلة فيها، وتعرف النفوس خلالها، وتزداد معرفة الناس. كنت قد كتبت لافتة بخط جميل فوق طاولتي في مكتبي الدراسي في شقة السكن، عبارة لن تنسى للشاعر التقدّمي التركي ناظم حكمت تقول: "ثروتي في هذه الدنيا صداقاتي". وهذه حكمتي في تلك الأيام. وبين الصداقات الجديدة تولدت علاقات إنسانية طبيعية. فهناك عدد من الزميلات البلغاريات، ومن جنسيات أخرى يدرسن معنا، ويعيشن مثلنا في ظروف الدراسة والسكن والحياة اليومية الجارية في البلوك والمجمع الأكاديمي. وقد حصلت علاقات بينهن وبين أغلب عزابنا وحتّى بعض المتزوجين، الفرادى القادمين بدون زوجاتهم إلى الدراسة، وهناك زملاء متزوجون ومعهم زوجاتهم، فأذكر مثلا الرفيق أحمد من فلسطين وزوجته وابنته، والرفيق محمّد من اليمن الديمقراطي حينها وزوجته البلغارية وابنته أيضاً، كما هناك آخرون لم نحتك بهم مباشرة، ولكن يبقى السلام بيننا ويؤدي بالإشارة من بعيد.

في هذه العلاقات الإنسانية حصلت قصص كثيرة، منها طبيعي وعادي ومنها أبعد قليلا. فكرت مرة أن اغوص فيها وأعيد تدوينها وأسردها رواية بعنوان: البلوك الرابع. فمازالت شخصياتها تدق في ذاكرتي رغم مرور سنين طويلة، وعبور مياه كثيرة تحت جسور الحياة والتنقلات والتغيرات والتبدلات، وقد يغور بعض منها أو يتسرب من الذاكرة مع مرور الزمن. ولكنها ظلت كذلك، في فصولها ودراميتها وذروتها وموجاتها، ربما يأتي زمنها أو تظل كأمثالها من المشاريع التي خططتها ولم أنجزها بعد.

من أجمل اللقاءات ما كان يحصل دون تخطيط مسبق، أو بشكل عفوي، حيث كان الإخوة من اليمن من المبادرين دوما في هذه اللقاءات. فجأة تجدهم مجتمعين في زاوية ما من الحدائق الخضراء، يتوسطهم عازف العود، والغناء الطرب من مختلف المغنين المعروفين، ومنها طبعا الأغاني اليمنية. ومع الطرب والتجمع تبدأ أفكار أخرى، شواء لحم ومشروبات مختلفة، تتقدمها حبات بيرة، كما يطلق عليها الإخوة اليمنيون.

برنامجي اليومي يبدأ صباحا بهرولة قصيرة أو تمارين رياضية خفيفة ومن ثمّ أخذ حماما سريعا وبعده أعدّ الفطور من الأطعمة الموجودة في الثلاجة، الأجبان والحليب والمربيات والخبز الأسمر والزيتون وربما بعض خضروات. وبعد أنْ أهيئ القهوة أبدا أو استعدّ للقراءة والبحث، في الكتب والمراجع والصحف وما تيسر منها وتذكر ما يتطلب السؤال عنه عند الرفاق أو الأصدقاء والتحضير للقاء بالأستاذ المشرف والنقاش معه أو مع الرفاق الآخرين حول تطوّر البحث ومستجداته أو التوسع في المصادر له ودعمه بما هو جديد عليه، غير منشور سابقاً، أو في ثنايا الوثائق والمراجع والصحف اليومية والحزبية منها طبعاً. حتّى الظهر أو ما بعده افكر بالغداء ومكانه، في السكن أو في مطعم الأكاديمية أو خارجها، والعودة من جديد إلى مكتبي، حيث أبدأ بسماع الأخبار من الراديو أو التلفزيون، وقراءة سريعة لما وصلني من صحف أو رسائل إخبارية، والاستمرار بعدها بما مخطط له سلفا، حتّى الشعور بالتعب فاتّجه إلى الاستراحة وتوفير راحة حسب ظروفها ومكانها وتنوعها في العلاقات والصداقات.

كلّ نهاية أسبوع، في يومي السبت والأحد، العطلة أو الإجازة الرسمية، هناك برامج منوعة، مشتركة ومنفردة، سهرات وحفلات، مطاعم وكازينوات، خارج المجمع الأكاديمي، في وسط العاصمة أو في منتجعاتها السياحية، والجبال التي تحيط بها والغابات التي تكسوها، وما لذ وطاب حسب الامزجة والمناسبات والعلاقات والصلات. كان الرفيق الراحل أبو دنيا، (ماجد عبد الرضا) يدرس معنا ويسكن خارج السكن الجامعي، يتصل بي ويوعدني في مكان من تلك الأمكنة التي أصبحنا زبائنها من كثرة ترددنا إليها، حتّى أصبح العاملون فيها يعرفون طلباتنا من الأكل والشرب، وحتّى المكان كانوا يحجزونه لنا باستمرار. كنت مسرورا في تلك الجلسات والتمتع بها، استمرارا للعلاقات التي بدأت في عملنا في قسم الشؤون العربية والدولية في جريدة "طريق الشعب" العلنية، والسفرات التي كان ينظمها القسم ويشترك في كلّ رحلة أغلب العاملين في القسم وجيرانه أو المحبين مثلنا لتغيير الأجواء وزيارة أماكن مختلفة قريبة من بغداد، يمكن أن تتم الرحلة إليها خلال يوم واحد. وكانت هذه الفعاليات والنشاطات شهرية أو كلّ أسبوعين أحيانا.

كنت أحب جبل "فيتوشا" القريب من مجمعنا، أكثر من غيره، وأحيانا كنت مع الرفيق الراحل أبو علي (حسين سلطان) ننظم استراحتنا وتحرّكنا إليه صباحا مبكرا والعودة منه قبل غروب الشمس وزوال الضوء. نتمشى بهدوء ونتوقف في محطات فيه، حتّى قمته ونعود منها كذلك. من الطريف أنَّ الرفيق أبو علي يجهز يوم الجمعة وجبات طعامنا، وأكثر المرات كانت الدولمة والبرياني، والشاي وملحقاته، نحملها في حقائب على أكتافنا، وقد تتعبنا بعض الشيء، ويقول لي عاتبا عند العودة: اكلنا كثيرا اليوم، كيف تمّ هذا، ولماذا لم تحذرني؟، السنا نريد الرشاقة؟ تخفيف وزننا وكروشنا التي تتهدل أمامنا؟ وننغمر بضحك وطرائف من تجارب حياتية سابقة، خاصة في فترات الاستراحة في شواطئ فارنا، أو سوتشي أو مصحات كارلوفيفاري أو غيرها... ونعمل شايا أخضر لنهضم ما أنقضّينا عليه في محطات الجبل، ونعود إلى برامج العمل اليومية والاستعداد لمتطلباتها الجديدة.

أغلب مساءات يوم الأحد نقضيه في مسيرات مشي من وسط العاصمة عبر شارع المشي المشجر والمزدان بنافورات المياه التي تضيف رونقا وإمتاعا له، وصولا إلى برج البانوراما، والمقهى الذي في قمته، والتي نستراح فيها أو نكمل يومنا في مطعم قريب قبل أن نرجع في الحافلة الأخيرة.

مرة جاءني رفيق برسالة مفتوحة معنونة لي وعلى عنواني البريدي من الرفيق أبو خوله، (باقر إبراهيم) من طهران، واستغربت من الرفيق الذي أوصلها لي ولماذا مفتوحة، فبرر بأنَّه فتحها بالخطأ، ووجدها في صندوق بريده، ولما أريته عنواني عليها صحيحاً وكاملا، هزّ بكتفيه وترك الرسالة بيدي ودمي يفور في جسدي، ولأني أعلم أن بعض الحزبيين يمارسون مثل هذا الدور الحقير، ويتشرفون به ويشرّفون على ضوئه في أغلب الأحيان. قرأت الرسالة المختصرة بعد التحيّة والسلام من طهران... "وصلنا بسلامة ولا نعرف بعد توجهنا سأعلمك لاحقاً، سلامي للجميع". وغرقت بالضحك على الذي فتحها وتخيل الكثير قبل أن يقرأها، وكيف سيحصل على ترقية حزبية من ورائها ولما خاب أمله أودعها عند الذي حملها لي وترك له التصرف. وبغباء أوصلها كما هي، كان بإمكانه لصقها مثلا، وإيجاد سبب لوصولها إليه، إلا إذا كان هو وجماعته يريدون إيصال رسالة أخرى غير الورقية التي حملها، رسالة تقول لي أنت تحت مراقبتنا وأن شكوكا عندنا حول علاقاتك مع بعض الرفاق (أبو خوله وجماعته)! الذين هم أيضاً في دائرة المغضوب عليهم وعليك. ليست هذه الأعمال الخسيسة جديدة، ولا غريبة أيضاً، ولهذا لم تعدّ الثقة كما كانت، ولا احترام الادعياء بالتحزب وادّعاء الحرص على الحزب من قبلهم، كملكية خاصة بهم، قائمة منذ تلك الأيام إذا لم يكن قبلها. والبقاء كان بالتأسي بالأغلبية التي جاءت إلى الحزب، بقناعة وإدراك مصيرها ومستقبلها، وقضت عمرها من أجل أهداف الحزب وبرامجه وأنظمته، دون أن تفكّر يوما، كما يفعل هؤلاء، لمصلحة ذاتية أو انتفاع شخصي أو عمل يضر بمسيرة الحزب ويهمل دماء شهدائه وإخلاص مناضليه الحقيقيين.

حصلت على رقم صندوق البريد في المجمع الذي وصلت الرسالة المذكورة عليه من رفيقة عراقية أنهت دراستها وغادرت البلاد كلها، وكان الحصول عليه ليس سهلا لمحدودية عدد الصناديق، وكثرة الطلاب، ولهذا يتوارث الرفاق تأجير رقم الصندوق لضمان وصول الرسائل ورغم ذلك حصل ما حصل، في ذلك الزمان وذلك المكان. وربما لا تأمن على سلامتك أيضاً، فالذين تربوا على مثل هذا السلوك لا يعدم عندهم ارتكاب ما لا يخطر بالبال منهم ومن أمثالهم. ويبقون يطلق على مفردهم: مناضل حزبي، شيوعي أو يساري أو ما شابه. وحين تنتقده وتدينه يقولون لك إنَّك تستهدف الحزب، وحين تردهم بما قام به اعضاؤهم الحزبيون يقولون لك هذا تصرف فردي من رفيق، يمكن حلّه.

كتب الرفيق أبو علي (حسين سلطان) في رسالة داخلية إلى قيادة الحزب وطلب قراءتها في مؤتمر الحزب الذي لم يدع له وهو عضو لجنة مركزية، أنَّ الثقة بيننا مثل الزجاج، إذا كسرتموه لم يعدّ يسيرا عليكم إعادته كما كان، وهذه قضية بدأتموها أنتم وعليكم إثبات موقفكم منها أوّلا وأساساً.

وقف صاحبي مردداً كلمات مضيئة للإمام علي:

* إن كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الأخلاق، ومحامد الأفعال.

* لقد فات ما فات وذهب ما ذهب.

* من لم يثق لم يوثق به.

* أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان.

* ليس كلّ مكتوم يسوغ إظهاره لك، ولا كلّ معلوم يجوز أن تعلمه غيرك.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم