صحيفة المثقف

حول الجدوى الاقتصادية والمالية والفنية لحياة الانسان

صلاح حزاميعرّف علم الاقتصاد بانه العلم الذي يسعى لتحقيق افضل توزيع للموارد المحدودة بين الحاجات غير المحدودة.

ولتحقيق هذه الامثلية في التوزيع لابد من وجود معايير موضوعية للوصول الى ذلك الهدف.

على مستوى الافراد، هنالك مايعرف بمنحنيات السواء التي توضح كيف يتصرف الفرد (الرشيد) لتوزيع موارده المحدودة بين حاجاته غير المحدودة لتحقيق اعلى اشباع ممكن.

على مستوى المشروع ، هنالك دراسات الجدوى التي يتم اعدادها قبل الشروع بتنفيذ المشروع للوقوف على جدواه وقدرته على تحقيق الاهداف التي أقيم من أجلها.

دراسات الجدوى المتطورة فيها أبعاد متعددة هي الجدوى الاقتصادية والجدوى المالية والجدوى الفنية ومؤخرا دخل البعد البيئي في دراسات الجدوى لبيان الآثار البيئية للمشروع حيث اصبح التلوث مكلفاً وقد يتحمل المشروع تكاليف عالية لازالة او تعويض آثاره البيئية الضارة.

خطورة دراسات الجدوى وضرورة إعدادها بشكل سليم و موضوعي تأتي من حقيقة:

أن المشروع السليم يعني خطة تنموية سليمة (أو اقتصاد سليم) والمشروع العليل يعني خطة عليلة او (اقتصاد عليل).

أداء الخطة او أداء الاقتصاد (في حالة كون الاقتصاد لايعتمد اسلوب التخطيط)، هو حصيلة تجميعية لمجمل أداء المشاريع التي يتشكل منها الاقتصاد الوطني.. فاذا حققت المشاريع الفائض المطلوب ووفرت فرص العمل واستجابت لحاجات السوق بكفاءة ، كان معنى ذلك ان الاقتصاد يسير بشكل سليم ومطمئن والعكس صحيح.

في نيتي كتابة ورقة عن موضوع دراسات الجدوى ربما تكون في اكثر من حلقة ، ولكني الآن اردت التعريف بفكرة دراسات الجدوى لتوظيفها لغرض آخر.

يقال ان حياة الفرد هي مشروع life project  وبهذا المعنى يكون المجتمع (وليس الاقتصاد الوطني) هو حصيلة لمجموع خصائص المشاريع الفردية لاعضاء ذلك المجتمع .

مجتمع معظم (او كل)  اعضاءه منتجين وأكفاء ويحترمون القانون ويتصرفون بشكل حضاري ويتمتعون بالنزاهة والابتعاد عن الفساد ويتحملون المسؤولية الوطنية ، سيكون حتماً (وبالمنطق الرياضي) مجتمعاً يتصف بكل هذه الصفات الحميدة التي تضمن الازدهار.

تعبير مجتمع مثل تعبير اقتصاد وطني ، انه عبارة تجريدية لان هذين الكيانين لاتجدهما في مكان معين ولاتستطيع ان تلتقي بهما الّا من خلال مكوناتهما الصغيرة اولَبِنات البناء والتي هي الوحدات الاقتصادية بالنسبة للاقتصاد (والتي تعني الافراد والمنشآت)، والافراد بالنسبة للمجتمع.

المشروع الاقتصادي يمر بمراحل عند اقامته:

- مرحلة التأسيس والتي يكون فيها المشروع في مرحلة البناء ولاينتج اي عائد وإنما يتم الانفاق عليه لكي يكتمل ويبدأ العمل وتقديم ثماره اذا كان ناجحاً ومؤسساً على أسس صحيحة.

- مرحلة التشغيل التجريبي والتي تعطي مؤشرات اولية عن جدارة المشروع وقدرته على مواجهة ظروف السوق (بعض الصناعات في الدول التي فيها دعم للمشاريع الوطنية يطلقون على المشروع في هذه المرحلة تسمية : infant industry  او الصناعة الرضيعة او القاصرة)

للدلالة على حاجته للرعاية في مراحل نشأته الاولى.

- مرحلة التشغيل الطبيعي والتي يبدأ فيها المشروع بأداء وظيفته.

- المشروع له عمر افتراضي منذ بدء الانتاج ولحين انتهاء عمره الافتراضي .

الآن سوف نجري مقارنة بين حياة المشروع وحياة الفرد :

-الفرد كالمشروع له عمر منتج يبدأ منذ سن العمل (في اكثر دول العالم يكون بعمر 15 سنة)

وينتهي بعمر التقاعد الذي يتراوح بين 60-65 في معظم دول العالم .

-الجدوى المالية للمشروع يتم التعبير عنها بالفرق بين الايرادات والنفقات معبراً عنها بالنقود.

والجدوى المالية لحياة الفرد يعبر عنها بما يستطيع ان يحصل عليه من دخل يتفق مع كفاءته ومهارته يضمن له حياة لائقة ويستطيع ان يدفع الضرائب وربما الاعتناء بمن انفق عليه وساعده في بناء نفسه.

الفرد الفاشل قليل المهارة لايمكن له ان يحقق دخلاً عالياً ولايستطيع ان يعوض عائلته او المجتمع الذي أنفق عليه واستثمر فيه.. اي انه استثمار غير ذي جدوى وفاشل.

الجدوى الاقتصادية كما هو معروف تتجاوز العائد المالي ولاتكتفي به بل تذهب الى اسهامات الفرد في عموم الحياة الاقتصادية في محيطه تماماً مثل المشروع.

فالفرد قد يكون مستثمراً مبادراً يساعد الغير في ايجاد وظائف وتوفير منتجات او تطوير العلوم والثقافة وينشر السلوك العقلاني في محيطه.

دراسة الجدوى الفنية للفرد مثله مثل المشروع ومع انها جاءت هنا في النهاية ،الا انها عادة تأتي في مقدمة دراسة الجدوى للمشروع بسبب كون الاعتبارات الفنية الصرفة احياناً تجعل اقامة المشروع غير ممكنة وربما مستحيلة، وبالتالي لاداعي للاستمرار في دراسة المشروع طالما كانت اقامته غير ممكنة.

المشروع قد لايمكن اقامته بسبب ظروف المناخ او نوعية التربة او حاجته لموقع جغرافي خاص او استحالة توفير مستلزماته الخ ...اما الفرد فأنه قد يثبت انه فاشل فنياً عندما يتضح انه غير قادر على الانسجام مع قيم المجتمع وغير قابل للتطور وغير قابل للمشاركة المنتجة ويرفض مهارات العصر ويرفض التدريب والتعليم والقراءة وبلا هوية على كل صعيد ..

ولكن المشكلة ان عدم الجدوى الفنية في المشروع يتم اكتشافها قبل بدء المشروع ، اما بالنسبة للفرد فهذا غير ممكن ويكتشف عادة في وقت متأخر ، والانسان كائن لايمكن ألغاء وجوده..

وهنا يصبح عبئاً على مؤسسات الاصلاح وقد يكون عنصراً مخرباً او مجرماً يحاول العيش على جهود الآخرين.

انه يشبه المشاريع الحكومية الفاشلة التي تشكل عبئاً على الموازنة من خلال الدعم الذي يقدم لها لابقاءها تعمل بشكل مصطنع ، بدل ان تقدم ارباحاً وضرائب للموازنة ..

بعض الاشخاص (الفاشلين فنياً) يكونون عبئاً على عوائلهم حتى بعد بلوغ سن متقدمة واحيانا يكونون عبئاً على المجتمع.

كذلك فأن الفرد الفاشل سيكون عبئاً على البيئة لانه لايقدم سوى التلوث واستهلاك الموارد النادرة .

التقيت باشخاص فاشلين على كل الاصعدة كان طموحهم العظيم ان يهاجروا الى بلدان اجنبية فيها ضمان اجتماعي لكي يتظاهروا بالمرض والعجز زوراً وبهتاناً كي يتمتعوا بحياة مريحة على حساب الآخرين.

التربية الاساسية وزرع القيم الكبيرة في نفوس الافراد منذ الطفولة تعتبر العامل الحاسم لتجنب وجود افراد فاشلين باعداد كبيرة في المجتمع ..

وهذه ليست مسؤولية المدرسة فقط بل الاسرة والاعلام ومؤسسات الدين في البلدان التي يلعب الفكر الديني فيها دوراً مهماً.

 

د. صلاح حزام

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم