صحيفة المثقف

محاورات وجدي ووحدة المنهج وأصالة المقصد

عصمت نصارلمّا كان علم الجدل هو ذلك المنهج الذي يُقابل بين الأدلة لانتخاب أفضل الآراء المناسبة لرؤية المجادل من جهة، وأقرب الضروب التي تستطيع إقناع المخالف في المسألة أو الأمر محل النقاش من جهة أخرى - وهذا النهج معروف بالمحاجاة - أما جانبه السلبي فيتمثل في إتيان أحد المجادلين بأدلة لفظية أو وقائع خافية على الخصم ويخلطها المجادل بواقعات وبمعارف غير واضحة وذلك بقصد إقناع المناظر برأيه بغض النظر عن صحة أو سلامة أو صدق المقدمات التي بنيت عليها النتائج.

وعليه؛ فقد بات لزاماً على طلاب الحقيقة من الفلاسفة والمصلحين تحديد المبادئ والقيم المُلزمة للمناظرين وتبيان أن الجانب السلبي من الجدل غير منتج وفاسد في ذاته ومناقض لمقصده.

لذا نجد أفلاطون (عاش 427 ق.م - 347 ق.م) يعرف الجدل (Dialectic) بأنه فن الحوار، وأن المجادل الحق هو الذي يلتزم بمنهج المحاججة والإقناع دون أدنى مغالطة أو خداع لإفحام الخصم أو إرغامه على التسليم بصحة رأي المناظر، فالغرضُ من الجدل هو الانتقال من تصور إلى آخر أو من مفهوم إلى غيره للوصول إلى أعم التصورات وأعلى المبادئ المتفق عليها.

وكيف لا (والتهكم والتوليد والحوار الناقد) وهو سبيل أستاذه سقراط (470 ق.م – 399 ق.م) ودربة للتعلم وهداية الذهن بالوصول الى الحقيقة دون تلقين أو تقليد أو إجبار أو مراوغة أو التسليم برأي سلطة الجمهور أو ما هو سائد في الرأي العام أو يرد إلى تحزب جنسي أو تعصب مِلِّي أو ميل نفسي ومن ثم فلا يجوز للمجادل إغفال قدرة خصمه على الفهم والإدراك والمتابعة، وعليه يجب على المناظر الفيلسوف العاشق للحقيقة أن لا يسلك أي شكل من أشكال المراوغة والتلاعب بالألفاظ, فالحقائق لا تدرك إلا بضبط المعاني وتحديد الدلالات.

ومن ثمَّ يحذر على المساجل الاستعانة بالغامض وغير المألوف والمشوش من المفاهيم والتصورات والآراء والمصطلحات، كما يجب عليه أيضاً تجنب الخلط بين الأجناس والأنواع، والعام والخاص، والمطلق والنسبي، في الأمثلة التي يوردها.

ويؤكد أفلاطون أن للجدل نهجين، أولهما يرتقي من الاعتقاد بالظن إلى المعقول والحقيقي واليقين، وثانيهما ينتقل من المبادئ المسلم بها والمقطوع بصحتها إلى البرهان ثم المعقول ثم المُبرر والجائز المحتمل.

وقد اتخذ المحاورون المحدثون هذا النهج في مثاقفتهم فميزوا بين الكلي والجزئي، والعام والخاص، والمحسوس والمعقول، والتجريد والتجريب، في حججهم، وقد حاول المتثاقفون الجمع بين الخطابة والجدل والمنطق في صياغة نقودهم وردودهم ساعين من خلال تلك الصياغات توضيح الغامض والملغز من الألفاظ، والكشف عن أصول الأفكار، والتمييز بين المذاهب والاتجاهات، وإثبات تهافت الأفكار الزائفة، وفضح الأخبار الكاذبة، ومناقشة المعتقدات الفاسدة.

وقد أعلى المناطقة من شأن الحوارات القائمة على الاستدلال العلمي الرياضي أو التجريبي على المناظرات التي تتخذ من الجدل نهجاً لها.

ويعدُّ كانط (1724-1804م) المثاقفات الجدلية إحدى آليات الكشف عن اضطراب الأنساق وتناقض الأفكار وكذب الأخبار وغير المعقول من التصورات.

أمّا هيجل (1770-1831 م) فبيّن أن للجدل ميزة لا توجد في المنطق؛ فالأحكام المنطقية تتسم بالصرامة في الحكم وتقابل التصورات وتعريف المفاهيم في الحدود والقضايا المنطقية، أمّا الجدل ففي استطاعته الجمع بين المتناقضين في سياق واحد، ويشكل في الوقت نفسه نتيجة يمكن مناقشتها أو حكم يمكن الاستدلال أو الاستنباط أو الاستقراء والبرهنة عليه.

فالنبيل يمكن وصفه بأنه سيد وعبد في وقت واحد، فالسيد سيد بنبله وماله ومكانته، وإذا ما تدنى إلى شهواته وأصرف في البذخ وتعلق بالسافل من الخصال والشهوات من الفعال أصبح عبداً رغم حَسَبَه ومكانته.

والعكس صحيح؛ فالعبد العفيف الذي يتزين بالحياء والصدق والشجاعة والأمانة يمكن وصفه بالنبل رغم مكانته الوضيعة وفقره وفقدانه للحرية.

أمّا المفكرون المعاصرون فقد انقسموا الى قسمين أولهما اتخذ من الجدل آلية لإثبات الأحكام الكلية واليقين المطلق والرؤية الأحادية والقيود المذهبية والتعصب في الرأي والعنف في المناقشات وراحوا يروجون لهذه المصطلحات (لا تجادل لا تناقش) (هذا قول واحد) (هذه حجه لا ترد لأن قائلها ....) أمّا الفريق الثانى فراح يذيع تلك الشعارات (الممكن، والجائز، والمستبعد) وذلك انطلاقاً من قناعتهم الذاتية غير المبرَّرة بحجة رفض كل السلطات المقيدة لحكم الأنا وتصوراته (يبدو لي، يتراءى لي، أعتقد وأظن، أمر يحتاج إلى مراجعة، يحق لي الشك في, هذا ما أشعر به).

وإذا انتقلنا إلى الثقافة العربية فإننا سوف نجد معظم المعاجم لا تفرّق بين معنى الجدل والتناظر والمناقشة والمحاججة .

فمن حيث المعنى الوظيفي؛ فالتناظر على سبيل المثال هو تكرار أو نقاش بين شخصين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كل منهما في ظهور الحق القانع بصحته؛ فهو يختلف عن المراء وهو ضرب من ضروب الجدل الفاسد؛ فالمماري هو المجادل الذي يرمي إلى تزييف القول والاعتراض على صاحبه والتصغير من شأنه وإثبات تهافت رأيه.

بينما الجدل الممدوح هو الذي يسعى مقصده إلى إظهار حقيقة أو إثبات واقعة أو إزالة لبس أو غموض أو خداع وهو فرض عين على العلماء الذين ينتصرون دوماً إلى الحيدة والموضوعية والعقلانية والمسلمات التي يستحيل الشك فيها. وقد يكون فرض كفاية على الذين يراعون آدابه وشروطه ولاسيما في ميدان الدعوة.

أمّا الجدل المذموم فمقصده الباطل والكذب والخداع والغش والتطاول على المناظر مستعيناً في ذلك بالمعارف الفاسدة والأخبار الكاذبة وتأييد العصبة الجاهلة من الجمهور الذين يرفعون من قدره فتتحقق له الرئاسة الزائفة. وهو بطبيعة الحال منهي عنه شرعاً، "وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ" (الكهف 56). ويجمع العلماء أن الجدل بضربيه محظور على العوام وذلك لأن مآله الشقاق والفُرقة والنزاع؛ الأمر الذي يُفسّر كراهية الفقهاء للجدل وصدّ الناس عنه ولاسيما في أمور العقيدة، وقد ذهب الإمام الغزالي (1058-1111 م) إلى ضرورة إلجام العوام عن علم الكلام ومن أقواله في ذلك: "انكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف ورتبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات وزعموا أن غرضهم الذّب عن دين الله والدفاع عن السنة وقمع المبتدعة".

ويؤكد ابن حزم (994-1064م) أن إشغال العوام بالجدل أشر من الحرب والكفر لأنه لا يصيب المتجادلين فحسب بل يتسلل إلى عقل الأمة بأثرها، ويفتح آتون الريبة وباب التطرف أمام الدهماء والمغرضين.

كما حذر الإمام محمد عبده (1849-1905م) من الخلط بين الخلافات السياسية والمجادلات العقدية والعصبيات المذهبية والمعارك الأدبية والمثاقفات الفلسفية.

وقد استفاد محمد فريد وجدي من تلك المفاهيم بل واستوعبها جيداً وكان من أفضل مطبقيها في العصر الحديث فلم يعرف عنه أو من شاركه في تحرير الصحف التي أنشأها أو رأس تحريرها أنه جادل من أجل تزييف الرأي العام أو إثارة الشقاق بين الأحزاب أو الفصل في قضية تبعاً لمزاجه وهواه أو القدح في خصومه أو مناصرة أربابه.

ويبدو ذلك بوضوح في المثاقفات والمساجلات التي شارك فيها قادة الرأي في النصف الأول من القرن العشرين حول قضايا الفكر المطروحة آنذاك نذكر منها: قضية تحرير المرأة والحكم على دعوة قاسم أمين، وقضية الإلحاد وإعلان إسماعيل أدهم إلحاده، والكهنوت في الإسلام وما آثاره خالد محمد خالد حول السلطة الدينية، ومدى مشروعية تطبيق المنهج الديكارتي على الكتب المقدسة، وقضية الشعر الجاهلي عند طه حسين.

وسوف نبيّن مدى حرص وجدي على الاستخدام الأمثل للمنهج الجدلي في مساجلاته ومناظراته.

وجدي وحرية المرأة:

لم يشارك محمد فريد وجدى في التساجل الذى دار بين المثقفين العرب في مطلع القرن العشرين حول كتابي قاسم أمين (المرأة الجديدة وتحرير المرأة) إلا ببضع مقالات على صفحات اللواء والمؤيد، ولم يهاجم فيها قاسم أمين كغيره بل كان يناقش دعاة محاكاة المرأة الشرقية للمرأة الغربية في سلوكها ومساواتها بالرجل فبيّن متسائلاً: (هل المرأة مساوية للرجل في سائر الحيثيات؟ وأنه إذا كانت المرأة مساوية للرجل من الجهتين الجسمية والعقلية، فلماذا خضعت كل هذه الألوف المؤلفة من الأعوام لسلطان الرجل وجبروته؟".

ويجيب على نفسه قائلاً بأن المرأة لو ساوت الرجل لحدثنا التاريخ بأخبار التدافع بين الجنسين، شأن كل عالمين متساويين في القوة في هذا الوجود، ولكن المرأة الأوربية لم تنل حريتها إلا بسعي الرجل نفسه، وأقل نظرة لحالة المرأة الطبيعية من حيث الأنوثة وعوارضها تكفي لأن نحكم بتفوق الرجل قوة ونشاطاً.

وأشار وجدي إلى أن وظيفة المرأة الرئيسية المتعلقة بالحمل والتربية لصغارها وتدبير البيت تجبرها أن تنفق أكثر وقتها فيما يتعلق بغريزتها بعيداً عن مصادر الغذاء العقلي، وحتى التي تنفق وقتها في العلم تقصر في وظيفتها الطبيعية (..

كما أنه لم يدل بدلوه في الاستبيان الذى أجرته مجلتي المقتطف والهلال في مطلع العشرينات من القرن العشرين حول المرأة الشرقية والمرأة الغربية، وذلك لأنه كان مدركاً للأبعاد السياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية وما فيها من مغالطات قد أثرت بدورها على آراء المتثاقفين حيال هذه القضية، واكتفى بكتابة بضع مقالات في صورة ردِّ على أحد قراءه يسأل عن موقفه (أي موقف محمد فريد وجدى) من تلك القضية, وفى مطلع الأربعينات راح يناقش كتابات الغربيين عن حال المرأة الشرقية على صفحات مجلة الأزهر فبيّن أن معظم الكتابات الأوربية قد وصفت المرأة المسلمة بكل الصفات التي تخرجها من طور الإنسانية الحرة وتلقي بها في حظائر الحيوانية التي تسمى بالحرملك ذلك المكان الذى لا هم فيه للمرأة المسلمة إلا الاهتمام بالمأكول والمشروب وإمتاع الرجل ورعاية الأطفال. ويؤكد وجدى أن المنصف من هذه الكتابات الجائرة يرى أن حجاب المرأة المسلمة قد عزلها تماماً عن نبض المجتمع وما فيه من قضايا ومشكلات ومعارف وثقافات وأن تمسكها بهذا الحجاب قد سلب إرادتها استجابة للعادات والتقاليد الرجعية على نحو جعلها غير قادره على التفكير أو الاختيار أو التحرر من السلطات الاجتماعية والعقدية القائمة من حولها فباتت مستسلمة للحَرَمْلِك، الأمر الذى أدى إلى ضعفها صحيّاً وروحياً ونفسياً.

كما أوضح وجدى أن مثل هذه الكتابات المغلوطة هي التي دفعت بعض الصحفيين والكتاب الغربيين إلى الإفراط في ذم المجتمع الإسلامي واتهامه بالسطو على حقوق المرأة في التعليم والعمل والمشاركة الإيجابية في المجتمع.

والذى يهمُنا في هذا السياق أن وجدى قد وضع ردَّه في صورة جدلية حوارية بين أنصار تحرير المرأة بالمنحى الغربي وموقف الإسلام من تلك الدعوى أي (الاختلاط بين الجنسين, تعليم المرأة, عملها, رسالتها) وأوضح أن هناك فارق بين التنظير والتطبيق؛ وأن لكل ثقافة مشخصاتها وثوابتها التي لا ينبغي التنازل عنها أو تبديدها حتى لا يصاب المجتمع بالفوضى والانحلال، وأضاف أن التغيير التدريجي أفضل من الانتقال الفجائي ولاسيما في ميدان الاجتماع والتربية والأخلاق؛ فإن للعادات والتقاليد في رأيه، سلطة لا ينبغي على المجددين والمحدثين تجاهلها حتى لا تسقط خطابتهم وتفسد مقاصدهم.

فقد ذهب "وجدى" الى أن هناك فارق بين النظر والعمل, والتصورات العقلية والتطبيقات والتجارب الواقعية. واذا ما سألنا المجددين والمحدثين عن أحلامهم ومقاصدهم وغاياتهم من دعواتهم قبل استجابة الجمهور لها وبعدها أي عقب تفعيلها والعمل بمقتضاها فسوف نجد معظم هؤلاء يأسفون على الحال الذى آلت إليه نتائج دعواتهم في الواقع المعيش، فالقليل من أحلامهم فحسب هو الذى يأتي بثماره عند العمل بها.

فإنّ نجاح خطابات المجددين ومشروعات المصلحين سوف تظل رهينة تفهم العقل الجمعي لها ووعيه بمقاصدها، ومن أقواله في ذلك (فإذا عُني باحث بأن يستطلع آراء زعماء المذاهب المختلفة فيما انتهت إليه الحال في هذا العهد كثمره لجهادهم, لما صادف واحد منهم راضياً بما آلت إليه الأمور ..... أن تؤول الحال بالناس إلى نكران جميع الأوضاع والعادات, والخروج إلى باحة الفوضى الخُلقية, كما هو حاصل اليوم .... والذين كانوا يدعون لتحرير المرأة والمطالبة باستقلالها كانوا لا يرمون إلى أن يقضوا عليها بأن تعيش على هامش الجماعة كما هي اليوم ... لقد طمت هذه الأحوال وتفاقمت شرورها وهى آخذه في الازدياد).

ويحدثنا "وجدى" عن حق تعليم المرأة فيؤكد أن النقل والعقل لا يحرمان المرأة من حق هو أصيل لها وخلقها الله عليه. ويقول : (إنّ الإسلام لم يضع للنشاط العقلي للمرأة حداً فأباح لها أن تتوسع في العلوم ما أمكنتها الفرص من ذلك وما ساعدها عليه استعدادها, ولم يمنعها من أن تبث علمها في الناس ولم يحظر على الرجال الأخذ عنها)؛ فالمسلمون في الصدر الأول لم يروا باساً من أن تتلقي المرأة العلوم العالية. وجوَّز بعضهم أن تلي القضاء وأن تفتى المسلمين.

أمّا موقف وجدى من قضية عمل المرأة؛ فكان مخالفاً لمَا ذهب إليه معظم الداعمين لحرية المرأة فيقول : (إنّ الفطرة تأبى أن ترى المرأة التي اختصها الخالق بمهمّة تكثير النوع الإنساني وتربيته، فهي تتكلف فوق ما تعانيه من المَشاق ومشاطرة الرجال أعمالهم المرهقة وأن تهجر دارها ساعات طويلة وأن تترك أولادها يهيمون على وجوههم في الشوارع والأزقة وهم في أشد الحاجة إلى حمايتها ورعايتها).

وقد استشهد وجدي في ذلك برأي أوجست كونت (1798-1857م) الذى ذهب إلى أنه ينبغي أن تكون حياة المرأة "بيتية" في المقام الأول، وأن لا تكلف بأعمال الرجال؛ لأن ذلك يقطعها عن وظيفتها الطبيعية ويفسد مواهبها الفطريّة، ومن يقول غير ذلك من الكتَّاب الإباحيين الذين يبيحون عمل المرأة ومساواتها بالرجل يُعرضون المجتمع إلى الانهيار والتفكيك الأسرى مُدّعين أن مشاركتها في الحياه العملية يُساهم في تطوير المجتمع وتمدنه غير عابئين بالمخاطر التي يمكن أن تتعرّض إليها من الاختلاط غير الواعي في مجتمعا تقوده الشهوات وتجذبه الرذائل.

وعلى الرغم من احترام أوجست كونت لدور المرأة في المجتمع إلا أنه يرى أن وظيفتها الأولى يجب أن تنصب على بناء الأسرة، فهي عمودها الفقري والرابط الذي يربط بين أفراد الأسرة والأخلاق والمجتمع ذلك فضلاً عن قناعة أوجست كونت بأن قدرات المرأة الذهنية لا تكافئ قدرات الرجل وأن قدرتها العاطفية والتربوية لا يصلح لها سواها، فوجودها في البيت لتربية النشء أفضل لها وللمجتمع أيضاً، وقد لاقت هذه النظرية هجوماً كبيراً من قبل دعاة تحرير المرأة ومساواتها بالرجل في أوروبا دون قيد.

*   *   *

لم يتأثر وجدي بآراء أوجست كونت الاجتماعية في موقفه المحافظ من دعوة مساواة المرأة بالرجل بل يرجع رفضه لتلك الدعوى لمشاهدته وقراءته لما آلت إليه هذه العدوى في الثقافتين الغربية والشرقية، وانعكاس ذلك على المجتمع المصري ولاسيما في الطبقتين الأرستقراطية والبرجوازية في ثلاثينات القرن العشرين، ويقول وجدى في ذلك (أثرت هذه الكتابات في أوروبا والشرق بسبب أن الناس ميالون إلى قراءة الاقاصيص والكتابات السطحية التي توافق غرائزهم الشهوانية؛ فتكوَّن رأيٌ عام على أصالة هذه النظرية؛ فاندفع الناس في تحقيقها اندفاعاً جنونياً, فهجر النساء الدور وأقبلوا على الأعمال الخارجية. وكان من أثر هذا الاختلاط ذيوع عادات لا تتفق مع الحياة الصالحة. وكانت شرَّاً مستطيراً على الزواج المشروع؛ فكثر الأخدان والخدينات، وطمَّت العلاقات الخائنة بين الجنسين، وشاعت العزوبة بين الشبان, وأصبح التبرج المخالف للذوق السليم عادة مألوفة, واستهتر الناس في ذلك حتى أصبحوا يرون أن بروز النساء نصف عاريات من ضروب الأناقة, ووجه من وجوه الظرف, حتى صار ممَّا يروقهم أن تصور لهم الجرائد اليومية التي يقرؤونها صور الخليعات المتهتكات فيصرفوا في التأمل فيها وقتاً ثميناً, ويدعوها لأبنائهم وبناتهم غير خاشين أن ذلك يؤثر في آدابهم تأثيراً شنيعا).

ويستفيض "وجدي" في تصوير ثقافة الخلاعة والمجون في عصره، فيضيف أن المنتديات والمسارح والمنتزهات قد أضحت ميداناً للخلاعة والعري والتهتك على نحو باتت فيه السّفالة من العوائد وبات فيه الحياء والعفة من الجمود والرجعية.

وحسبي أن أشير إلى أن هذه الآراء التي صرَّح بها وجدي قد دفعت المؤرخين إلى الزج به في معيّة المفكرين المحافظين وتجاهلوا عقلانيته وواقعيته في التحاور والتساجل، تلك التي تشهد بصحتها الوقائع ونأسف على حدوثها ونجتهد في معالجتها اليوم.

فالاختلاط غير المسئول والتقليد الطائش للثقافات المغايرة والتهكم على الأخلاق التليدة والقيم العريقة قد دفعت الجنسين إلى مانحن فيه من انحطاط خُلقي وتسيّب اجتماعي.

ويمضى وجدى في تساجله مع دعاة تحرير المرأة في الشرق وتبرجها مثل الأوربيات, وأولئك الرافضين للعادات والتقاليد والحجاب المادي والمعنوي، يقول بلسان الإباحيين الذين وضعوا المحافظين في قفص الاتهام، مستشهداً بقولهم (أنتم تريدون أن تسجنوا المرأة, وأن تذلوها, وأن تستغلوا مواهبها, وأن تسلبوها استقلالها, وأن تجرّدوها من كل عمل تكسب به قوتها، وتحتل به مكانها تحت الشمس).

ويرد على ذلك بأنها كلمات جوفاء استخدمها هؤلاء الثائرون على نظام الطبيعة في استدراك النساء إلى الحياة الإباحية, ولايزالون يستعملونها لستر خطيئتهم الفادحة ... إنّ الناس يشهدون اليوم تدهوراً خُلقياً, وانحطاطاً أدبياً, لم يرى تاريخ البشر له مثيلاً, فإذا كانت حياة النوع البشرى لا تقوم الا بانغماسه في هذه المقاذر, فهوّن بها من حياة تموت معها جميع الغرائز الإنسانية الكريمة ... فأمّا ما يشنعون عليه من سجن المرأة واذلالها, وسلبها استقلالها, فتلك صيحات يقصد بها التهويل, وطمس معالم الحقائق) ومع ذلك فيبيح وجدي عمل النساء في أضيق الحدود شريطة أن توفر لهن الدولة أعمالاً تحفظ كرامتهن وتصون عفتهن وذلك عند الضرورة لاحتياجهن أو عدم وجود من يعولهن ويحميهن من شرِّ السؤال والفقر الذى يدفعهن إلى ارتكاب مالا يليق بحيائهن وحماية شرفهن ويقول (ولسنا ننكر أن المجتمع مهما بلغ في المحافظة على النظام الطبيعي حيال النساء فسيوجد منهن من يعوزها القوت, ولكن عدد المعوزات يكون قليلاً يمكن الحكومة الرشيدة من تدبير أعمال لهن تليق بكرامتهن).

 ونخلص من ذلك إلى أن محمد فريد وجدى قد التزم بقواعد المنهج الجدلي من حيث العرض والمعالجة للقضية التي تصدّى لها أعني حرية المرأة فقد قام بعرض رؤية المخالف بدقة وأمانة دون أدنى تحريف أو ازدراء له، وقد استند على الحجج العلميّة في دفعه لمبررات المخالفين فإشارته إلى تباين الثقافات واختلاف الثوابت والمتغيرات من عصر إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى أضحى من الأدلة التي لا يمكن الشك فيها ولا يعاب على من يحتج بها ضد دعاة منكريها أو متجاهليها.

وتبدو موضوعية وجدي في عزوفه عن نقد دعاة التغريب وتقليل المرأة الشرقيّة للمرأة الغربية نقداً شخصياً أو اعتقادياً أو من منظور الدّين وحده، بل احتكم إلى مسلمة أخرى مفادها أن مقاصد المنظّرين والمتفلسفين لا يتحقق جميعها عند التطبيق ولاسيما في الأمور الخاصَّة بالدين والتربية والأخلاق والاجتماع، وقد استفاض في شرح هذا الدليل مستشهداً بأحلام الفلاسفة وخطابات المُصلحين التي أخفقت في تحقيق مقاصدها.

كما يمكنا أن نلاحظ التماسه العذر لقاسم أمين في دعوته لتحرير المرأة المصرية تلك الدعوى التي وصفت من قبل بعض المتشددين بأنها دعوة للتبرج والسِّفور والخلاعة وأنها تدعو للتهكم على تعاليم الإسلام. وقد ذهب إلى أنه ظلم نفسه عندما أراد أن تحاكى المرأة المصرية مثلتها الأوربيات في بعض مظاهر التحضر والمدنية مع إدراكه بأنها غير مستعدة إلى ذلك ولم تعد العدّة لممارسة تلك الحرية كما أنه ظلم نفسه أيضاً في التصريح في تلك الدعوى في كتابي لا يستطيع العقل الجمعي في مصر والشرق قبولهما؛ الأمر الذى مكّن خصوم قاسم أمين من التشكيك في دينه وولاءته واتهامه بمسايرة دعاة الحداثة من الأتراك والإنجليز والحقيقة أن الرجل بريء من هذا الإفك، وذلك لأن مقصده لا يختلف كثيراً عمّا دعا إليه رفاعة الطهطاوي والشيخ حمزة فتح الله (1849-1918م)، ويقول في ذلك (أن الدعوة إلى تحرير المرأة في مصر كانت فرعاً من تلك الدعوى نفسها في أوروبا, وقد أصابها هنا ما أصابها هناك, أي أنها أدّت إلى شرِّ محض, واندفعت في تيار لا يرجى الخير ممّن يندفع فيه, ولو كان المرحوم قاسم أمين بك حيّاً ورأى ما نحن نراه اليوم, لبرئ إلى الله منه, ولأهاب بالناس إلى الرعوى عما هم ماضون فيه.

 وللحديث بقيّة في محاورة أخرى

 

بقلم : د. عصمت نصَّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم