صحيفة المثقف

الراحل علي الوردي في ميزان: المهنة و المهانة (1)

عبد الرضا حمد جاسماول مرة أشار الراحل الوردي او كتب عن المهنة وعلاقتها بالمهانة في العام 1951 وذلك في محاضرته التي تحولت الى كراسة بعنوان شخصية الفرد العراقي ثم كرر الطرح في عام 1958 في محاضرته التي تحولت الى كراسة ايضاً تحت عنوان الاخلاق / الضائع من الموارد الخلقية /1958 تلك التي شارك بها في ندوة عن الضائع من الاخلاق جرت في الجامعة الامريكية في بيروت ونُشرت كبحث في مجلة الأبحاث الصادرة عن الجامعة الامريكية في بيروت السنة11 ج2 حزيران1958 أي بعد سبعة أعوام عن طرحه الأول].

وعاد وتطرق لنفس الموضوع في كتاب دراسة في طبيعة المجتمع العراقي /1965 ثم ختمها بنفس الصياغات في لمحات تاريخية عام 1977 هذا يعني انه اقتنع بالموضوع واعتمده في طروحاته.

وأجد من الضروري التذكير برأي الراحل الوردي بأبن خلدزم و’’’نظريته’’’ واضع انامكم جزء مما ذكرته في :الراحل علي الوردي في ميزان(4) الوردب وابن خلدون في 16.03,2018 الرابط:

http://www.almothaqaf.com/qadayaama/b1d/926047

الراحل علي الوردي في ميزان (4): الوردي وابن خلدون في 16.03.2018

حيث ورد التالي: [في ص37من كتاب دراسة في طبيعة المجتمع العراقي الصادر عام 1965/ تحت عنوان فرعي: أهمية أبن خلدون كَتَبَ الراحل الدكتور علي الوردي التالي: [أنه كان ولا يزال أعظم من درس المجتمع العربي على اساس من طبيعة تكوينه الخاص أي على أساس ما جرى فيه من صراع بين البداوة والحضارة. حين ندرس نظرية ابن خلدون نجدها في معظمها تدور حول المقارنة بين البداوة والحضارة وكيف حصل الصراع بينهما ولهذا جاز القول بأن هذه النظرية هي على الرغم من قدم زمانها خير مرجع لنا لدراسة المجتمع العربي انها انبعثت من طبيعة هذا المجتمع كمثل ما انبعثت النظريات الاجتماعية الحديثة من طبيعة المجتمع التي نشأت فيه. مهما يكن الحال فان هذا الذي نقوله عن نظرية ابن خلدون لا يعني انها كانت صحيحة او كاملة في جميع تفاصيلها انها كأية نظرية اخرى من النظريات العظيمة لا بد ان تحتوي على نقائص واخطاء كمثل ما تحتوي على ابداع واصالة. من هذه الاخطاء أنه عندما درس الصراع بين البداوة والحضارة في المجتمع العربي وظن أن هذا الصراع عام في جميع المجتمعات البشرية ولهذا رأيناه يحاول تفسير التاريخ البشري كله بأنه عبارة عن دورات متشابهة تتتابع مرة بعد مرة ولا يختلف فيها العرب عن غيرهم من الأمم. هو يصف كل دورة بأنها تنشأ من جراء هجوم البدو على الحضارة المجاورة فيؤسسون فيها دولة مزدهرة ولكن هذه الدولة تنحط وتضعف تدريجياً لما ينالها من الترف والنعومة حتى تسقط اخيراً أثر هجوم موجة بدوية جديدة عليها وهكذا يتوالى ظهور الدول وسقوطها مرة بعد مرة. أن هذه النظرية الخلدونية تصدق بدرجة كبيرة كما لا يخفى، على تاريخ المجتمع العربي وقد تصدق بدرجة أقل على تاريخ بعض المجتمعات الاخرى كما رأينا سابقاً. إنما هي على أي حال لا يجوز تعميمها على تاريخ جميع المجتمعات البشرية. وهناك خطأ أخر اقترفه ابن خلدون هو انه ظن بأن العرب أشد الامم بداوةً وبعداً عن الحضارة ولهذا رأيناه يصف العرب بكل ما يناقض صفات الحضارة من تخريب ووحشية وخشونة وما اشبه. ............... الغريب من ابن خلدون انه قال بذلك الراي المتطرف في العرب وهو يعيش في عصر كانت وحشية المغول وتخريبهم ملأ الأسماع والأبصار في كل مكان وقد اتيح له ان يكون في الشام عند اجتياح تيمورلنك لها وشهد مدى التخريب الفظيع والنهب والحرق والقتل الذي حدث فيها على يد التتر المتوحشين وكان ابن خلدون يعرف ماذا صنع تيمورلنك في المدن الاخرى وما صنع اسلافه ك "هولاكو وجنكيز خان" قبله] انتهى.

وفي ص38 من كتابه: دراسة في طبيعة المجتمع العراقي كتب الراحل الوردي التالي: [... ولا ننسى ان ابن خلدون كان في سيرته انتهازيا فظيعا يود التقرب من الملوك وقد يقلب في سبيلهم الحق باطل) انتهى.

وقبل التفصيل اسأل هل هناك مجتمع عربي على أيام ابن خلدون حتى درسه وأعجب الوردي؟ بل هل يوجد مجتمع عربي حتى اليوم؟؟؟؟ هناك مجموعة عربية...هناك ناطقين بالعربية في كل العالم تقريباً...هناك امة عربية...لكن ليس هناك مجتمع عربي

..........

المهنة والمهانة ايهما الأصل وايهما الفرع في ضوء رأي الوردي بنظرية ابن خلدون:

هل المهنة من المهانة أم المهانة من المهنة؟ ... 

أولاً: يقول الراحل الدكتور علي الوردي نقلاً عن ابن خلدون الذي ورد رأي الوردي به اعلاه: [لأن صاحب السيف يأبى ان يكون صانعاً أو عالماً وقد كان يسمي ألصنعة ’’ مهنة’’ أي شيئاً ممتهناً ومحتقراً’’] 

 وانا اقول ان ألصنعة سبقت المهنة والعمل سبق المهنة والمهنة سبقت المهانة وعليه فإن كانت هناك علاقة بين الاثنتين فالمهانة من المهنة وليس العكس. حيث صارت المهنة تشمل كل مجالات العمل في الحياة فلا يمكن ان تكون كل مناحي الحياة اليدوية والفكرية مهانة فماذا تقولون لطفاً؟

هل جمعيات ذوي المهن الطبية او ذوي المهن الهندسية او غيرها هي جمعيات إهانة او مُهينة او مُهانة وبالذات عند دراسة الراحل علي الوردي للمجتمع العراقي؟

الان نعود للنص الذي انتزعه الراحل الوردي من كتابات ابن خلدون ونقله لنا والذي تبناه الوردي واعتمده وانتشر وشاع عند أجيال لا أقول قبل جيل الوردي لكن من جيل الوردي والاجيال لتالية له وسيستمر لأجيال قادمة.

مناقشة النص المنقول عن ابن خلدون ...حيث ورد فيه التالي:

1ـ (صاحب السيف). 

السؤال على زمان ابن خلدون وما قبله من هو صاحب السيف؟ هل البدوي العربي فقط؟ ام كل مقاتل وكل سَّلاب نَّهاب من الذين كانوا في محيط ابن خلدون او قرأ عنهم /عليهم أو تعامل معهم ومنهم مِنْ بُناة وحُماة الحضارة التي كانت حيث كان؟ اليس المدافعين عن الحضارة التي غزتها البداوة (صاحب السيف) (السَّلاب النَّهاب) كانوا ايضاً حملة سيوف؟ أم انهم استقبلوا السَّلابة النَّهابة بالورود والزغاريد والصلوات؟

2ـ (يأبى ان يكون صانعاً او عالماً). 

هل كان الموضوع بيد صاحب السيف؟ وكأن مراكز التدريب الصناعي ومعاهد التدريس منتشرة في ازقة ذلك الزمان وفي كل حي من الاحياء تدعوا أصحاب السيوف ان هبوا الى الصنائع والدروس والتدريب وهم يأبون ذلك ويصرون على حمل السيوف ويتلذذون بالسلب والنهب.

السؤال هنا: كم عدد او نسبة من كانت الفرصة سانحة لهم ليكونوا صُناع وعُلماء من أصحاب السيف وآبوا ان يكونوا كذلك؟ وهل كانت الصناعة و(ألعلومية) ملك ايمانهم ورفضوها وامتشقوا السيوف وصاحبوها؟

3ـ (وقد كان يسمي ألصنعة مهنة):  

’’ وقد كان’’ هنا تعود الى صاحب السيف وفي الزمن الماضي غير المحدد لزمان ابن خلدون وهنا أسأل: كم من حملة السيوف واصحابها وصُحبانها من كان يسمي ألصنعة مهنة؟ 

لم يُشِرْ لا ابن خلدون ولا الوردي الى ان العيب في صاحب السيف الذي لا يعرف ان المهنة مهارة ودقة وتفكير وإبداع وصبر وارتقاء وتحتاج لسيف يحميها...ولم يُشيرا الى ان أصحاب المهن والصنائع هم من بنوا الحضارات التي يفتخر بها ابن خلدون وغيره في وقته او في وقت الوردي ويدافع ودافع عنها أصحاب سيوف أيضاً، وجميعهم كانوا ولا زالوا من محبي السلب والنهب والمساهمين فيه حيث ما حصل غزو أو’’ فتح’’ إلا ورافقه السلب والنهب حتى يومنا هذا ومن كل الجماعات والحكومات والشعوب سواء كان موقعها في العالم الأول او الثاني او الثالث. الإنكليز كانوا أصحاب سيف و إحتلوا و سلبوا و نهبوا بعد ان انتصروا على أصحاب السيف المدافعين و الفرنسيس و الاسبانيول و البورتُكَيه والامريكان والهولنديين و البلاجكه و الجابونيين فعلوا ما فعل الانكَليز وحتى يومنا هذا. 

خلاصة قول بن خلدون هذا كما أتصور هي: 

ان هناك عدد من أصحاب السيوف مَنْ أبوا ان يكونوا صُناع وعُلماء وهم أكيد قلة فالصناعات (الصناع) والعلوم (العلماء) غير متاحة/ غير متمكن منها الجميع او لا يجيدها الجميع والمواهب اللازمة لبروزها محدودة بينهم ومِنْ هذه القلة هناك من كان يسمي ألصنعة مهنة وهناك من قِلَتْ هذه القلة من كان يربط بين المهنة والامتهان والحقارة...طبعاً هناك بعض المهن في كل زمان ومكان تلك التي يستعر منها الانسان. 

هكذا أفهم هذا النص الذي نقله لنا الوردي...الرجاء ممن قرأ هذا النص عن غير الوردي أتمنى ان يذكره لنا لتعم الفائدة. فماذا تقولون يرحمكم الله؟

 تقول بعض الروايات ان آدم كان حائكاً أو صانعاً وإن نوح الذي أنقذ الحياة من الطوفان كان نجاراً وان فلان كان راعياً أو مزارعاً وآخر عمل في التجارة وان الراشدين الأربعة كامو أصحاب مهن يدوية وفكرية وكانوا أصحاب سيوف في نفس الوقت.

إذن كيف تحولت خير الاعمال التي قام بها خير الناس الى مهانة؟ 

اعتقد ان هذا قول مشكوك فيه حيث لو كانت المهنة من المهانة او من جذرها فيمكن ان نقول: 

الدين من الدَّين والبَّزازين من البِزازين "القطط" والهَرَمْ من الهَرِمْ. والرَجُلْ من الرِجِلْ والقَدَمْ من القِدَمْ والجَدْ (والد الابوين) من الجِدْ والمَرْكَبْ من المُرَّكَبْ والْسِحِرْ من الْسَحَرْ وعَزَفَ من عَزْف وصاحِبْ من صاحَبَ ونُصْف من نَصِفْ والسِلْمُ من السُلَّمْ وغيرها الكثير.

لا اعتقد ان البدو أطلقوا على العمل اليدوي مهنة "مهانة’’ لأنهم اصلاً لا يعرفون العمل ولم يرد العمل او المهنة في امثالهم واقوالهم واشعارهم بما يناسب انتشارها في حياة اليوم ولا اعتقد ان ’’ مهنة’’ كمفردة وردت في الكتب المقدسة بما يناسبها وبهذا الوضوح فلدا العرب او البدو مفردات أخرى مثل: حِرْفَة...صنعة...عمل...شغل. ثم كيف يكون البدوي صانعاً او بقالاً او معلماً او كاسباً او حائكاً في تلك الصحراء المقطوعة عن العالم وفي تلك الظروف؟ هل هناك ظروف تسمح بذلك او تدفع لذلك او تمكنه من ذلك حتى يمتنع عن تلك المهن؟ 

المعروف ان كل أو أغلب أصحاب الحِرَفْ/المِهَنْ التي تَعَّرَفِ عليها البدو العرب منذ خمسة عشر قرناً لليوم هم من الرق والعبيد والموالي والعيب الذي يطرحه البدو ليس للمهنة انما لأصول هؤلاء الحرفيين الصُناع وأبناء هؤلاء أي أبناء الصًناع. 

ثانياً: في ص 178 /دراسة في طبيعة المجتمع العراقي 1965وتحت عنوان فرعي: (احتقار الحائك): كتب عالم الاجتماع العراقي الكبير الدكتور علي الوردي له الرحمة والذكر الطيب التالي: [اما حائك النسيج فهو وضيع جدا لا يكاد يدانيه أحد في حقارته فأبناء القبائل ’’ الأصيلة’’ لا يزوجونه من بناتهم وهم من جانبهم لا يتزوجوا من بناته وان نشب قتال فليس من المفروض ان يشترك الحائك فيه انه يجلس مع النساء ولا يطلب منه الرجال أية مساهمة في معاركهم مهما كانت ضئيلة] انتهى

ورد في هذا النص التالي:

(اما حائك النسيج فهو وضيع جدا لا يكاد يدانيه أحد في حقارته) ...العجيب هذا رأي عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي... لو نَسَبَ/نُسِبَ هذا القول لغيره او لو قال أنَ البعض يقول، او لو قال عند البعض أو هذا رأي البعض لكان يمكن ان نقول انه قول منقول/اجتهاد... لكن الوردي افتتح به (عنوانه الفرعي: احتقار الحائك) ...لا اعرف رأي الوردي بالصائغ وميزانه وصانع العطار والغش في البضاعة؟ وهو عمل صابع عطار.

ولتفسير او تبرير رايه المنحرف هذا كتب الراحل الوردي في ص 179 من نفس الكتاب وتحت نفس العنون الفرعي التالي: 

[إن احتقار الحائك تراث بدوي قديم وقد كان البدو منذ قديم الزمان إذا أرادوا شتم أحد قالوا له: (حائك ابن حائك). ومنشأ هذا الاحتقار هو ان الحائك يحترف عملاً من اختصاص المرأة في نظر البدو] ... 

لو اكتفى الوردي بهذا القول لقبلناه نوعما ولكنه أبى ان يتوقف فتبعه بالتالي: 

[فهو يعيش بكد يمينه بدلاً من ان يعيش من كد سيفه]. وكأن الحائك هو الوحيد الذي يعيش بكد يمينه... وصاحب السيف السَّلاب النَّهاب كان ولا يزال يعيش بكد يساره او رجليه. 

ولو اكتفى لحد هذا لقبلنا ايضاً لكنه أبى أيضا الا ان يُكمل بالتالي: 

[وقوة ذراعيه]... وكأن الحائك لا يستعمل قوة ذراعيه...

ثم يُكمل فيقول: [ويضربون به المثل فيقولون: (كالحائك عمرة ما قتل فارة)]

 ...والعجيب ان الوردي لا يعلم ولم يفكر بأن أكثر من قتل الفئران هم الحاكة لأنها تقضي على بضاعتهم وصنعتهم.

يتبع لطفاً

 

عبد الرضا حمد جاسم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم