صحيفة المثقف

قوة الدولة الناعمة ..

نبيل احمد الاميركثير ما يتردد مفهوم القوة الناعمة في العلاقات الدولية، وقد اكتسب هذا المفهوم رواجاً كبيراً في البحوث العلمية أو في سياقات الدبلوماسية الدولية أو الخطاب العام .

ما هو هذا المفهوم وما هي آثاره على العلاقات بين الأمم؟

بالنسبة للمفهوم فإن جوزف ناي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد ومؤلف هذا المفهوم، يقول إن القوة الناعمة هي القدرة على جعل الناس أو الدول ترغب فيما أنت راغب فيه، وأن لا تستخدم القسرية أو الإغراء لجعلهم يتبعوك، أي أن القوة الناعمة هي القدرة على الاعتماد على قوة الجذب والإقناع بدلا من إجبار الدول على اتباع سياسات معينة.

إن أهم وسيلة لتحقيق أهداف الطرف الأول عبر سبيل القوة الناعمة هي بتشكيل أولويات وأفضليات الطرف الأخر بحيث تتماهى رغباته مع رغبات الطرف الأول، ويتحقق ذلك بسبب ما يمثله هذا الطرف من نجاح أو ما يمثله من نموذج يحتذى به .. وإذا كانت مصادر القوة الصلبة هي القوة العسكرية أو القوة الاقتصادية أو الإعلامية، فما هي مصادر القوة الناعمة.

هناك مصادر متعددة لهذه القوة، المصدر الأول لقوة الدولة الناعمة هي ثقافتها ومورثها الحضاري، فكلما كان هذا العامل جاذباً للاهتمام سواء كان في تقاليده الشعبية أو ثقافته العليا كالأدب والشعر كلما زاد قوة الدولة الناعمة.

المصدر الآخر هو جاذبية المؤسسات والسياسات التي تتبعها وقيمها بشكل عام، شرعية سياستها الخارجية تضفي قوة ناعمة للدولة، الأداء العالي لأية دولة سواء كان ذلك في المجال الاقتصادي أو التكنولوجي يعزز من قوتها الناعمة.

هناك خلط كبير بين مفهوم القوة الناعمة والوسائل الأخرى والتي لا تقل عنها أهمية، ويحسب كثير من المحللين أن القوة غير المهلكة أو القاتلة هي قوة ناعمة، فعلى سبيل المثال يرى البعض أن القوة الإعلامية أو المعلوماتية هي قوة ناعمة تؤثر على سياسات الخصم، ولكن الإعلام قد يكون قوة قسر في حالات الشائعات المغرضة أو الدعاية المقوضة.

وقد المح مؤلف مصطلح القوة الناعمة «ناي» إلى شيوع استخدام المصطلح دونما مراعاة للفهم الحقيقي له، وفي الاستخدام العام لمفهوم القوة الناعمة يرى (ناي) إن كثيرًا من الدارسين يطلقون على كافة الوسائل غير العسكرية بالقوة الناعمة، وأن القوة الناعمة هي البديل الأخلاقي للقوة الصلبة.

ولكن الواقع أن كثيراً من الحركات الإرهابية مثلاً تستخدم قوتها الناعمة لجذب المجندين لصفوفها، فداعِش، على سبيل المثال، تستغل القوة الناعمة لمفاهيم معينة مثل الجهاد للتأثير على الشباب للانضمام إلى صفوفها، وهكذا يمكن استخدام القوة الناعمة لأغراض غير أخلاقية فهي ليست خياراً كما يقول البروفيسور (ناي) «بين الواقعية والمثالية ولكن ببساطة نوعاً آخر من القوة يمكن استخدامها لتحقيق النتائج المرجوة».

وتسعى الدول إلى تعزيز قوتها الناعمة من خلال تقوية مشارب هذه القوة وإبرازها. فبرغم التقدم التكنولوجي الهائل لدول مثل الصين وغناء تراثها الثقافي والحضاري، إلا أن قوتها الناعمة متأخرة على كثير من الدول الغربية، ويقال إن الصين تستثمر مليارات الدولارات لتحسين قوتها الناعمة مثل إنشاء معاهد للثقافة (الكنفوشية)، واستقدام طلبة للدراسة في الصين، ولكن كل هذه النشاطات لم تزد من هذه القوة الناعمة.

فالسمعة الصينية جيدة في كثير من البلدان الأفريقية واللاتينية، ولكن النظرة في أوروبا وأميركا غير إيجابية، والسبب يعود إلى الانطباع السائد عن الاستبداد في الصين وانعدام حرية الصحافة وغياب الوصول إلى المعلومات وانعدام الحريات العامة.

لقد حاول باحثون إيجاد معايير لقياس القوة الناعمة للدول ووضع قائمة لهذه الدول، فالمعيار الأول يتمثل في الحكومة ومؤسساتها وسياساتها العامة، فكلما كانت الحكومة مؤثرة في سياساتها وتستطيع الوصول لأهدافها فإن معدل الجاذبية تتزايد وبالتالي قوتها الناعمة، أما المؤشر الثاني يتعلق بثقافة المجتمع ومدى عالمية هذه الثقافة سواء كانت تتعلق بالأدب الرفيع أو الثقافة الشعبية ومنتوجها من الفنون.

هناك مؤشرات أخرى مثل التعليم الذي يجتذب طلبة أجانب إلى البلد وبذلك يسهم في تعزيز القوة الناعمة .. كما أن مدى جاذبية النموذج الاقتصادي للأقطار مؤشر مهم في تحديد مستوى هذه القوة .. والابتكار التكنولوجي يدخل من ضمن هذه المؤشرات ومدى ارتباط الدولة مع الشبكة العنكبوتية .. وأخيرا مدى ترابط الدول مع بعضها ونشاطها الدبلوماسي على الساحة الدولية.

المهم البصمة التي يتركها هذا النشاط في العالم فهو عامل في تعزيز القوة الناعمة.

والله الموفق والمستعان .

 

بقلم / د. نبيل أحمد الأمير

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم