صحيفة المثقف

مستقبل المشهد السياسي في الجزائر

قادة جليدمن الحراك الشعبي إلى الكتلة التاريخية

تشهد الجزائر اليوم تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة في بنية الدولة والمجتمع وإعادة ترتيب العلاقة والأدوار بينهما على أسس صحيحة قائمة على مبدأ التوافق وعقد ديمقراطي واجتماعي جديد من أجل الإستجابة لمطالب الحراك الشعبي المبارك بضرورة الذهاب إلى التغيير الشامل لطريقة تسيير الشأن العام وإحداث القطيعة بكل أشكالها مع ممارسات الماضي التي أدت إلى إنسداد تاريخي وأوصلت المجتمع الجزائري إلى مرحلة من اليأس والقنوط كان سيؤدي إلى الإنهيار التام لولا هذا الحراك الشعبي الذي استعاد المبادرة التاريخية من جديد كروح تاريخي جماعي يعبر عن يقظة الوعي وانتفاضته الذي أنقذ البلاد من هذا المصير المحتوم، لقد أفرز الحراك تحولا سياسيا عميقا في طبيعة السلطة ونفسيتها في الجزائر، في علاقات القوى داخل هذه السلطة وطريقة إشتغالها وممارستها للحكم، فلأول مرة ومنذ استقلال الجزائر لم تشهد في تاريخها السياسي تنظيم انتخابات رئاسية ديمقراطية شفافة مثل إنتخابات 12 ديسمبر 2019 التي أفرزت انتخاب السيد عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية بحصوله على 58.15 من الأصوات بطريقة ديمقراطية لا غبار عليها إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي وفق مقاييس الديمقراطية المتعارف عليها عالميا، وعندما نذكر هذه الحقيقة التاريخية فلا بد أن نؤكد على شيء مهم وهو أن الإشراف على هذه الإنتخابات من بدايتها إلى غاية إعلان النتائج كان من طرف سلطة وطنية مستقلة لتنظيم الإنتخابات بعيدا عن تدخل الإدارة ووزارة الداخلية، هذه السلطة المستقلة التي كانت مطلبا أساسيا لأحزاب المعارضة في الماضي ومما أعطى المصداقية والشرعية لهذه الإنتخابات أن الفائز فيها لم يكن معروفا سلفا ولكن أعلنت عنه صناديق الإقتراع التي كانت محاطة بعيون المراقبين وتحت أنظارهم منذ بداية العملية الإنتخابية إلى نهايتها. وكانت هذه رسالة واضحة وقوية من الشعب الجزائري الذي كان مستقيلا تماما من الحياة السياسية للقوى الخارجية وخاصة فرنسا التي كانت تحرك الخيوط ضد الجزائر وترسم مسارها السياسي بالتحالف مع أنصار الثورة المضادة في الجزائر الذين تضررت مصالحهم من التغيير بالدعوة إلى مرحلة انتقالية هي بمثابة نفق مظلم كان سيؤدي بالبلاد إلى الإنقسام والإنسداد والمزيد من التبعية ومحاولتها توجيه الحراك نحو أهداف أخرى من أجل تدجينه وتشويهه، بل وحتى تبنيه من خلال شعارات مخادعة باسم الحرية وحقوق الإنسان، هذه الثورة المضادة التي تمثلها قوى متغلغلة إجتماعيا بشكل بنيوي في عالم الإقتصاد والمال والإدارة والإعلام والجمعيات الثقافية والتنظيمات المهنية والحقوقية بفعل أسباب تاريخية لعل من بينها تهميش المثقف وتأثيمه في منظومة القيم وسلم الأولويات في المجتمع مما جعله يبحث عن صدى لصوته في منابر أجنبية مع وجود قوى إجتماعية ذات نفوذ وتأثير وتوجه إيديولوجي غير وطني تدافع على مصالح فرنسا أكثر من دفاعها على مصالح الجزائر إن لم يكن الأمر أكثر من ذلك من حيث السوء والدراماتيكية، وهو التيار المعروف في الأدبيات السياسية الجزائرية ب (حزب فرنسا) ولا يسع المقام هنا لمناقشته وتحليله وتفكيك خيوطه وتشابكاته وارتباطاته وآليات اشتغاله وتوظيفه عند الحاجة من طرف القوى الأجنبية التي ترعاه وتشرف عليه، ولكن، وبعد دسترة الحراك في مسودة الدستور التي ستعرض على الشعب من أجل الإستفتاء عليها يوم أول نوفمبر وإعلان السيد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون يوم 20 فبراير يوما وطنيا للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه ورسم مسارات التحول الديمقراطي والمؤسساتي في البلاد بإجراء انتخابات مسبقة والذهاب إلى مؤسسات منتخبة ذات تمثيل شعبي حقيقي، وبعد أن أدى الجيش الوطني الشعبي رسالته التاريخية في مرافقة الحراك وحمايته دون أن تسقط قطرة دم واحدة كما وعد بذلك وأوفى قائد أركان الجيش الوطني السابق المرحوم أحمد قايد صالح، هل يمكن أن نقول اليوم أن االحراك باعتباره معلما تاريخيا لليقظة والوعي ضد الإنحراف قد حقق أهدافه كاملة وأن التغيير الشامل والحقيقي أو ما خرج الشعب من أجله قد تحقق بالفعل ؟ هل يمكن أن يستمر الحراك في المستقبل وإلى متى، وهل سيتم بنفس الشكل والشعارات من خلال المسيرات والمظاهرات أم أنه لا بد أن يطور نفسه ويستمر من خلال وسائل أخرى؟

هل أخضع الحراك نفسه للنقد الذاتي، هل راجع مساره وشعاراته وأفكاره ومقولاته وهل أخضعها لمنطق العقل والواقع والتاريخ؟ وهل الحراك له جماعة أو أشخاص لهم حصريا صفة التمثيل والحديث باسمه؟ ومن جهة أخرى، أوليس الحراك أو ما تبقى منه على حق في معارضته الراديكالية للسلطة في غياب الثقة التي تسببت فيها ممارسات السلطة سابقا القائمة على الوعود والأوهام؟ ألا توجد هناك مخاوف من أن تقوم السلطة بإعادة إنتاج نفسها وتحول الحراك من رمز ملهم إلى شعار متخشب؟

كل هذه الأسئلة التي تشكل هواجس ومخاوف لدى البعض موجودة في المجتمع والجزائريون بحاجة إلى حوار ونقاش مستمر فيها بينهم لأن تراكم الأزمات في الجزائر هو نتاج غياب الحوار الحقيقي الذي يؤدي إلى التقارب والتعايش، أما غياب الحوار فإنه يؤدي إلى التباعد والتنافر والإحتقان والحوار لا يكون إلا بطرح أفكار جديدة وهذه هي مهمة المثقفين الحقيقيين الذين ينيرون الطريق أمام المجتمع بأفكارهم عندما تكون هناك أزمة أو مشكلة أو إنسداد في الأفق فالمثقف هو الذي يمتلك الجرأة على قول الحقيقة وفضح الأكاذيب وإفساد الحفلات التنكرية، لذلك فإن تحديد المفاهيم والمصطلحات هو مطلب أساسي لكل مقاربة تاريخية وفكرية وثقافية .

1- الحراك الشعبي: هل هو ثورة أم إنتفاضة شعبية أم حالة ثورية؟

لا زال مفهوم الحراك الشعبي في الجزائر ملتبسا لدى الكثير من الباحثين، فهناك من يعتبره ثورة ويحاول أن يربطه بطريقة تعسفية مغرضة ب(ثورات الربيع العربي المزعومة) التي أعدت سلفا في مخابر أجنبية لتحقيق أجندات وأهداف سياسية وإستراتيجية في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط تحديدا، وهناك من يعتبره حالة ثورية متحركة تمهد لثورة حقيقية في المستقبل، وهناك من يعتبره إنتفاضة شعبية للإحتجاج على وضع قائم من اجل السعي إلى تغييره حسب تطلعات وآمال الشعب ونفسية الجماهير المقهورة، وبالتالي فإن الحديث عن الحراك يدفعنا إلى تحديد المفاهيم في سياقها التاريخي ومجالها التداولي .

إن الحراك الشعبي في الجزائر وإن كان يحمل معه إرادة التغيير ليس ثورة بالمعنى الذي يحمله مفهوم الثورة في القواميس الفكرية والسياسية والسياقات التاريخية للثورات، فالثورة هي تغيير جذري للواقع على جميع المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، والتغيير من حالة تاريخية وسياسية إلى حالة أخرى جديدة تكون وسيلته دائما الطرق الثورية التي تعني استعمال العنف الثوري في إزالة النظام السابق وإراقة الدماء باسم الشرعية الثورية والمحاكم الثورية ضد أعداء الثورة ورموز النظام والعهد السابق كما حصل مع الثورة الفرنسية (1789) التي كان شعارها (أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس) فكانت ثورة ضد نظام ديني ملكي وهذا المعنى عبر عنه الفيلسوف الألماني هيجل (1770_1831) الذي كان معجبا بالثورة الفرنسية ونابليون بقوله (إن التاريخ هو مذبحة الأبطال) هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن ربط الحراك الشعبي في الجزائر بثورات الربيع العربي المزعومة أو أية مرجعية أخرى هو تزييف للحقيقة التاريخية وانتقاص من قيمة الحراك نفسه ودوره التاريخي في الجزائر وفي المحيط العربي والعالمي لأن الشعب الجزائري بكل مكوناته ينتسب تاريخيا وفكريا وإيديولوجيا ورمزيا ونفسيا لثورة واحدة وهي ثورة الفاتح نوفمبر المجيدة ملهمة الثورات العربية والعالمية في عصرها ولازالت إلى اليوم، وهي الثورة التي تمثل مرجعيته التاريخية وذاكرته الجماعية ويرجع إليها دائما في بناء خطاباته وتصحيح مساراته كلما أخطأ الطريق أو تفرقت به السبل بفعل الأزمات والإنتكاسات والخطوب، فثورة أول نوفمبر المجيدة تبقى المرجعية الوحيدة للشعب الجزائري ووثيقته التاريخية الأولى، مكتوبة بالدماء والتضحيات الجسام وأي حديث عن مرجعية أخرى للثورة هو تزييف للحقيقة والتاريخ .

لقد كان الحراك الشعبي في الجزائر إنتفاضة شعبية بمشاركة كل مكونات الشعب الجزائري بمختلف التيارات والإيديولوجيات والفئات ولكنها كانت إنتفاضة من نوع خاص، إنها انتفاضة وعي جماعي ضد ممارسات الماضي التي أدت إلى تراكم أزمات غير محلولة وانتهاج حلول خاطئة لمشاكل حقيقية كادت أن تؤدي بالبلاد إلى الإنهيار لولا الحراك الشعبي الذي أنقذ الموقف من حيث لم يكن يتوقع أحد ذلك.

لقد قلت أن الحراك الشعبي في الجزائر هو انتفاضة شعبية من نوع خاص، إن هذه الإنتفاضة النوعية تمثل انتفاضة الروح التاريخي الجزائري الجديد، لأن الحراك لم يرفع مطالب إجتماعية أو ثقافية أو جهوية ولكنه رفع مطالب حضارية بامتياز، إنه يرفض أن يعيش على هامش التاريخ، إنه يريد أن يكون جزءا من حركة التاريخ بصناعة ملاحم تاريخية جديدة في مستواه التاريخي والحضاري لأن مشكلة كل شعب كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله (1905_1973) هي مشكلة نهضته وآن لهذا الشعب أن يصنع نهضته الجديدة.

2- الحراك وضرورة النقد الذاتي ومراجعة المسارات .

لقد بدأ الحراك الشعبي في الجزائر كقوة تاريخية هائلة معبرة عن وعي تاريخي عميق كذات تاريخية متطلعة إلى تغيير الحاضر وبناء مستقبل جديد، ولكن هذا الوعي في نظرنا لا بد أن يتحول إلى وعي إستراتيجي وأن لا يبقى على مستوى العاطفة ولكن يجب أن يرتقي إلى مستوى العقل والفكر بطريقة نقدية واعية لكي يحقق أهدافه الكبرى المأمولة وحتى لا يتوقف الحراك في منتصف الطريق بعد أكثر من سنة ونصف من انطلاقه، وإذا كان الحراك الشعبي ظاهرة تاريخية بامتياز وهو كذلك من حيث أهمية وقيمة النتائج التي تمخضت وترتبت عنه فلا بد في نظرنا أن يمارس النقد المزدوج، وإذا كان نقد السلطة في عرف الحراك وأدبياته شيئا طبيعيا فإن ممارسة النقد الذاتي، أي ممارسة النقد على الحراك من طرف الحراك نفسه بات شيئا ضروريا لأنه يعتبر العامل الأساسي في هذه المرحلة التاريخية لكي يضمن الحراك شروط نجاحه واستمراره في مستقبل لتلافي الأزمات والإنسدادات التي قد تحول الحراك من قوة حية إلى قوة خاملة تعجل بنهاية الحراك كقوة دافعة للمستقبل .

إن النقد الذاتي ومراجعة المسار يعني مراجعة الحراك لتجربته من خلال مراجعة أحكامه ومقولاته وشعاراته دون إغفال الواقع المتحرك من خلال ما تحقق وما لم يتحقق بعد، إن هذا الأمر أساسي وجوهري بالنسبة لنا، لأنه من خلال النقد الذاتي يعمل الحراك على إغناء ذاته من الداخل وتطوير أساليبه وتنفتح أمامه الآفاق المسدودة بالتعامل مع الواقع بروح نقدية مسؤولة واستيعاب معطياته الجديدة، وكمثال على ذلك، فلقد رفع الحراك شعارات كثيرة تعتبر بمثابة خطوط سياسية كبرى تم الترويج لها إعلاميا في منابر عدة ولا زال ذلك إلى اليوم مثل شعار (دولة مدنية وليس عسكرية) وأنا أعتقد أن هذا الشعار قد تم تجاوزه واقعيا من خلال الإنتخابات الرئاسية الأخيرة التي اختار فيها الشعب رئيسه المنتخب بطريقة ديمقراطية شفافة لأول مرة في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، نقول هذه الحقيقة كباحثين ومتابعين يقوم عملنا على تحليل الواقع وتوصيفه من خلال إبراز الثابت والمتغير فيه، إنه حكم الواقع والتاريخ المرتبط بإرادة الشعب وبالتالي لا بد من استيعابه والتعامل مع نتائجه .

إن الترويج لهذه الشعارات التي قد تجاوزها الزمن والتعامل معها كأهداف سياسية كبرى ثابتة تعبر عن أزمة في الفكر وطريقة التفكير وهي في نظري (شعارات دكتاتورية) وأفكار ميتة ومميتة بتعبير مالك بن نبي لا حياة فيها ولا تهب القدرة على الحياة وهي نتيجة لرواسب الماضي في غياب حوار حقيقي بين الجزائريين بحيث أنتجت هذه الرواسب الإصطفافات السياسية والإيديولوجية المحنطة والأحكام المسبقة والصور النمطية المختلفة وعدم الإعتراف بالآخر، لأن كل طرف يريد أن يحقق ذاته على أنقاض الآخر لا معه أو بمشاركته .

كما أن العقل السياسي الجزائري المعاصر غارق في الشخصنة وهو أكبر عائق أمام تطور المجتمع وتكاد تصاب بالإحباط عندما تسمع النخبة السياسية عندنا تخاطب المجتمع بهذه اللغة القاتلة على غرار جمهورية تبون وبرلمان شنين ومجلس قوجيل وحزب فلان ومنظمة علان وأخيرا وليس آخرا دستور لعرابة، وعلى هذا الأساس اتخذت بعض الأحزاب السياسية في الجزائر مواقف بالتصويت بلا على أساس أن هذا الدستور دستور شخص وليس دستور مجتمع وهي في حقيقة الأمر تحاول بهذه المواقف المتطرفة الإستثمار في الإستحقاقات السياسية القادمة وتوظيف عناصر الهوية للتفريق بين الجزائريين وكسب الأصوات التي ينطلي عليها هذا الخداع السياسي .

إن مراجعة الحراك لمساراته يعني تجاوز كل هذه الأفكار والممارسات ما دام أن أهدافه الكبرى التي تحرك من أجلها تصب في مصلحة الشعب كله وليس في مصلحة فئة أو جماعة أو طبقة أو تيار إيديولوجي معين، لذلك نحن اليوم بحاجة إلى الحوار الشامل بين جميع الجزائريين، حوار يشارك فيه الجميع وتؤطره نخبة المجتمع للخروج من السياجات الدوغماتية المغلقة والإنسدادات التاريخية .

3- الحراك وضرورة التحول الفكري:

لقد قلت وكتبت في مناسبات سابقة أن الحراك الشعبي في الجزائر لا بد أن يتحول من حالة إعلامية إحتفالية إلى حالة فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية، بمعنى أن الحراك الشعبي كفكرة ومفهوم وقوة تاريخية شعبية إذا أراد أن ينجح ويؤثر في الأحداث فلا بد أن يتمأسس بمعنى أن ينتظم في أحزاب وجمعيات وتنظيمات ونوادي فكرية وثقافية حتى تكون له القدرة على تعبئة المجتمع وتأطيره وتمثيله، بمعنى آخر لا بد أن ينغرس الحراك كمبدأ للتغيير الإيجابي نحو الأفضل في كل المجالات، في الوعي الفردي والجماعي والمؤسساتي وكل مفاصل المجتمع ويصبح قاعدة للتفكير والسلوك لأن تجاوز ممارسات وقيم الماضي لا يكون إلا من خلال ممارسة وتحقيق قيم جديدة، بهذه الطريقة يمكن إحداث القطيعة بين الحاضر والماضي واستشراف المستقبل، ومن جهة أخرى، لا بد أن يخرج الحراك من منطق العقل الأرثوذكسي الوثوقي القائم على مبدأ الحقيقة الواحدة، أي أنه الوحيد على صواب والآخرون على خطأ إلى منطق العقل الإنبثاقي الإستطلاعي القائم على التعدد والإختلاف وقبول الآخر ونسبية الحقيقة وأنها تتغير بتغير الظروف والأزمنة، إن العقل الأرثوذسكي بتعبير المفكر الجزائري محمد أركون رحمه الله (1928-2010) هو عقل منغلق على نفسه لا يراجع أحكامه وأفكاره مهما كانت نتيجة التغيير على مستوى المجتمع، عقل استاتيكي يتغذى من الخيال والصور النمطية وليس من حقائق التاريخ، لذلك فهو عقل قائم على الإحتجاج من أجل الإحتجاج والرفض من أجل الرفض ونفي الآخر، أما نقيضه فهو العقل الإستطلاعي الذي يتعامل مع الواقع بكل مكوناته وأفكاره وتغييراته، عقل يؤمن بالآخر ويتحاور معه لأنه يؤمن بنسبية الحقيقة ومبادئ العلم وحقائق التاريخ، وهذه هي معركة الجزائريين اليوم مع أنفسهم من أجل تأسيس وبناء عقل جديد، عقل يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرق،  عقل خاضع للمراجعة باستمرار، وفي هذا الإطار نحن بحاجة إلى نخبة مبدعة يفرزها الحراك تكتب عن أدب الحراك ومسرح الحراك وفلسفة الحراك وانطلاق ورشات علمية حقيقية في كل التخصصات لإنجاز دراسات نفسية وتاريخية واجتماعية وأنتروبولوجية إلخ..

لدراسة الشخصية الجزائرية حتى نتجاوز أخطاء الماضي ونخرج من التشتت إلى الوحدة ومن الجمود إلى الإبداع لأن معرفة الذات عملية أساسية في كل مشروع فكري وثقافي وسياسي وإجتماعي : (اعرف نفسك من حيث أنك حصيلة سيرورة تاريخية ظلت سارية حتى اللحظة الراهنة، سيرورة تركت فيك آثارا لا حصر لها دون أن تترك سجلا يحصيها، ولذلك كان من الضروري الأكيد البدأ بكتابة هذا السجل) وهذه مهمة يقوم بها المختصون وليس السياسيين أو العوام الذين يخوضون في قضايا مصيرية بعيدة عن إدراكهم وقدراتهم المعرفية وبالتالي يقومون بإنتاج وإعادة إنتاج خطاب الكراهية والخلاف والتفرقة والتقسيم .

إن كل تحول تاريخي وسياسي يقوم على ثقافة وفكر عميق، فلم تكن الثورة الفرنسية أن تحقق أهدافها السياسية وتنجز تحولها التاريخي لولا فكر عصر الأنوار، لقد كان فولتير(1694-1778) مثلا يرافق الثورة الفرنسية كتيار ثقافي وفكري جديد بمسرحياته وكتاباته وكان يوجه الجماهير نحو الأفكار والأهداف التي كانت تخفى عليهم أحيانا أو تحجب عن إدراكهم وهذا قبل أن تتحقق الثورة الفرنسية كحدث سياسي سنة 1789، وهذه هي مهمة المثقف ووظيفته في المجتمع، إن الحراك بدون ثقافة تسنده وبدون وعي يعبر عنه، سيكون دوره ظرفيا، دور قائم على الإثارة ورد الفعل وليس صنع الأحداث والتأثير في مجرياتها وهذه هي القاعدة الأساسية والجوهرية التي يجب أن ندركها اليوم .

4- الحراك الشعبي كرهان إستراتيجي للوحدة الوطنية

بالفعل، لقد أنقذ الحراك الشعبي في الجزائر بكل مكوناته وأطيافه الوحدة الوطنية من الإنحرافات والمزايدات والإنزلاقات وكل الإصطفافات الإيديولوجية والسياسية المشبوهة التي حاولت إختراق الحراك وسرقته، فلأول مرة توحدت مشاعر الجزائريين وأفكارهم على قلب رجل واحد كما يقولون، فهو حراك شعبي وطني جمع كل التيارات والفئات المختلفة، لكنه غير محسوب على حزب أو جهة أو جماعة أو إيديولوجيا، ومن هنا عبقريته التي تفرد بها، وإنه بلا شك نفس الشعور والإيمان الذي وحد الشعب الجزائري أثناء ثورة التحرير الكبرى .

لقد وحد الحراك الشعبي الجزائريين على مبدأ واحد وهو ضرورة التغيير الإيجابي بما يلبي طموحات الجزائيين وتطلعاتهم في المستقبل، في التنمية والعدالة الإجتماعية والتوزيع العادل للثروات وحقوق الإنسان بما يحفظ كرامة الفرد والمجتمع، وبما أن الحراك قوة تاريخية منبثقة من ثورته المجيدة على مستوى الوعي والفكر لم تستطع أية جهة رغم المحاولات اليائسة أن تتبنى الحراك أو تدعي أنها تمثله وكل من كان يحاول أو يدعي ذلك كان يقذف به إلى محرقة التاريخ من طرف الحراك نفسه، لأنه تيار ووعاء تاريخي وإجتماعي تصب فيه كل التيارات والإتجاهات والأحزاب والشخصيات والفئات الإجتماعية بكل أصنافها وأنواعها، فلأول مرة وهذا شيء جديد على صعيد الوعي السياسي والفكري أصبحنا نرى الجزائري العروبي الإسلامي المحافظ جنبا إلى جنب مع العلماني اللائكي والوطني والقومي والديمقراطي إلخ .. والرجل جنبا إلى جنب مع المرأة سواء كانت محجبة أو متبرجة، لقد أحدث الحراك تحولا نوعيا على مستوى الوعي الفردي والجماعي بحيث أن هذه الصور الجديدة لم تكن مألوفة من قبل إن لم أقل مستهجنة ومرفوضة وهذا هو في نظري الحراك الحقيقي الذي أبهر العالم بسلميته وحضاريته .

و مما يجب إستخلاصه والوصول إليه من نتائج ومعطيات، أن الحراك كما جمع شتات الجزائريين ووحد مشاعرهم وإرادتهم في الحاضر يمكنه كذلك أن يجمع شتاتهم الفكري والسياسي والثقافي في المستقبل من خلال عقد ميثاق ديمقراطي تشارك فيه الأحزاب والتيارات والفعاليات المدنية والثقافية بدون إقصاء وتهميش، ميثاق يقوم على الكل وليس على الجزء، هذا الميثاق يكون فيه الحوار الصادق وبدون أفكار وأحكام مسبقة الأداة المؤسسة والفاعلة للتقريب بين وجهات النظر المختلفة وإذابة التناقضات إلى أقصى حد والإتفاق على الاهداف الكبرى التي يجد فيها كل جزائري ذاته لكي نصل إلى درجة من النضج السياسي الوطني يمكن أن يؤدي عند تحقيقه وتوفير شروط قيامة إلى تأسيس وتشكيل الكتلة التاريخية الجزائرية لإنجاز الأهداف التاريخية للحراك المتمثلة في بناء النهضة الوطنية المأمولة وتحقيق الإستقلال التاريخي للذات الجزائرية الجديدة بعيدا عن كل الإكراهات والخلافات الداخلية والتدخلات الخارجية بكل أشكالها، لأن الجزائر الجديدة لا معنى لها بدون نهضة جديدة .

5 - الكتلة التاريخية الجزائرية المعاصرة: المعنى والأهداف:

لا بد أن أشير في البداية أن مفهوم الكتلة التاريخية ينسب في الأدبيات السياسية المعاصرة إلى المفكر والمناضل السياسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891_1937) وهذا عندما كانت بلده إيطاليا تمر بأزمة تاريخية بفعل التفاوت الإقتصادي والإجتماعي والثقافي الكبير بين شمال إيطاليا وجنوبها، شمال على درجة متقدمة من التحديث والتصنيع وتسود فيه مختلف التيارات الفكرية والسياسية وجنوب متخلف على جميع المستويات يخضع لسلطة الكنيسة، ومن أجل الحفاظ على وحدة إيطاليا والتفكير في نهضتها بدون إقصاء أي طرف أو جهة إقترح مفهوم الكتلة التاريخية تضم قوى الإصلاح والتغيير في الشمال والقوى المهيمنة في الجنوب بما فيها الكنيسة .

ونحن نتعامل هنا مع مفهوم الكتلة التاريخية في مرجعيتها الثقافية والتاريخية كدال وليس كمدلول، بمعنى أننا نتعامل معه كمفهوم إجرائي بعد تبيئته في سياقنا الوطني الجزائري بمضمون جديد وأهداف جديدة .

إن الكتلة التاريخية الجزائرية المعاصرة هي ثمرة ونتاج الحراك الشعبي ومآله المنطقي، لأنه كما قلت سالفا، إستطاع الحراك الشعبي لأول مرة في تاريخ الجزائر المعاصرة بعد ثورة التحرير الكبرى أن يجمع حوله ويوحد كل التيارات والقوى الفاعلة في المجتمع التي طالبت بالتغيير ولازالت تطالب إلى اليوم، فالكتلة التاريخية الجزائرية المعاصرة التي نقترحها اليوم للخروج من الأزمة والإنسداد التاريخي الذي هو فكري وثقافي بالدرجة الأولى ليست بديلا عن الأحزاب وليست تجميعا لها كما رأينا ذلك من قبل في مبادرات سابقة مثل الجدار الوطني والتكتل الوطني والجبهة الوطنية وغير ذلك من الشعارات الزائفة القائمة على التوفيق والتلفيق والإنتهازية ولعبة المصالح والولاء والتحالفات السياسية الظرفية القائمة على مشروع شخص أو سلطة سياسية قائمة وليس على مشروع دولة أو مجتمع .

إن الكتلة التاريخية الجزائرية هي إئتلاف فكري وتوافق وطني محكوم برؤية إستراتيجية جديدة وفق أهداف محددة في مرحلة تاريخية معينة تتكون من كل القوى التي لها فعل وحضور في المجتمع وهذا بدون إقصاء أو تهميش، إن الكتلة التاريخية في الجزائر هي حتمية تاريخية إن لم نصل إليها اليوم بوعينا وإرادتنا سنصل إليها في المستقبل بطريقة أخرى مع هدر للوقت والإمكانيات وتضييع الفرص المتاحة في الحاضر، لقد جمع الحراك الشعبي في الجزائر واستطاع أن يجمع كل القوى الفاعلة والمؤثرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كما يقولون وهي ظاهرة سياسية وثقافية ذات طابع صحي بامتياز ولكن يجب على هذا الحراك كفكر حي ومتحرك أن يرتقي إلى مستوى الأهداف الإستراتيجية التي تحقق وحدة المجتمع وتطوره وتطلعاته، إن هذا التقارب الكبير الذي حصل بين الجزائريين كان غائبا في الماضي من خلال سياسة التهميش والإقصاء وغياب الحوار أو بالأحرى تغييبه والذي أدى إلى عدم قدرة الجزائريين على التحاور فيما بينهم لأن الحوار يؤدي إلى التفاهم والتخلص من الرواسب والتمثلات السلبية والأحكام المسبقة التي يرى بها وينظر من خلالها كل طرف الى الطرف الآخر ومن خلال الحوار والتفاهم والتقارب يمكننا أن نصل على مستوى الوعي إلى أهداف مشتركة ورؤية إستراتيجية للمستقل بمشاركة الجميع في إطار ما أسميته بالكتلة التاريخية الجزائرية المعاصرة، ولكي نصل إلى هذا المستوى من النضج السياسي والوعي الفكري لا بد أن نخرج من ذهنية الحقيقة الواحدة وعقلية أن كل طرف يسعى إلى الحكم والهيمنة لا بد أن يقوم على أنقاض الطرف الآخر، فالكتلة التاريخية بما هي كذلك فهي كتلة مفتوحة للجميع، للقومي العروبي والإسلامي والوطني والعلماني والديمقراطي وكل الفاعليات في المجتمع سواء كانت إقتصادية أو إجتماعية أو ثقافية أو دينية لأن هذه الكتلة التاريخية تحمل مشروع دولة وليس مشروع سلطة .

إن ما يجب أن يجمع جميع الجزائريين اليوم في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة هو الرؤية الجماعية للمستقبل وطريقة تجسيدها عمليا خاصة وأن الواقع الجديد قد أفرز عناصر تغييره بعد الإنتخابات الرئاسية الأخيرة، هذا التغيير الذي أحس به جميع الجزائريين وشعروا بصدقه يجب أن نتعامل معه بإيجابية في إطار تحقيق الأهداف وفق منطق الزمن وننخرط في مساره الجديد ما دام أنه يصب في خدمة المجتمع وليس في خدمة فئة أو طبقة أو جهة معينة، هذا من جهة أما من جهة أخرى يجب علينا كجزائريين اليوم أن لا نستغرق كثيرا رغم أهمية ذلك في مناقشة صورتنا في الماضي وكيف أدت بنا إلى هذا الحاضر المرفوض ومن المسؤول عن ذلك ؟ ولكن يجب أن نفكر في صورتنا المستقبلية كمجتمع إستفاد من دروس الماضي وتحديات الحاضر ومنعطفاته ورهاناته ومعطياته الجديدة وليكن المبدأ الأساسي الذي يحكم تفكيرنا : هو أن الإنجازات العظيمة هي التي تنتظرنا في المستقبل، أي التي لم تتحقق بعد وليس التي حققناها في الماضي حتى لا نختبئ دائما وراء الماضي لتبرير عجزنا باسم الشرعية التاريخية تارة والشرعية الثورية تارة أخرى في ممارسة السلطة والحكم وتسيير شؤون المجتمع، وهذا ليس تنكرا للتاريخ أو للأسلاف لأن إنجازات الماضي مكاسب وتراث مشترك للشعب كله وليس ميراثا للبعض يتوارثونه أبا عن جد، فهذه الإنجازات التي تحققت في الماضي ننغرس فيها بوعينا ونستند عليها في الشدائد والأزمات وفي كل عمل مستقبلي لأنه لا حاضر بدون ماضي ولأن الذي يطلق الرصاص على ماضيه فإن المستقبل سوف يطلق عليه مدافعه، هذا المستقبل الذي يجب أن ينخرط فيه الجميع بدون إقصاء، مستقبل يعي ويشعر فيه كل جزائري وجزائرية أنه ينتمي إليه ويشارك في بنائه وهذا هو جوهر والمغزى من الكتلة التاريخية الجزائرية المعاصرة التي أدعو إليها لتجاوز الإنسداد الحاصل في الوعي والسلوك والذي يعرقل كل جهد وعمل صادق لتغيير الواقع .

إن الكتلة التاريخية الجزائرية المعاصرة التي أدعو إليها تقوم على فلسفة الدولة وليس على فلسفة السلطة، على مبدأ المواطنة بمفهومه الحديث و المعاصر والحقيقي وليس على مفهوم الرعايا الذي كانت تمارسه السلطة سابقا بعيدا عن منطق الدولة بحيث كانت تخضعهم لسياسة الرقابة والعقاب والوعد والوعيد، لذلك فإن الجزائر الجديدة اليوم بعد اعتماد وتكريس العقلانية والديمقراطية فإننا في نظري بحاجة إلى إعتماد ثلاثة أنواع من الديمقراطية، الديمقراطية الإجرائية بآلياتها وأدواتها المتعارف عليها والديمقراطية التشاركية، أي المشاركة الحقيقية للمواطن من طرف الدولة في صناعة القرار الذي يتعلق بالشأن العام وبمصلحة الوطن ومستقبله والديمقراطية الدينامية أو المتحركة ذات الطابع الإحتجاجي التساؤلي التي تطرح الأسئلة المستمرة ضد كل الأجوبة الجاهزة وتقف ضد كل إنحراف محتمل بإعتبارها حركة فكرية مستمرة غير قابلة للتدجين أو المساومة، وبتعبير آخر فإن الديمقراطية الدينامية تعتبر بمثابة الإستمرارية للحراك كنظام لليقظة والوعي والذي يجب أن يستمر في الوعي والسلوك لأن الحراك لا معنى له إذا لم يغير من سلوكياتنا الفردية والجماعية وإذا لم يعطي للمجتمع آمالا كبرى، آمال الكتلة التاريخية الجزائرية المعاصرة التي هي إحدى الأهداف الكبرى للحراك إن لم تكن الهدف الأساسي والأسمى وهذا من اجل غاية كبرى وهو تحقيق النهضة الوطنية الشاملة بمشاركة الجميع ومباركة الجميع، إنه مشروع كبير ويستحق منا كل جهد.

 

الدكتور قادة جليد أستاذ جامعي وكاتب من الجزائر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم