صحيفة المثقف

حول التعليم والتطور العلمي والمعرفي

صلاح حزامقبل ايام طرح احد الاصدقاء الاعزاء قضية التعليم في العراق في منشور له. وقد اثار الموضوع عدد من النقاشات بين عدد من المتابعين المحترمين.

لاحظت من خلال متابعة النقاش ان بعض المعلقين تناولوا التراجع في مستوى التعليم باعتباره أحد من مساويء النظام السياسي والبعض يعتقد انها مؤامرة مقصودة لادامة تخلف البلد الخ......

يعتبر التعليم والبحث العلمي واحدا من أشد النشاطات التي تتأثر سلبا او ايجاباً بالبيئة المحيطة بذلك النشاط . والمقصود بالبيئة هنا، البيئة بمعناها العام وبكافة ابعادها.

انها ترتبط بالفلسفة السائدة التي تحكم البلد وكيف ترى مستقبل ذلك البلد، انها ترتبط برسوخ وثبات المؤسسات واستقلاليتها ووضوح منهجياتها.

التعليم لايمكن ان يكون نشاطاً تحكمه الشعارات السياسية التي تتبدل كل يوم وتصدر عن اشخاص جهلة حتى لو كانوا وطنيين مخلصين . انه يحتاج الى ادراك واضح بان التعليم سبب تطور كل جوانب الحياة الاخرى.

انها ليست أجراءات وقرارات حكومية فقط، بل هي، ايضاً، بيئة محيطة بالطالب تشجعه وترغمه على الدراسة الجادة وعلى التعلم الحقيقي.

اساليب التدريس والمناهج وادوات التعليم وآليات الانتقاء والاختيار كلها

ضرورية وحاسمة في اهميتها..

ولكن هل ان المؤسسة السياسية تدرك حقاً اهمية التعليم؟

واذا كانت تدرك، هل تستخدم الاساليب الصحيحة من اجل ايجاد عملية تعليمية وعلمية سليمة؟

وماذا لو كانت تعتقد ان المجتمع المتعلم جيداً يشكل خطراً محتملاً عليها ؟

الغوص في تفاصيل كل نشاط تعليمي وماله وما عليه (كما فعل بعض الاخوان) يستهلك الوقت ويسبب تشتتاً في الجهد والوقت ويبدد النقاش.

لذلك ارى ان من الافضل الذهاب الى السبب الاساسي وراء مايحصل في التعليم وفي غيره.

وهو باختصار، أن البيئة العراقية ومنذ تاسيس الدولة العراقية في بداية العشرينيات، هي بيئة عقيمة وغير قادرة على توفير مستلزمات التطور !!!

لماذا لم يشهد العراق تنمية سياسية ؟ وهل يعقل ان يدار البلد على مدى قرن من الزمن بعقلية الانقلاب العسكري ؟ الا تتفقون معي ان البلد يشهد باستمرار نكوصاً سياسياً وارتداداً الى الوراء على صعيد البناء السياسي؟

يتحدث الناس عن تجربة ديمقراطية وليدة كانت تتطور بهدوء في العهد الملكي الى أن جاء العسكر وقاموا باغتيالها في عام 1958. وتلا ذلك حوالي الستين عاماً من الفوضى وانعدام الهوية السياسية... في العام ١٩٥٨ كان قد مضى اكثر من خمسة وثلاثين عاما على قيام الدولة والوضع السياسي كان بدائياً مما جعل من السهل على الضباط المغامرين الاطاحة بالبلد وليس بالنظام السياسي فقط .

قد يستغرب البعض من هذا الاستغراق في الجانب السياسي وغياب التنمية السياسية مع ان الموضوع هو عن التعليم والبحث العلمي .

في الواقع ذلك يعود الى قناعتي بان واقعاً سياسيا متقلباً وغير مستقر لايمكن ان ينتج نظاماً تعليميا رصيناً.

عندما يدار البلد بعقلية العصابة فهذا يعني انه بلا هوية او فلسفة للحكم ..

التعليم يحتاج الى فلسفة سياسية والى نخبة حاكمة تدرك وتؤمن بأهمية التعليم المتطور.

من في تاريخنا المعاصر من نخبة الحكم يفهم خطورة التعليم ويؤمن به ؟

في بريطانيا وعلى سبيل المثال، قام توني بلير بالتركيز على موضوع (الحراك الاجتماعي)

Social mobility والذي كان يراد به تسهيل الانتقال العمودي بين الطبقات الاجتماعية، اي ان الفرد المنتمي الى الطبقات الدنيا يستطيع الانتقال الى طبقة عليا.

( يمكن العثور على هذه المساهمات الفكرية بالرجوع الى كتاب :Blair revolution revisited).

وقرر بلير ان التعليم وحده هو الوسيلة التي يستطيع هؤلاء الصعود بواسطتها الى طبقة اعلى وبما ان بلير هو زعيم حزب العمال،الذي هو حزب اشتراكي، تَقرر توفير وسائل الدعم للطلاب المؤهلين من الطبقات الدنيا الفقيرة لتمكينهم من الحصول على تعليم جيد يستطيعون من خلاله احتلال وظائف عليا.

وهذا طبعاً تطبيق حرفي لفلسفة افلاطون فيى التربية عندما قال : ان الناس معادن وكل معدن يحتل وظيفة تنسجم مع نفاسة المعدن أو خسته. ولكنه أضاف بأن المعادن الخسيسة يمكن ان تنتج معادن نفيسة والعكس صحيح...مما يعني ان افلاطون كان يؤمن بالحراك الاجتماعي وضد التقسيم الطبقي الابدي.

هذا نموذج لكيفية فهم وظيفة التعليم من وجهة نظر التطور الاجتماعي واشاعة العدالة.

الرئيس الامريكي ريغان عندما علم بتقدم السوفيت وبعض الدول الاوربية واليابان على الامريكان في بعض الميادين العلمية، قرر القيام بمايشبه الثورة لتطوير التعليم ومناهجه في الولايات المتحدة . وانا عندما اقول الرئيس ريغان فإنما أعني المؤسسة الامريكية وليس شخص الرئيس فقط. وهذا طبعا يعكس ادراك المؤسسة السياسية لاهمية التعليم على صعيد التنافس الاستراتيجي.

هذه أمثلة على اهمية التعليم من وجهة نظر مؤسسات الحكم وفلسفة النظام السياسي، اما من وجهة النظر الفردية التي تُعتبر هي الفيصل في تطوير التعليم،فان قناعة الفرد باهمية التطور العلمي لابد منها لإحداث التقدم المنشود. واقناع الفرد لايعني الوعظ ومناشدة الحمّية الوطنية، بل جعل الفرد يخضع لقوانين محيطة به توصله الى تلك القناعة.

ذلك يستند على فرضية اساسية تستخدم في الاقتصاد الجزئي في موضوع سلوك المستهلك، وهي ان : الفرد رشيد ( rational)

عندما يكتشف الفرد ان القوانين التي تحيطه تتمحور حول البقاء للأصلح وانه لامجال للوساطة او الاحتيال، يتوصل ببساطة الى ان الحصول على شهادة خالية من المحتوى لن ينفعه في شيء وانه يبدد امواله ووقته على شهادة لاقيمة لها، سوف يُقبِل على التعلّم ولن يرفض المعرفة الحقيقية التي يعرضها الاساتذة ولن يتذمر لانه يعرف ان ذلك في مصلحته.

في الولايات المتحدة على سبيل المثال، لو قدم الشخص كل شهادات العالم وقدم سيرة ذاتية عظيمة فان ذلك لن ينفع مالم يثبت بالتجربة انه قادر على القيام بالعمل بالكفاءة المطلوبة.

٨٠٪؜ من الانفاق على البحث العلمي في الدول المتقدمة تقدمه الشركات الكبرى، وهي لاتقوم بذلك لانها تعشق العلم وتبحث عن الحقيقة المطلقة، وإنما تبحث عن حلول لمشاكل او لتطوير منتجات ترى انها مطلوبة .. الانفاق على مشاريع البحث العلمي وهو قد يصل الى مئات الملايين من الدولارات يخضع الى دراسة جدوى لبيان النتائج المترتبة على ذلك. ولهذا الغرض فهم يوظفون خيرة الباحثين وبمكافآت ضخمة.

ذلك يخلق سوقاً ضخمة للعلم والبحث العلمي بعد ان صار المنتَج العلمي بضاعة قد تدر المليارات..

هذه الشركات لاتوظف الفاشلين واصحاب الشهادات المزيفة او محدودي الكفاءة ..

انها المنافسة مرة ثانية تقف وراء التطور العلمي..

التوظيف في الدولة على الطريقة الريعية من قبل حكومات تسعى لإسكات الناس ونيل رضاهم، جعل الاجتهاد عملاً غيرُ مجدٍ ... بعد ان اصبح المجتهد والفاشل يحصلان على نفس الفرص والمزايا.

آلان غريسبان رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي الامريكي السابق قال ذات مرة : التهديد بشبح البطالة ضروري للانضباط وزيادة الانتاجية ( طبعاً أثار كلامه احتجاجات النقابات وغيرها).

لكنه كان يتحدث عن المنافسة وتطبيق قاعدة البقاء للاصلح..

الفرد الياباني ينتهي من عمله في الخامسة مساءً ..لكنه لايعود الى البيت بل يتناول طعامه في الخارج ويذهب الى معاهد التدريب المسائية .

ينتهي من التدريب في التاسعة مساءً ويعود الى البيت..

الدافع هو الخوف من فقدان الوظيفة نتيجة تخلف وتقادم مهاراته ومعارفه..

في الدول المتقدمة لايذهب جميع الطلاب الى الجامعات ..

نسبة عالية يفضلون التدريب المهني لانه يرسلهم بسرعة الى سوق العمل..

او لأن نظام التعليم لايقبلهم لانهم لم يحققوا درجات عالية وفشلوا في بعض الاختبارات..

النخبوية مقابل الشعبوية أمر ضروري للنهوض بالواقع العلمي، توفير فرص التعليم العالي لايمكن ان يكون مكافآة تمنح لمن لايستحق وليس مؤهلاً.. ذلك سيكون هدرا للموارد وتفريطاً بمبدأ العدالة.

وقد شهد العراق في فترات مختلفة، منح درجات لابناء القادة الحزبيين وأبناء الشهداء وغيرهم، وذلك لتمكينهم من دخول كليات الطب وغيرها من الكليات التي تتطلب معدلات عالية كنوع من المكافآة والتعويض.. وقد سمعت من اساتذة في الكليات الطبية شكاوى من تردي مستوى هؤلاء الطلاب وعدم قدرتهم على الإيفاء بمتطلبات الدراسة الصعبة . بل ان بعض هؤلاء الطلاب شعر انه عاجز وطلب الانتقال الى كليات أخرى.

المهزلة التعليمية الكبرى هي ان بعض هؤلاء المشمولين بالتكريم تجاوز معدلهم ١٠٠٪؜ ووصل الى ١٥٠٪؜ !!! وهذا عير معقول تماماً.. ولكن لم يكترث أحد من المسؤولين بذلك..

يتخرج الطلاب بقدرات بائسة ويخرجوا للتظاهر في اليوم التالي مطالبين الحكومة بالتعيين، ويتم تعيينهم اذا كان الوضع المالي يساعد على ذلك.

اعادة النظر بطبيعة دور الدولة في العراق في جميع جوانب الحياة،وحسب ظروفه الحالية والتاريخية وتكوينه الخاص ومرحلة النمو التي هو فيها، أمر مهم لغرض إحداث تنمية حقيقية. 

 

 د. صلاح حزام

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم