صحيفة المثقف

نَعَم يا سقراط .. غابَتْ الحِكمَة فَحَلّت مَحَلّها النقمَة

اكرم جلالإنّ أخلَقَة العمل السياسي وإيجاد منظومة من القيم الأخلاقية، تكون حاكمة للفكر والمنهج والسلوك السياسي، كانَت ولا زالت تُمثّل تَحَدّياً يُلاحِقُ عُلماء الدين والاجتهاد وأساطين الفكر والفلسفة، حيث أولت المدارس الفلسفيّة عبر الأزمنة اهتماماً بالغاً بمفهوم الأخلاق واجتهدت بتقديم أُطرٍ أساسية ووضع مُحددات أصولية يَتِمّ مِن خلالها تقديم تعريف للأخلاق، يكون بمثابة مِعيار وميزان يحدد طبيعة العلاقة بين الأفراد والمجتمعات.

ولأنّ الفلسفة، كما يَحلو للبعض وَصفها، أنّها " تساؤل وتفكير وتفكير وتساؤل "، فإنّ السُؤال الذي مازال يُحلّق فوق رؤوسنا، يبحث عن جواب في ثنايا المنهج الفكري والأبستومولوجيّ، ويلاحق الحقيقة أينما كانت، ويسعى لفتح باب للولوج نحو فَهمٍ أوسعٍ لِمَفهوم الأخلاق في عالم السياسة هو:

ما هي حدود الواجب الأخلاقي في العمل السياسي؟ وهل المصلحة السياسية تستدعي وجود أخلاقيات مطلقة ودون حدود؟ أم أن الأخلاق في علم السياسة نسبيّة، تَخضع لمعايير الزمان والمكان وطبيعة التحدّي ونوع القرار؟ وهل هي كما يصفها السفسطائي ثراسيماخوس من أنّها "مجموعة قرارات وقيود، يفرضها أصحاب السلطة والقوة على شعوبهم البائسة؟".

واجَه سقراط مُعضلة وتحدياً في إقناع ثراسيماخوس السفسطائي أثناء حواره "في الجمهورية"، حيث كان الأخير قد أعلَنَ وبغضبٍ شديد أنَّ "القوّة هي الحق وأنّ العدالة هي مصلحة الأقوى"، ويعني بذلك أنّ التمسّك بالأخلاق هي من الأمور الفادحة والتي سيجني الفرد والمجتمع ويلاتها، فالشّخص السارق والمُرتشي يَجني أكثر مِنَ الشخص المُتمسّك بالأخلاق، والذي يُطبّق القانون ويدفع الضرائب تراه يعاني الفقر، بينما الفاسد والسارق يكسب الأموال الطائلة من خلال الإحتيال والإحتكار التجاري ويتهرّب عن كلّ التزامٍ ماليّ وليضرب بذلك الأخلاق عرض الحائط. وفي نفس السياق نرى ثراسيماخوس يسخر من السياسي النزيه، ويتّهمه بالخسارة حينما يُظهر الحقائق كما هي دون تلفيق أو تزوير، في حين ترى الفوز للمزورين الذين لا يعيرون للحقيقة ولا الأخلاق أيّ وَزْن.

أراد أفلاطون، وعلى لسان سقراط، في نهاية الفصل الثاني مِنَ الجمهورية، أنْ يُوضّح أنّ الأخلاق إنّما هي فعل الخير لذاته أولاً ولعواقبه ثانياً، ثُمّ يُكمل حديثه بسرد قصّة الخاتم السحري الذي عثر عليه گيگس الراعي، وكيف أنَّ نفسه طوّعت له قتل الملك والزواج بالملكة، وَلِيُتوّج في اليوم التالي ملكاً على مملكة ليديا. وهذا ما أثاره كولكون، رفيق سقراط، لأولئك الذين يرفعون راية الأخلاق، هَلْ سيرفضون خاتم گيگس، وهل سيترددون في الإقدام على القتل من أجل المُلك؟

لَقَد حُوصِرَت جَبهَة سقراط من كلّ الجهات، فهذا الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة يقول: "حقاً أنني أسخر كثيراً من الضعفاء الذين يفكرون أنفسهم صالحين، لأنهم ليس لديهم مخالب لينبشوها"، وقول الفيلسوف شتيرنر "حفنة من القوة خير من كيس من الحق؟"، كلها تدعونا لتكرار سماع حوار السفسطائي كاليكلس مع سقراط وهو يستنكر الأخلاق ويعتبرها بدعة من اختراع الضعفاء؛ ثم لا ننسى مثالية روسو وقوله: " فأيّ حق يزول بزوال القوّة؟ ".

هذا وميكافيللي يرددها بأعلى صوته في كتابه "الأمير"، أنْ يا أيّها الأمير لا يجب عليك أن تكون مؤمناً خلوقاً رحيماً أو حتى إنسانياً في صفاتك وأفعالك، بل يجب عليك الحذر كلّ الحذر، وأن تحرص على جَمع هذه الصفات وتزيد عليها حينما تظهر أمام رعيّتك.

أمام جميع هذه الآراء والتحدّيات يبقى سقراط مُطمئناً ثابتاً راسخاً مؤكداً أنّ الجميع إنّما يسعى خَلْفَ "اليودايمونيا"، تلك المفردة اليونانية والتي تعني السعادة والرخاء والإزدهار، لكنّهم غافلون عنِ القِيَمِ والمُثل العُليا الصفات الخَيِّرة المُرتبطة بالعقل والروح والتي هيَ الأساس في بلوغ اليودايمونيا، لذلك نراه قد وجّه نَقدَه اللّاذع إلى الإثينيين نتيجة وَلَعِهِم بالغنى والشرف وإهمالهم للقيم الروحية.

لقد شخّص سقراط عِلّة السقوط الخُلُقي وأوعَزَه إلى الجّهل بطبيعة النّفس البشرية والتي أساسها عدم فهم طبيعة المدينة، أو بمعنى آخر، يقول إنَّ إنشاء المدينة الفاضلة لابُدّ وأن يبدأ مِنْ فَهمٍ للنّفس الفاضلة، وهذا سَبَب تَمَسّكه بالأخلاق والفضيلة.

وبموضوعية أكثر، يشير أفلاطون أنّ سقراط قَد حدّد الطبقات التي بها تقام المدينة الفاضلة؛ فالأولى هُمُ الحكّام الحُكَماء، مِمّن تَشَرّبوا الفلسفة وارتَووا مِنْ عَذْبِ زُلالها وتسلّقوا مدارج الفكر، والثانية طبقة الجُند أولئك الذين عليهم أنْ يَتَسلّحوا بالحدّ الأدنى من الوعي الفلسفي لكي يتمكّنوا مِنْ أنْ يُمَيّزوا بين الصديق والعدو، وأما الطبقة الثالثة فهم الطبقة الكادحة من أفراد المجتمع وهؤلاء عليهم الإلتزام بقوانين الطبقة الحاكمة من أجل تثبيت الأمن وكبح جماح الشهوات النفسية والغريزية.

والأخلاقُ، كما رآها سقراط، هِيَ المعيار في نشوء المدينة الفاضلة والتي أساسها هو الإنسان الفاضل، والذي يمتلك طبقات كطبقات المدينة الثلاثة، عقلٌ وروح وشهوة، فالحِكمَة والأخلاق حينما تسود العقل سيبلغ مرتبة الفضيلة وحينما يمتلىء العقلُ بالشهوةِ سيفسد وسيخرج من الإنسانية الفاضلة إلى الغريزية الحيوانية.

وأخيراً ومِنً أجل أنْ تَكتمل الصورة لابُدّ من الإشارة إلى أنَّ الأخلاق والكمال والفضيلة جميعاً أساسها الوعي المعرفي، وأنَّ الإنسان حينما يبلغ مراتبَ مَعرفة الحقّ فإنّه سيسير في طريقه وينتهج منهجه، وأمّا أولئك الذين سَلَكوا طريق الضّلال والباطل فإنّ شَهَوات أرواحهم قد أعمَت أبصارهم وبصائرهم عن معرفة الحق فتاهوا في ظلمة الجّهل.

والمدينةُ حينما يَسود الجُّهال طبقاتها الثلاث تَيَقَّنْ أنَّها تَسير نَحو الهاوية، وحينما يَخلوا الحاكِمُ والمَحكوم والحامي مِنَ الحِكمَة فاعلَمْ أنَّ الفَضيلة قَدْ ضاعَتْ وَحَلّت مَكانها النَقِمَة.

 

د. أكرم جلال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم