صحيفة المثقف

أشتري الحَزَنَ والحُزْنَ، فَمَنْ يَبيع؟!

سمير محمد ايوبيا أمَّةً يَضْحكُ كُلُّ خلقِ الله، مِنْ جَهْلِها،

أبحثُ عمَّنْ يَبيعَني حَزَناً وحُزْناً، في بقايا أمّة كلُّ صوامِعِها وبِيَعِها وجوامِعها وكنائِسها وخَلْواتِها، تَفيضُ مآسيَ محفوظةً، بالتَّمْليحِ والتَّسْكيرِ والتَّجفيف والتَّثليج . دموعٌ مِنْ كلِّ حَدْبٍ وصَوْبٍ وشَيء، تتفجَّرُ أنهاراً تَسْقي العِطاشَ، وما أكثرَهُم .

بقايا أمة صار البكاءُ بينها خِدمةَ عَلَمٍ وواجِباً وطَنيّا . صارَ وجبةً تراثي!ةً يومية. كالمقلوبة والكُسكُسيّ والملوخية بالأرانب، والمَحاشي، والكبّة النية والمقلية، والتَّشريب والكَبْسة والمَنسَف .

صباحاتُ هذه البقايا البشرية رتيبة، يحتسون في بيوتهم  دموعَهم في فَناجينٍ مِنْ ذهبٍ ومن طينٍ ومنْ خشب . يشربون بعضها عندَ العَطَش، وبحرصٍ وعنايةٍ يُخبِّئونَ جُلَّها للأيّامِ السّودِ القادمة . وحْدَها دموعُ العرب العاربة والمُستعربة والمُتَصهينة، تُذرَفُ دونَ أنْ تَلْفِتَ أنظارَ أَحدٍ. كأنَّها سَلَسُ بَوْلٍ مُزْمِنٍ أو سِفْلِسٍ مُتَمكِّنٍ .

أتمنى على كلِّ مَنْ قد يظُنَّني مُبالِغاً، أينْ يَهُزَّ جوازَ سفَرِه، أو بِطاقة هويتة، أوسارية علمه، أو نشيد وطنه، لِتَنهَمِرُ منه دُموع . فمَنْ لا تبكي نفْسُه أو روحُه أو عقلُه في بلادِنا، تبكي عَيناهُ أو قلبه . حتى السكوت والصمت والتسحيج والتشبيح والتهريج والتهليل والتكبير، تَعلَّمَ البكاءَ في ما تبقى مِنْ مَواطِنِ العَرب .

في كلِّ مرةٍ قد يخرجُ أحدُنا فيها مِنْ مَرْقده، في كِيانِيَّاتٍ مُراهقَةٍ، شائِخةٍ، وقورةٍ أو حائرة، قد يتزحلقُ في مستنقع  دم، أوفي بِركةِ دمعٍ متروكٍ  بالتَّعمُّدِ، قربَ مدرسةٍ أو مشفى أو مُعتقلٍ، أو قربَ شَهيدٍ أو مغدورٍ أو مقهور، وقد يبكي على إنسانيته وعلى كرامته، بدموعٍ ما عادت توجعُ أَحدا، بل بِتَجهيلِ العِصيِّ والجَزَرِ، بات لا أحد يثق أنه باكٍ .

من أول ماء تلك الأمّة إلى آخر الماء في بقاياها، حوَّلَت أنيابُ البعضِ وأظلافُهُم مَثاباتِنا إلى مكاره وطنية، سُبِيَتْ فيها أرواحٌ، سُرِقَت أعمارٌ، إغتُصِبَت مواهبٌ، هُجَّرَت أدمغةٌ، نُهِبت أموالٌ، دُمِّرَتْ دِيارٌ، لُوِّثَت عُقولٌ وأُفْسِدَ وعْيٌ .

أوَلَمْ يَحنِ الوقتُ بعدُ، لِنعترفَ أننا لعبةُ أمَمْ؟! أوَلَسنا مجاميعَ بشرية أدْمَنت العيش بغرائزها، ترعى وتتناسل من دون أي هدفٍ حضاري في أرخبيل قرى العالم؟! وأنَّ جُلّنا قراصِنَةٌ وقطّاعُ طرقِ وأُمراءُ حَربٍ ومرتَزَقَة مُتسولون؟! لا تجهدوا أنفسكم  بالتفتيش عن عنترة أو بن الوليد أو المعتصم أو صلاح الدين أو القسام أو بن ذي يزن أو الزباء، ستجدون كلّ المِلَلِ والنِّحَلِ دون أن تجدوا عربيا من ذوي العنفوان . ستجدون المُتأمرِك والإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني، وستجدون المتصهين والمُتأسرِل، وستَتَعثَّرون بالمغولي والعجمي والسلجوقي . إنقرض العربُ وبادَ ذوي العزم . صارَوا على موائد اللئام أيتاما، وعملة نادرة كالغولِ والعنقاء والخِلِّ الوفي .

لا تَنسوا وسطَ دموعكم، أننا أمة مِنْ جُثث ماتت منْ قبلُ، وأنَّ بعضنا مُتخصص بالمدافن . مدافنٌ  في المضارب وفي البيوت وفي الفِلل والقصور، وفي السيارات الفارهة . مُتْنا وننتَظِرُ قِيامَةً يبدو أنّها قدْ تأخّرَت. لا شيء سِوى رب لوطٍ يُنقِذُنا، فجلُّنا مِنْ بقايا قومه.

من يُلقي السمع وهو شهيدٌ، سيُبَرِّرْ ليَ قَسوتي في التعبير . وبالطبعِ هناك مَن يُبرر للنًّسخِ المُحدَثةِ من قدامى الاستعمار الممجوج غزوهم المعاصر رغم فظاظته، فمَنْ يَهُن يسهلُ الهَوانُ عَلَيه .

يبدو أنّنا نستحق أكثر من ذلك، فلا تلوموا الذئاب ولا حتى الكلاب، فالمالُ السائبُ يعلِّم كلَّ مَنْ هبَّ ودَبَّ الحَرام .

 

كتب الدكتور سمير محمد ايوب

الاردن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم